كـــن كابن آدم - jawdat said · web viewكن كابن آدم المحتوى...

292
دم آ ن ب كا ن ك وى ت ح م ل آ وع ض و م ل آ حة ف ص ل آ وى ت ح م ل آ دمة ق م ل آ# ي ن عا م ل آ ة غ ول روف ح ل آ ة غ د: ل# ي ه م ت دوآه اه وج ي ع م اب ي ك ل د آ ق ف# ي ى مت# ي ن عا م ل وآ ة غ ول روف ح ل آ ة غ ل صارعة ت م ل آ رق لف دم وآ آ ن ب آ خ# ي ار ي ل وآ ن رآ لف آK ر كب ل وآ سان نQ آلإ ة رف مع ل وآ طة سل ل ول: آZ آلإ ل ص ف ل آ سة سZ و م لاص وآ ص ت خ آلإ ل م ع ل م وآ عل ل آ ارب ج ت ل آg ظ ف ح و ة غ ل ل آ ة رف مع ل آ# ى ه طة سل ل ل آ ه ور عn ش لإ لر وآ و عn ش ل وء آ ض# ى ف ة رف مع ل وآ طة سل ل آ م عل ل آ وه ق سد و ح ل آ وه ف ي ها ت ق لإ ع و طة سل ل آ اء# يy ب نZ رحة آلإ ط# ي ما كK ر# ب ي ع ت ل وم آ ه ف م

Upload: others

Post on 14-Feb-2020

0 views

Category:

Documents


0 download

TRANSCRIPT

Page 1: كـــن كابن آدم - Jawdat Said · Web viewكن كابن آدم المحتوى الموضوع الصفحة المحتوى المقدمة تمهيد: لغة الحروف ولغة

كن كابن آدمالمحتوى

الصفحةالموضوعالمحتوىالمقدمة

تمهيد: لغة الحروف ولغة المعانيمتى يفقد الكتاب معناه وجدواه

لغة الحروف ولغة والمعانيابن آدم والفرق المتصارعة

القرآن والتاريخاإلنسان والكبر

الفصل األول: السلطة والمعرفةاالختصاص والمؤسسة

العلم والعملاللغة وحفظ التجارب

هل السلطة هي المعرفة السلطة والمعرفة في ضوء الشعور

والالشعور السلطة وعالقتها بقوة الجسد وقوة

العلم مفهوم التغيير كما يطرحه األنبياء

النزاع الفكري والنزاع الجسديرحلة االرتقاء اإلنساني

األنبياء وحرية الفكرالشعور باألمن والثقة باألفكارإبراهيم وسقوط مرجعية اآلباء

العدل وفصل معترك األفكار عنمعترك األجسادال إكراه في الدين()اإلسالم و

ال طاعة في معصيةاإللهي السماوي والسفلي األرضي

اليمان والظلماإليمان ومذهب ابن آدم األول

الفصل الثاني: الخوف من المعرفة(كن كابن آدمبدايات التفكير بـ )

ابن آدم ومشكلة الفسادأثر المناخ الثقافي في آلية التفكير

أمراض الجسد وأمراض الفكروالنفس

بل أنتم بشرالمسلمون وعبر التاريخ

اإلله وتصوراتنا عنه

Page 2: كـــن كابن آدم - Jawdat Said · Web viewكن كابن آدم المحتوى الموضوع الصفحة المحتوى المقدمة تمهيد: لغة الحروف ولغة

الواقع وما باألنفسمرجعية العواقب

العدمية في الفلسفة الحديثةدراسة التاريخ في المدة الطويلة

ثم جعلنا الشمس عليه دليالالواقع والصور الذهنية

بناء الحياة الراشدةالخوف من المعرفة

الخروج من لعبة القاهر والمقهورال إكراه في الدين()القرآن و

ميزان الزبد والنافعال إكراه في الدين()التوحيد و

ميزان العواقببين الرشد والغي

ال إكراه في الدين()الجهاد و عواقب التباس الرشد بالغي

تعميم مبدأ الالإكراهالعالم وعقيدة التشاؤم

الفصل الثالث: قراءتان للقرآنفعل الله وفعل اإلنسان

االرتباط الوثيق بين القراءتين موقف القرآن من الذي ينسبون

أخطاؤهم إلى اللهتوينبي ونظام سير الحضارة

استثمار طاقات األطفالأثر المعرفة التاريخية في اإلنسان احتفال القرآن بالمواقف التاريخية

الصحيحةبين النظر واالنتظار

التاريخ وفرز الحق من الباطلالقرآن والتاريخ

المسلمون والتاريخالتاريخ والحجة اإلبراهيمية

المقدس والنافعالعواقب المعجلة والعواقب المؤجلة

الدخول إلى معبد التاريخمذهب بالل ومذهب ابن آدم

بالل وتغيير ما باألنفساليأس والكفر

الجنون والسحر والرحمة والعذاباألنبياء والرحمة

من دالالت حرب الخليج

Page 3: كـــن كابن آدم - Jawdat Said · Web viewكن كابن آدم المحتوى الموضوع الصفحة المحتوى المقدمة تمهيد: لغة الحروف ولغة

القراءتان وصرف اإلنسان عن اآلياتأمراض الفكر وجراثيمه

الفصل الرابع: الغيرية والجنوناألعظم

النتائج المعجلة والنتائج المؤجلةفوكو والتاريخ

قانون الخير واألبقىالعدل والمساواة في القانونالخير اللحظي والخير األدوم

المعرفة التاريخية والتطعيم ضدالفساد

خفاء العواقب المؤجلة أو إخفاؤهابين اآلباء واألبناء

بل تحبون العاجلة وتذرون اآلخرةأبو ذر في التاريخ

مشكلة الفهمالدليل الذهني والدليل الواقعي

فهمنا الخاطئ للرسولدالالت العذاب ونتائجه

النقد الذاتي والمراجعةتغييب معاني قصة ابن آدم

البشرية بين الجمود والتغييرالنسبية في الحياة اإلنسانية

نحو كتابة التاريخ اإلنسانيتساؤالت في موضوع الرشد

الطفل وطرح األسئلةالخلق الجسدي والخلق الفكريالتكبر واالنصراف عن آيات اللهتغيير الحكومات وتغيير األفكار

الكبر والتغييرتحسين أسلوب الخطاب

األنبياء وتسريع عملية التغييرالفصل الخامس: اإلنسان والتاريخ

فوكو ونيتشه ومرجعية التاريخاإلنسان والتغيير

اإلعدام الجسدي واإلعدام الفكريوالجنون

مشكلة اللغةاللغة والعواقب

اإلنسان ومشكلة اللغةالحق والباطل والعواقب

المجتمعات والتمركز حول الذات

Page 4: كـــن كابن آدم - Jawdat Said · Web viewكن كابن آدم المحتوى الموضوع الصفحة المحتوى المقدمة تمهيد: لغة الحروف ولغة

جدلية العالقة بين االستكبارواالستضعاف

المسلمون وصناعة السالمالرشد وهدف الوجود

اإلنسان وقانون التضادلنفس اإلنسانية بين الفجور والتقوى

األنبياء وحرمة النفس اإلنسانيةبناء الرشد بالرشد

الفصل السادس: في دالالت آيةالوحدة األوروبية

التاريخ يزيل االلتباسالتأمل في اآليات التاريخية

تقبل الحسنات ورفض السيئاتالغفلة والعذاب األليم

التراث األوربي والسوق المشتركةالسعي الدؤوب لتحقيق الهدف

الفجر الجديد وكلمة السواءتوجيه الطاقات واستثمارها

اإلنسان بين التزكية والتدسيةالسوق األوربية والرشد

العلم قبل المالاإلنسان والتسخيرالتاريخ والمستقبل

اليأس والكفر مشكلة العالقة بين اإلنسان وأخيه

اإلنسانالسوق األوربية وكلمة السواءكيف بدأ خلق الوحدة األوربية

الوحدة األوربية والتصوفالتخلص من اإلكراه باتجاهيه

االتحاد السوفيتي واإلكراهالصينيون بين اإلكراه والرشد

القراءتان التاريخية والماورائية للقرآن نموذج القراءة التاريخية: )قصة قوم

يونس(الغرب والعبثية

غائية الوجودالقرآن والشك

نهاية الحلول البطوليةالشك بين الوسائل والغايات

سبيل االتحاد األوربي وسبيل االتحادالسوفيتي

Page 5: كـــن كابن آدم - Jawdat Said · Web viewكن كابن آدم المحتوى الموضوع الصفحة المحتوى المقدمة تمهيد: لغة الحروف ولغة

أوربة والعذاب األليم الفصل السابع: مذهب الرشد، مذهب

ابن آدم واألنبياءالحضارات وتحدي الكدح اإلنساني

األنبياء وحركة الكدح اإلنسانيتطهير القلب واليد واللسان

الزيغ وااللتباسالكفر الدنيوي والكفر األخرويالدكتور البوطي وكتاب الجهاد

قوم يونس وتفادي العذابمسيرة التقدم التاريخي

اإلنسان وأمانة التاريخميزان الحق والباطل

القتل والتهجيرابن آدم واليد البيضاء

سبيل الرشد في مذهب ابن آدممذهب ابن آدم والتخلص من االلتباسالمسلمون ومحاولة صنع الرشد بالغيطريق الحق وطريق ابن آدم واألنبياء

سبيل الرشد وسبيل الديمقراطيةموقف ابن آدم موقف ال لبس فيه

مراتب العملالمشكلة اإلسالمية والتحدي الفكري

الحق والباطل في القرآن وفيتصوراتنا

والقوة الفكريةالنبي التباس الرشد بالغي

الوضوح والنقاء في مذهب ابن آدماألنبياء والصبر على األذى

اإلسالم وإلغاء النصرة الجاهليةالوحدة األوربية والفكر العالمي

األمم المتحدة والعشائريةاألطفال واكتساب المفاهيم

اإلنسان وعلم التغيير المساواة والقضاء على الظلم

والفسادمن تأييد الظلم إلى الوقوف بوجهه

نحو العدل والمساواة القرآن ينقل مصدر المعرفة إلى

التاريخالمقدمة

Page 6: كـــن كابن آدم - Jawdat Said · Web viewكن كابن آدم المحتوى الموضوع الصفحة المحتوى المقدمة تمهيد: لغة الحروف ولغة

الحمد لله، وسالم على عباده الذي اصطفى، واآلمرين بالقسط من الناس. هذه الصفحات مقدمة ومدخل إلى مشكلة اإلنسان، مشكلة أبناء آدم. وقد قص

}سلوب }سلوبيهما في حل المشكالت: موقف وأ الله علينا نبأ ابني آدم في موقفيهما وأ من يحل المشكلة ويعالج المرض بالقتل، وموقف وأسلوب من ال يقبل أن يكون حل

المشكالت وعالج األمراض بالقتل، ويمتنع عن الدخول إلى هذا األسلوب في حلالمشكالت.

ولقد اقتربت البشرية من إمكانية تفهم نبأ ابني آدم، ذلك النبأ العظيم الذي طالما}سلوب االمتناع عن الدخول في العنف أعرض عنه الناس، فاعتبروا حل المشكالت بأ

جنونا وتراجعا، ولم يكونوا يدركون أن هذا الموقف هو الحل الذي يتصف بالخير}سلوب االقتصادي، وأنه التطور والخروج من مرحلة شريعة ما قبل واألبقى، وأنه األ

اإلنسان، شريعة الغاب. نعم لقد وصلت البشرية، وصل أبناء آدم في تطورهم التقني وعبر تجاربهم

التاريخية إلى أن حل المشكالت بالعنف حل انتحاري. وصلوا إلى الطريق المسدود، ولم يبق إال أن يكتشفوا الوسائل األخرى لحل المشكالت، وفي هذا الحق خصصت كل جهودي المتواضعة، وأنا ال أشك، وال أتردد في القول، إن البحوث التي ستكتب في هذا

الموضوع ستكون أفضل من كتابي هذا، وليس لي من فضل إال أنني صدمت عقولالكثيرين بطرحي لشيء لم يسمعوا به.

وإذا لم تنفع الكلمات في إخراج اإلنسان من العنف فستخرجه نتائج وعواقبالكلمات، وقد آن لنا أن نتعلم!!..

إن الذي يمنع العرب والمسلمين من تفهم هذا الموضوع هو مشكلة )إسرائيل(، فهم ال يرون لها حال إال العنف، ولكن الساسة - في وضعهم المأساوي - أدركوا أن

}حل بالعنف، وهذا هو الذي ألجأهم إلى السالم مع إسرائيل!!! مشكلتها ال ت أيها العرب! أيها المسلمون! أريد أن أدلكم على أسلوب يحل المشكلة اإلسرائيلية

واإلمبريالية. المشكلة ليست في )إسرائيل( وال في اإلمبريالية، المشكلة في األمراض التي

نحملها، وقد ورثناها عن آباءنا الذين فقدوا الرشد والرشاد منذ زمن طويل. لقد علمنا الرحمن أن المشكلة من عندنا، وليست من عند أعدائنا، وال من عند

}م( )الشيطان فقال: ، وهو تعالى ينقل] 3/165 آل عمران: [ق}ل ه}و من عند أنف}سك}م لي فال)عن الشيطان قوله: }م فاستجبت }ك لطان إال أن دعوت }م من س} وما كان لي عليك

}م( }وم}وا أنف}سك }وم}وني ول }مور صدقت هذا] 14/22 إبراهيم: [تل ، والتاريخ وعواقب األ التحليل، ومن كان ال يزال يشك في هذا فليتذكر حرب الخليج الثانية، لقد نسينا

إسرائيل حين تحركت األمراض التي بيننا، ودعونا أعداءنا اإلمبرياليين والعالم جميعاليخلصونا من عدونا الداخلي.

وا( )الله تعالى يقول لنا: إلى الماضي، وإذا لم تكف أحداث] 6/11 األنعام: [انظ}ر}وا()الماضي فـ ، إذا لم يكف الماضي، فإن ما سيأتي] 11/122 هود [ انتظر}

سيحملكم على االقتناع:}م رج}ل رشيد( ) ، أليس فيكم من يفكر في السالم فيما] 21/78 هود: [أليس منك

بيننا؟ في أن نحل مشكالت العرب والمسلمين بالسالم!!.. إننا نبكي ونصرخ أمام العالم ونقول: )إسرائيل( ال تقبل السالم. وأنا أقول لكم:

اصنعوا السالم بينكم، وسترون كيف أن العالم سيحترمكم، وسيخطب ودكم، وسترونكيف أن أمريكا ستتخلى عن )إسرائيل(، وستتواصل معنا أوربة، وستقدرنا الصين.

Page 7: كـــن كابن آدم - Jawdat Said · Web viewكن كابن آدم المحتوى الموضوع الصفحة المحتوى المقدمة تمهيد: لغة الحروف ولغة

حين نقيم السالم بيننا ستتخلى أمريكا عن )إسرائيل( كما تخلت من قبل عن )رموزا(، وكما تتخلى بريطانية اآلن عن )هونغ كونغ(، ولن يستطيع اإلسرائيليون

المكوث والعيش في فلسطين بمجرد أن نقول نحن: ال، ال نقبل وجودكم، ولكننا النزال عاجزين عن فهم هذه اآليات.

هذا هو العالم الجديد، لقد خلق الله اإلنسان، ولم يجعل ألحد قردة على إذالله إالإذا رضي اإلنسان بذلك.متى سنتعلم ونرى؟

إن الذي ال يتعلم األبصار بواسطة األحداث والتاريخ ؛ فسيتعلم األبصار باآلالمواألثمان التي سيدفعها جزاء له على إغالق سمعه وبصره.

}ذنان فليسمع! ومن كانت له عينان فليبصر! ن من آية في)أال من كانت له أ وكأيون عليها وه}م عنها م}عرض}ون( ماوات واألرض يم}ر .] 12/105 يوسف: [الس

فلنتكلم عن السالم فيما بيننا! كيف يمكن أن يتحقق هذا السالم من دون أن يخسر منا شيئا، وال أرضا وال زعامة؟ بل يكسب الجميع ويربح الجميع ويحترمهم

العالم، وتفرح الشعوب أيضا.أين المثقف القادر على أن يفتح فمه ليتكلم بهذا؟

}كم ع}مي( )إنهم }حس منه}م من أحد أو تسمع} له}م)، ] 2/18 البقرة: [ص}م ب هل ت ، وسبب سكوتنا أننا ال نزال نحن إلى بطل يوحدنا بالعنف، ولن] 19/98 مريم: [ركزا(

نستطيع أن نتكلم إال حين يخرج من قلوبنا هذا الحنين.ه فال)نعم إننا ال نسمع وال نحس، ولكن النهار قادم، ملكوت الله قادم: أتى أمر} الل

}وه}( }ريد}ون)، والعالم يتململ، ووعد الله البد أن يتحقق: ] 16/1 النحل: [ تستعجل ي}وره( ه} م}تم ن ه بأفواههم والل }ور الل }وا ن }طفئ ، على الرغم من الذين ال] 61/8 الصف: [لي

يبصرون، وإننا على بينة ويقين من ذلك، ال على أساس الغيب، بل على أساسالشهادة، وليس في السماء فقط بل وفي األرض أيضا.

جودت سعيد6/11/1996بئر عجم

تمهيدلغة الحروف ولغة المعاني

.(2) أو « كن كخير ابني آدم «(1) «كن كابن آدم» ما هذا الكالم، وما معناه؟ ومن الذي تكلم به ومتى ؟ ولمن وألي زمان كان هذا

الكالم موجها؟! ؟ فإذا كان الذي قال هذا الكالم هو رسولهل حقا أن هذا الكالم قاله رسول الله

الله، فلماذا كان هذا الكالم موضع استهزاء وسخرية؟ ويقول لي قائل أمام المأل، منكرا هذا الكالم: أنا أريد أن أدخل الجنة شاهرا سفي،

مرفوع الرأس، ال مطأطئ الرأس مستسلما كابن آدم. والكالم الذي من هذا النوعكثير وكثير جدا. ؛ فلماذا هذا الكالم منبوذ « كالما قاله الرسول كن كابن آدمإذا كان »

ومستهجن إلى هذه الدرجة، وبهذا الشكل من اإلجماع؟ ثم ما معنى اإلجماع، وكيفيتكون؟

( وأبو داود في الفتن ،2195 رواه الترمذي في الفتن ، باب : ما جاء أنه تكون فتنة القاعد فيها خير من القائم ، رقم )(1) ( وهو حديث صحيح .4259باب : النهي عن السعي في الفتنة ، رقم )

( وإسناده صحيح .4259 رواه أبو داود في الفتن ، باب في النهي عن السعي في الفتنة ، رقم ) (2)

Page 8: كـــن كابن آدم - Jawdat Said · Web viewكن كابن آدم المحتوى الموضوع الصفحة المحتوى المقدمة تمهيد: لغة الحروف ولغة

لماذا لم يذكر المسلمون هذا الحديث، ولم يستشهدوا به في شروحاتهم؟ بل لماذايكتبوا حوله كتابا خاصا ما كتبوا حول أحاديث أو آيات معينة؟

لم هجر المسلمون هذا الحديث إلى درجة أن أحدا لم يستشهد به في كتاب قديم}ستشهد بهأو حديث، إال أن يكون من الكتب التي تحصي أقوال الرسول ؟ أما أن ي

كأمر، واألمر يقتضي الوجوب، كما يقول علماء األصول ؛ فال، ثم ما مقدار جدوى قواعد علم أصول الفقه، وما جدوى قواعد علم مصطلح الحديث التي تثبت أن حديثا

نناما قد قاله الرسول }مك ؟ وما هي القواعد واألصول واألعمال والممارسات التي ت من رفض ما قاله الله ورسوله، وتجاهل ما قااله وأكداه؟ وما جدوى أن يكون القول

موجودا في القرآن أو في كتب الحديث؟متى يفقد الكتاب معناه وجدواه؟

ليس إثبات أن هذا الكالم موجودا في القرآن أو كتب الصحاح هو الجهد الذي ينبغي أن يبذل اآلن، بل ما ينبغي أن تبذل الجهود فيه هو اكتشاف )علم جديد( يبين

كيف يفقد الكتاب والكالم قيمتهما، بل تفقد الفكرة معناها وجدواها، وكيف يضل سعيالناس في الحياة الدنيا وهم يحسبون انهم يحسنون صنعا.

هذا علم جديد، ال ليس جديدا! إنه شيء قديم جدا، ولكن كيف نستطيع أن نحول هذا القديم إلى علم واضح. كيف يمكن أن تذهب أدراج الرياح جهود} كل الذين يسعون

بك إمكاناتهم، ويستحضرون كل أسلحتهم ؛ ليثبتوا صحة حديث أو فكرة أو مفهوممعين؟

إن هناك تغيرات تحدث في النفوس، وعمليات تحدث لألفكار، ال يبقى معها أي قيمة للكتاب والحديث. وتجارب األقدمين والخسائر الحديثة، كل هذه األمور تفقد

قيمتها إزاء أوضاع معينة، في بيئة أو مناخ معين. وبعبارة أخرى أقول: متى يفقد الكتاب ؛ القرآن بالذات، االنتفاع به ومنه؟! ما هو

التغير الذي يجرف كالم الله، وكالم الرسول، وحكمة الحكماء، ويأتي كقوة ضاغطة}حس به؟ }رى، ودون أن ي متحكمة بكل المقدسات؟.. كيف يتسلل هذا الوباء دون أن ي

ليلوي األعناق، وليغلق القلوب واألفئدة، وليضع الغشاوات على األعين واألوقار فياآلذان، وليسد جميع المنافذ.

كنت قد ذكرت قصة تدل على شيء من هذه المعاني في مقدمة كتاب )أيها المحلفون! الله ال الملك(، وتمنيت أن يتوافر الدارسون لالنتباه إلى هذا الجانب من

}لغي فيه الله الرسول والفكر والفهم المشكلة في مستواه األبعد، وفي المحيط الذي ي.] 18/57 الكهف: [وإن تدع}ه}م إلى اله}دى فلن يهتد}وا إذا أبدا( )واإلدراك:

كثيرا ما أذكر قول الرسول في الكيفية التي يفقد الناس فيها االنتفاع بالكتاب، بالتاريخ دليال على ذلك، ولكن كيف يصل اإلنسان إلى درجة ال يجد فيهاواستشهاده

سبيال إال أن يقذف بنفسه إلى العذاب، وحقا ليس غير العذاب موقظا ألمثال هؤالء ؛عذاب الله، وعذاب البأس الذي يذيقه بعضهم لبعض.

شيئا فقال: » وذلك عند ذهاب العلم «،عن زياد بن لبيد أنه قال: ذكر النبي قلت: يا رسول الله! وكيف يذهب العلم ونحن نقرأ القرآن ونقرئه أبناءنا، وأبناؤنا

يقرئونه أبناءهم إلى يوم القيامة؟ فقال: » ثكلتك أمك يا زياد / إن كنت ألراك من أفقه رجل بالمدينة، أوليست هذه اليهود والنصارى بأيدهم التوراة واإلنجيل وال ينتفعون مما

.(1)فيهما بشيء «

( وابن ماجة في الفتن ، باب : ذهاب القرآن2655 رواه الترمذي في العلم ، باب : ما جاء في ذهاب العلم ، رقم ) (1) ( واسناده حسن .4048والعلم ، رقم )

Page 9: كـــن كابن آدم - Jawdat Said · Web viewكن كابن آدم المحتوى الموضوع الصفحة المحتوى المقدمة تمهيد: لغة الحروف ولغة

لو اطلعت} على كتاب صيني مكتوب باألحرف الصينية ؛ لم أكن ألفهم حرفا واحدا مما فيه، وإلى اآلن لم أعالف، ولم أستوضح كيف أن اللغة الصينية أو حروفها يمكن للذين ال يعرفون لغة بعضهم أن يقرؤوها، وكيف أن الحروف واحدة، والمعنى الذي

يفهمونه واحد، ولكنهم ال يتكلمون لغة واحدة! لعل ما يقرب هذا األمر وحدة الحروف العربية والفارسية، وكيف أنه رغم وحدة

الحروف ال يمكن فهم المعنى، وقريب من هذا ما يقال لنا من أن اثنين من الصينيين، رغم أنهما ال يعرفان لغة بعضهما ويقرآن الرموز بلغتين مختلفتين، ولكنهما يفهمان من

الكلمة أو الحرف معنى واحدا، فمثال صورة السرير تدل على مكان النوم، وإن كان اسم السرير مختلفا لدى كل واحد منهم، ولكن هذا الرمز يدل على السرير بجميع

اللغات.هذا نموذج سبق لتقريب المعنى، فماذا أريد أن أقول؟!!

لغة الحروف ولغة المعاني: هل أستطيع أن أقول: إن هناك لغة معان ال تتصل بالحروف والرموز، لغة مفاهيم خارجة عن الكلمات؟ أي أن المفاهيم والمعلومات والعالقات تغدو غير مفهومة وغير

مقبولة وغير معلومة من خالل الكلمات التي سيقت للتعبير عنها، ومثال ذلك أنموقف ابن آدم وعالقته مع أخيه هي من نوع العالقات المفاهيمية المرفوضة.

إذن، هذه العالقة المرفوضة بهذا المستوى غير قابلة للدخول إلى مفاهيمنا، حين جاء إلى قريش لم تكن المشكلة بينه وبينهم مشكلة لغة عربية أووالرسول

فارسية أو رومانيو، بل كان النزاع نزاع مفاهيم عالئقية تصورية للوجود، ما ال يدخل إلى هذه اللغة المفاهيمية ال يمكن القبول به، هنا توجد مرجعية أخرى، مرجعية تتمثل في منظومة من العالئق والمفاهيم تؤدي دورا معينا، وخدمة خاصة للمجتمع، أيا كانت

هذه الخدمة. إن بحث المشكلة بهذا المستوى قد بدأ يدخل إلى الوعي اإلنساني، فهذه

المشكلة قديمة قدم اإلنسان، ولكن الوعي بها درجات، وإن أدنى درجات هذا الوعي هو اإلحساس بهذه الظاهرة، الذي يتمثل في قول اإلنسان العادي: لو ولدت في بلد

كذا ؛ لكنت على دين أهله، أي على منظومتهم المفاهيمية في تفسير مبدأ الكون ومصيره، وطرق النجاة، والمقدسات النصية، والشخصيات المرجعية المتوارثة. هذه

سنة حياة األمم، فحين يقول: لكنت على دينهم، نفهم منه أن من الممكن له أن يفهم}سلوب فهمهم، وأن يرى العالم والقيم والخطأ والصواب بطريقتهم. الوجود بأ

هذا الوعي يتمتع به كل فرد، إال ذلك الذي يكون على درجة معينة من الفلسفةتجعله يلغي هذا المنطلق الذي يدركه كل الناس.

إن االنطالق من مبدأ مفهوم وواقع تحت الوعي والمالحظة مساعد جدا على بناء قاعدة لالنطالق الصحيح، ولكن المتابعة بعد االنطالق قد ال تتيسر، والتاريخ هو الذي

يعلمنا كيف يكون االنطالق صعبا والمتابعة أصعب. أليس علما جديدا أن نكتشف كيف أن الكتاب يفقد أن يكون نافعا، وأن يكون

وسيلة للمعرفة، وكيف انه يتحول بدال عن ذلك إلى أداة لمنع المعرفة؟!! هذا العلم هو أحوج ما نحتاج إليه لنستيقظ من سباتنا، بل من نومنا العميق الذي

لم تساعدنا القرون على التخلص منه. إن العلوم كلها تتكون خالل التاريخ، والعلوم} اإلنسانية الزالت حديثة العهد،

والمسلمون إلى اآلن يشكون فيها، وكل علم حين يبدأ، يبدأ منكرا، حتى علم الفلك بدأ منكرا. والمسلمون، وإن كانوا أرحب صدرا في تفهم العلوم المادية، إال انهم يخافون خوفا شديدا وحساسا ودقيقا من العلوم اإلنسانية، خشية أن يظهر أن تصوراتنا عن

Page 10: كـــن كابن آدم - Jawdat Said · Web viewكن كابن آدم المحتوى الموضوع الصفحة المحتوى المقدمة تمهيد: لغة الحروف ولغة

اإلنسان التي أعطيناها القداسة اإللهية ليست صحيحة، فيظهر لنا أن تصوراتنا عن اإلنسان التي أعطيناها القداسة اإللهية ليست صحيحة، فيظهر لنا أن هذه التصورات التي بنيناها وجعلنا لها صفة القداسة اإللهية خاطئة، ألننا نظن انه إذا ظهر خطأ فإن

الذي ظهر خطؤه هو المقدس، هو الله، ال أن أهواءنا المدنسة هي التي ظهر خطؤها! لهذا البد من إقامة العلم المتصل باإلنسان، ومعرفة الكيفية التي يصنع بها اإلنسان والمجتمع شرنقة يحبس نفسه فيها، وينسب لهذه الشرنقة كل الحماية والقداسة، إلى

درجة انه يدافع عن شرنقته حتى الموت. من هنا نستطيع أن نفهم كيف أن المنظومة الني لملمها المسلمون بعد أن فقدوا

« وليس فيها حديث ذهاب العلم، بحيث جهلنا إمكانكن كابن آدمالرشد ليس فيها » ذهاب العلم ؛ بدليل اعتراض المعترض، وقوله: كيف يذهب العلم ونحن نقرأ القرآن،

ونحفظ كلماته، ونميز محكمة ومتشابهة، وعندنا مفسرون كبار، وال يمكن أن نكونمثل اليهود والنصارى فغي إمكانية الضالل.

لقد وصل بنا األمر إلى أننا أخرجنا التوراة واإلنجيل، من أن يكون فيهما شيء ينتفع به، وإلى اآلن كل الذين يبحثون فيهما، يبحثون عما يمكن أن يكون فيهما من

التحريف والتبديل والتغيير والخطاء، ولم نتوجه بعد لنرى ماذا فيهما من النور والهدى واألمور التي يمكن أن تكون نافعة. فهل يمكن أو ال يمكن أن نرى في التوراة واإلنجيل

ذين أسلم}وا)ما قاله الله عنهما: ون ال بي }م} بها الن }ور يحك وراة فيها ه}دى ون ا أنزلنا الت إنهداء( }وا عليه ش} ه وكان }حفظ}وا من كتاب الل ون واألحبار} بما است اني ب ذين هاد}وا والر [لل

وقفينا على آثارهم بعيسى ابن مريم م}صدقا لما بين يديه من)، ] 5/44المائدة: وراة وه}دى وموعظة }ور وم}صدقا لما بين يديه من الت وراة وآتيناه} اإلنجيل فيه ه}دى ون الت

قين( ؟ ولكن في منظومتنا التي صنعناها نبذنا كل ذلك وراءنا] 5/46 المائدة: [للم}ت بسهولة مدهشة، وقلنا: أولئك ضلوا ألنهم غيروا كتبهم، ولم يعد فيها هدى ونور، أما

نحن فعلى المحجة البيضاء التي حفظها الله تعالى!!!.. إن محاولة اإلصالح انطالقا من النصوص فليلة الجدوى، والبد من صناعة منظومة

مفاهيمية جديدة تمكننا من االنتفاع بالكتاب، وتبصرنا بالشيء الذي حدث حتى ف}قد ، وانذر بأن حدوثهاالنتفاع من التوراة واإلنجيل، والشيء الذي خاف منه الرسول

للمسلمين سيجعلهم ال ينتفعون بالكتاب الذي بين أيديهم. هل يمكن عند هذه النقطة أن ننتبه إلى وجود حالة يفقد الناس فيها االستفادة من

الكتاب، لنبحث بعد ذلك عن الكيفية التي تمكننا من حصر هذه الحالة وعزلها وتحديدها، ومعرفة العوامل التي تؤدي إلى تكوينها وترسيخها، والظروف التي تضطر أهلها للمراجعة والتصحيح، وكم من الزمن يحتاج هذا، ال بل كم من العذابات المؤلمة

التي يبذلها أهل هذه الحالة لنفسهم فيما بينهم، وفيما بينهم وبين غيرهم، حتىيضطروا للوصول إلى المراجعة التصحيح.

ابن آدم والفرق المتصارعة: علينا أن نعرف كيف يذيق أهل المذاهب بعضهم لبعض العذاب، وكيف يتداولون

التعذيب والقتل فيما بينهم، وكيف يذيق أهل األديان بعضهم لبعض العذاب والقتل والتشريد من الديار ومطاردة األفكار، وكيف أن البشر يعيشون في الحروب الساخنة،

وإذا أوقفوا الحروب الساخنة استبدلوا بها بحروب أخرى مع أطراف أخرى، وخلقوهاعن لم تكن موجودة، لن حياتهم ليس فيها تحد إال للموت الساخن أو البارد.

إن ابن آدم الممتنع عن الدخول في حلبة القتل ليس طرفا في أي من هذهالعالقات المعيبة، ولكن أليس بعد ابن آدم رجل رشيد؟ أليس فيكم رجل رشيد؟

Page 11: كـــن كابن آدم - Jawdat Said · Web viewكن كابن آدم المحتوى الموضوع الصفحة المحتوى المقدمة تمهيد: لغة الحروف ولغة

ال قدرة لنا على تصور حالة غير حالة التنافس في فعل الشر، وليس فينا منيتحدى بفعل الخير ويخرج من التحدي بفعل الشر.

هل يمكن أن اطمح إلى الحصول على المحال، هل يمكن أن نبشر بمجتمع فيهمن هو على مذهب ابن آدم، ومن يخرج من تلك الفرق المتصارعة على اإليذاء؟

هل لي الحق في أن أنتشل من بطون الكتب، ومن مخالفات التاريخ، ومن بقايا «؟!!كن كابن آدمالحروب والصراعات: » خياليا أو حالما أو مهووسا، حين قال لصاحبه سعد بن أبيهل كان رسول الله

وقاص، ولصاحبه أبي ر الغفاري أن يكونا كابن آدم حين تحدث الفتن؟ هل كان مضادا لفطرة الناس، كما يحلو للكثيرين أن يظنوا؟ وذلك حين يقولون

لي: إن موقف ابن آدم مضاد للفطرة البشرية، وكأن الفطرة البشرية من صنعهم هم،أو من خلقهم هم!!

نعم إن مذهب ابن آدم ال يدخل إلى منظومتنا الفكرية التي نظنها دينا، مذهب ابن آدم ليس من هذا الدين، وليس من أحكامه، وأنا لن أجادل كثيرا في هذا الموضوع،ه})ألن النصوص ليست كافية وحدها، والنبي أيضا ليس كافيا، ولعل في قوله تعالى: الل

، إضاءة لهذا المعنى، ال ألن قريشا أو] 6/124 األنعام: [أعلم} حيث} يجعل} رسالته}( العرب كانوا خارجين عن الطبائع البشرية ؛ بل ألنهم كانوا في مرحلة يمكنهم معها

التفاعل مع النص مهما كان هذا النص صعبا، ألن أرضيتهم أو مفهوميتهم لم تكنمغلقة.

إن اإلغالق ال يزال مستمرا، ولكن هذه الحالة صارت قابلة للدراسة والكشف، وهي اآلن في حالة تمهيدية لالنتقال بها لتكون علما مرئيا، وذلك بتعلم التاريخ ورؤية

النماذج العديدة.القرآن والتاريخ:

أريد أن أحيي نموذجا من النماذج التي مرت على البشرية خالل التاريخ، ألنني أرىفيه تجسيدا لمنهج القرآن، والبد من وضعه تحت الضوء.

إن القرآن، ورغم سعته، لم يذكر الوضوء والميراث إال مرتين، ولكن كم مرة ذكر قصص التاريخ، ووقائع القرون الماضية، وسنن الهالك، وعاقبة الذين ال يعتبرون

بالتاريخ، وال يصدقون أن في التاريخ وأحداث القرون عبرة وعظة، وال يتمكنون من فهم أو تصديق أن أحداث التاريخ هي مرجع القرآن، ومرجعنا لنفهم أن أحكام القرآن

صادقة؟ كيف نرجع للتاريخ قيمته المرجعية؟ كيف ألغينا التاريخ؟ وكيف رفعنا أنفسنا فوق

التاريخ وفوق قوانينه وفوق البشر؟اإلنسان والكبر:

إن السكر الكبر واإلدمان المستعصي، الذي يمسك بخناق الناس، ويسد عليهم منافذ الفهم ؛ هو رفعهم ألنفسهم فوق مستواهم البشري، مما يجعلهم يعتقدون انهم ليسوا مثل الناس، وانهم مخلوقات ألخرى، وهذا هو مذهب إبليس، ومن اتخذ سبيل

إبليس، أو ابتلي به ؛ حرم من الهداية والتوبة والتراجع، وصار يتحدى الله واألنبياءه}م( )والبشر، يقول: ن }ضل ه}م) و ] 4/119 النساء: [أل }غوين نن له}م في األرض وأل }زي أل

و] 7/16 األعراف: [ألقع}دن له}م صراطك الم}ستقيم( ) و ] 15/39 الحجر: [أجمعين( قليال( ) ته} إال ي رتني إلى يوم القيامة ألحتنكن ذ}ر . االستكبار] 17/62 اإلسراء: [لئن أخ

هو بضاعة إبليس، وهو أن ترى نفسك وعشيرتك وقومك ومذهبك ودينك فوق الناس، وإنكم أحباء الله وأبناؤه الوحيدون وعياله المفضلون، سواء عملتم الصالحات أم لم تعلموها، وإنكم لقرابتكم لستم بحاجة إلى صالح األعمال، فأنتم المفضلون عند الله

Page 12: كـــن كابن آدم - Jawdat Said · Web viewكن كابن آدم المحتوى الموضوع الصفحة المحتوى المقدمة تمهيد: لغة الحروف ولغة

باالنتساب فقط ولو من دون أعمال، وانه لن يدخل الجنة إال من كان منكم، وان اآلخرين ليسوا على شيء. والكبر هو الذي يجعلك تحتقر اآلخرين وتحتفظ لنفسك باالمتيازات، وترفض أن يطبق عليك القانون الذي يطبق على البشر، هذا الموقف

اإلبليسي ال يجعلك قريبا من الله، بل مطرودا من رحمته وقريبا من عذابه. ما هذا الكبر الخبيث الملوث، الذي مثقال} ذرة منه تمنع اإلنسان من الدخول إلى

، ياله من جرثوم(1)الجنة: » ال يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال حبة من كبر « خبيث يحول اإلنسان المكرم إلى محروم ومطرود من رحمة الله، وفي جملة

عنة إلى يوم الدين( )الصاغرين: ك رجيم. وإن عليك الل ج منها فإن الحجر:[فاخر}15/34-35 [.

تأمل إلى مرض الكبر وجرثوم الكبر الذي ال يجوز ألحد من الخلق أن يدعيه: إن}خرج من رجمة الله مدحورا. الكبرياء رداء ذي الجالل، من حاول أن يتقمصه أ

إن ابن آدم لم يكن متكبرا، لكنه كان كبيرا جدا، لنه رفض الكبر والكبرياء، وال يمكن أن يخطر في بال من كان على مذهبه وعلى موقفه وعلى الخلفية التي كان ينطلق منها أن يتكبر، وال أن ينزل إلى ساحته مثقال ذرة من الكبر، إنه بموقفه هذا

حصن نفسه من الكبر، ومن بلغ هذا المبلغ لن يجد الكبر إلى نفسه سبيال. عن الذي ل يتطهر إلى هذه الدرجة ال يمكن أن يكون جنديا لله، وال عبدا له، ومن كان يطيع هواه أو احدا من العباد في قتل النفس التي حرمها الله ال يمكن أن يدخل في جنود الله الذين يكونون موضع أمانة، بحيث يكون أهال ألن توضع في عنقه أرواح

الناس وحمايتها.الفصل األول

السلطة والمعرفةاالختصاص والمؤسسة:

}مة يدع}ون إلى الخير( ) }م أ }ن منك }ل)، ] 3/104 آل عمران: [ولتك فلوال نفر من ك}وا أهل الذكر( )، ] 9/122 التوبة: [فرقة منه}م طائفة( .] 16/43 النحل: [فاسأل

األمة والفرقة والطائفة وأهل الذكر، كلها ألفاظ تدل على المختصين، ولعل مصطلح أهل الذكر هو األكثر داللة على موضوع االختصاص أو التخصص في المعارف

والمهن النظرية والعلمية. إن وجود التخصصات المعرفية والعملية أمر جوهري في الحياة االجتماعية، ومن

ذلك تقسيم العمل في الحياة اإلنسانية، وتمايز أعضاء الجسم، وانصراف كل منها إلى وظيفته، وكل هذا يعد تخصا. وللمختصين وجودهم الخاص حيث يكونون المؤسسة،

مؤسسة أهل الذكر، وسؤال أهل الذكر هو استشارتهم. المجتمع كالبنيان وكالجسد له أعضاء، وكال عضو في الجسد ذو اختصاص يقوم به في حالة االنفصال واالتصال، انفصال االختصاصات واتصال بعضها ببعض، والخلل في

هذا يؤدي إلى سرطان، وذلك حين ال يعود العضو يعمل ضمن الوصل، بل خارجه. كيف يمكن فهم االختصاصات؟ وأن كل اختصاص يكون مجموعته أو أهل ذكره،

وكيف تكون صلة أهل الذكر هؤالء بالمجتمع ؛ ببقية األعضاء؟لطة؟ وكيف تنفصل وتتصل بالسلطة؟ السلطة ما هي العالقة بين المعرفة والس

الواعية والسلطة الالشعورية ؛ المعرفة الواعية والمعرفة الالشعورية. حين نقول: ما هي العالقة بين المعرفة والسلطة؟ فكأننا نقول: ما هي العالقة بين

أصحاب العلم وأصحاب العمل؟ بين الفكر والسلوك، بين العلم والعمل، بين أهل ( .91 رواه مسلم في االيمان ، باب : تحريم الكبر وبيانه ، رقم ) (1)

Page 13: كـــن كابن آدم - Jawdat Said · Web viewكن كابن آدم المحتوى الموضوع الصفحة المحتوى المقدمة تمهيد: لغة الحروف ولغة

التفكير وأهل التنفيذ. في الحياة العملية أهل الفكر أعلى درجة، وأهل التنفيذ همالمهندسون والعمال المنفذون.

العلم والعمل: البد من العالقة السوية بين الفكر والعمل، ألن العمل إذا انفصل عن الفكر كان

الفساد، والعكس صحيح أيضا، ولكن ما هي العالقة بين اإليمان والعمل الصالح، المجرد العمل؟

كأن المشكلة ترجع إلى العلم والعمل، كيف يمكن أن تكون العالقة سوية بينالعلم والعمل، بين سلطة المعرفة وسلطة العمل؟ أليهما السلطة؟

في البداية العمل هو الذي ينتج المعرفة، وكثيرا ما يكون ذلك بالمصادفة، فترتبط األسباب بالنتائج فيخلق العمل الصالح النافع، ويربط اإلنسان العمل النافع بأسبابه

فيحدث العلم وتحدث المعرفة. هكذا يكون بدء المعرفة، حيث العمل قبل العلم، والعلم نتيجة العمل، ولكن حين

يتراكم العلم، ويعاد إنتاجه يصبح العلم أوال، ألن الذي ال يعلم األحداث واألعمالالسابقة ونتائجها ؛ يتراجع علمه ويتراجع عمله.

إذن، إذا كان العمل هو األول في البدء، لكن االستمرار والتطور يكون بتبادلالمواقع، حيث تتراكم األعمال، ونحتاج إلى العلم كي ال ننساها فتضيع التجارب.

إن المعرفة األولوية للعمل في بدء الخلق، ولكن األولوية للعلم في إنتاج العمل الصالح، ويمكن إظهار هذا التبادل بين األولويات من خالل العالقة بين االسم

والمسمى، فالمسمى هو األول. في بدء الخلق وفي والدة أشياء واألفكار، ثم تأتى األسماء واأللفاظ، ولكن عند االستمرار في الحياة العملية تأتى األسماء أوال، والطفل

يتعلم األسماء والحروف أوال ثم الكلمات ثم معاني الكلمات. ال انفصال وال استقالل للعلم عن العمل، فالعلم عو عمل متراكم، ولكنه يقدم

كعلم يضم التجارب العملية كي ال تنسى، وكي ال تعاد التجارب غير النافعة.اللغة وحفظ التجارب:

لقد ضاعت التجارب حين لم يكن هناك وسائل لحفظها، ولم يكن الناس يستخدمون الضوء والصوت لحفظ هذه التجارب، ولم يكونوا يستخدمون أي وسيلة لذلك سوى دماغ اإلنسان، واإلنسان ينسى ويخطئ ويموت، ولذلك كانت التجارب

}نسى وتموت، ولكن حين استخدم اإلنسان الكالم، ووضع األسماء اللفظية ثم الكتابية ت صنع ذاكرة غير قابلة للموت، وإن كانت الوسيلتان )الصوت السمعي، والصورة

البصرية( قابلتين للخطأ، ولكنهما في الوقت ذاته قابلتان للتصحيح وإكمال النقص، ومن هنا صار الكالم والكتابة وكل وسائل حفظ الصور الذهنية داخلة في مشكاة

المعرفة، وكل أنواع الخطاب أصبحت محل دراسة في علم اللسانيات وعلم الداللةوالرمز.

كل هذه األمور متصلة بعالم األسماء وتطورها، إلى أن صار العلم منقوال بالصوت والصورة، أي تمكن الناس من االتصال مباشرة بدون واسطة عبر الصوت والصورة ن والصوت والصورة وإن كانا غير حقيقيين إال أنهما قابالن للتصحيح بالنظر إلى العواقب

النافعة.نعود إلى العالقة بين السلطة والمعرفة، بين العلم والعمل، وأيهما كان أوال؟

في البدء كان العمل أوال، ومنه نتج العلم وتراكمت المعرفة، وألنه البد من التعرف على العلوم والمعارف المتراكمة صار العلم أوال، ولكن الزالت األولوية لألعمال حين

نريد أن نكسب علما جديدا، ألن العمل هو مصدر زيادة العلم، ومن هنا كان قولهوا( )تعالى: وا( ) إلى الماضي، و ] 6/11 األنعام: [انظ}ر} 11/122 هود [انتظر}

Page 14: كـــن كابن آدم - Jawdat Said · Web viewكن كابن آدم المحتوى الموضوع الصفحة المحتوى المقدمة تمهيد: لغة الحروف ولغة

المستقبل، ألن علوم المستقبل إنما تثبت وتقبل بعد تطبيقها في الواقع والنظر إلىعواقب هذا التطبيق، وظهور العواقب قد يحتاج إلى زمن طويل.

أشعر أننا قد حددنا جدل وزوجية العالقة بين العلم والعمل، وعرفنا سلطة العلم}ل شيء خلقنا زوجين( )وسلطة العمل: ، ولكن الزوجين] 51/49 الذاريات: [ومن ك

خلقا من نفس واحدة، من العمل خلق العلم، والعلم بتراكمه حاز المرتبة األولى، ألن معرفة األعمال السابقة هي التي سميت علما، أما معرفة المستقبل الذي لم يتحقق

بعد ولم تر عواقبه فتسمى توقعا أو فرضية أو خياال علميا، وال تسمى علما. : » المؤمنولتحديد العالقة بين العلم والعمل يمكننا أن نستشهد بكلمة الرسول

. هذه الجملة أو العبارة أو الخطاب أو الحديث، تقرر(1)ال يلدغ من حجر واحد مرتين « أسبقية التجربة على المعرفة، ألن الخطأ الذي يقع في تجربة لم تحدث من قبل ال

ينفي اإليمان، وال ينفي العلم، ولكن تكرار الخطأ الذي حدث سابقا في عمل الحق هو الذي ينفي العلم، وينفي االستفادة من التجربة السابقة، أي أن هذه التجربة لم تصر علما أو ذكرا، وقد حدثت في حين غفلة أو نسيان، ولكن ينبغي أال يدفع ثمن التجربة

مرتين، وهذا هو العلم واإليمان. العلم أوال في التجارب التي تحققت سابقا، والعمل أوال في التجارب التي لم

تتحقق بعد، ومن هنا يمكننا أن نقول: العلم له أولوية باعتبار، والعمل له أولوية باعتبار آخر، والبحث في العلم، وإن كان متأخرا في الوالدة، إال أن له األولوية لالستفادة من التجارب، وهكذا فالعلم له السلطان في االستفادة من التجارب السابقة، والعمل له

األولوية والسلطان والحجة والبرهان في والدة العلوم والمعارف الجديدة. ومن هنا فإن اإلنسان حين ال ينتبه إلى بدء الخلق ؛ يعطي األولوية للعلم على

العمل، ألن العلم بما سبق صار ضروريا، ومن هنا جاء الحث على العلم، وأخذ المرتبة األولى، وقد صار له تاريخ ينبغي أن يحفظ وال ينسى، ولذلك نجد أن البخاري مثال، عقد

بابا في صحيحه فال: باب: العلم قبل العمل. ولكننا نجد أيضا حثا كبرا على العمل، فالعلم واإليمان في القرآن مقرونان دائما

}وا الصالحات( )بالعمل الصالح: }وا وعمل ذين آمن .] 19/96 مريم: [إن ال حين يستقر العمل، وتستقر عواقبه يصير علما، ويصير العمل تابعا للعلم، وحين نفقد العلم نضطر إلى القيام بعمل يحتمل الخطأ والصواب، فإذا شهدت له األحداث

على المدة الطويلة فأعطى نتيجة )خير وأبقى( تحول إلى علم أيضا. العمل أوال في بدء الخلق، والعلم أوال في نقل نتيجة العمل، فهما زوجان، إال أن

}م من نفس واحدة وجعل منها زوجها( )العلم يخلق من العمل: األعراف:[خلقك، خلق العلم من العمل، فصارا زوجين ينتجان العمل الصالح.] 7/189

هل السلطة هي المعرفة؟ هل يمكن لنا اآلن أن نحدد العالقة بين السلطة والمعرفة؟ وإذا قلت: إن السلطة

هي المعرفة، فهل أكون قد حددت العالقة بين السلطة والمعرفة، وقررت أن المعرفةهي السلطة، وأن كالهما منتوجان للعمل الذي يلد المعرفة والسلطة؟

إنك بعد ذلك، وفي ظاهر الحياة تستطيع أن تقول: عن السلطة منفصلة عن المعرفة، خاصة حين تنظر إلى الواقع فترى العلماء غير األمراء، والعلماء والسالطين ليسوا شيئا واحدا، فمن أين حدث هذا الفصل؟ وهل لي الحق في أن أقول: المعرفة

هي السلطة؟ وهل أنا مخطئ بهذا القول ومتجاهل للواقع الذي يفقأ العين؟

( ومسلم في الزهد والرقائق ، باب :5782 رواه البخاري في األدب ، باب : ال يلدغ المؤمن من ج}حر مرتين ، رقم ) (1) ( .2998ال يلدغ المؤمن من ج}حر مرتين ، رقم )

Page 15: كـــن كابن آدم - Jawdat Said · Web viewكن كابن آدم المحتوى الموضوع الصفحة المحتوى المقدمة تمهيد: لغة الحروف ولغة

ال تعجل علي أيها األخ القارئ، لعلي أتمكن من شرح هذه العالقة أيضا، فإذا تقبلت ما قمت به من شرح للعالقة بين العلم والعمل، وللكيفية التي يتبادالن المواقع فيها، ويكون هذا أوال من جانب، وذاك أوال من جانب آخر، إذا فهمت ذلك واطمأننت إليه ؛ فستتمكن،إن شاء الله، من فهم اإلشكالية الثانية في العالقة بين المعرفة والسلطة،

د العلم بعد ولكن أريد أن أطمئن إلى انك فهمت كيف يلد العمل} العلم، وكيف يرش ذلك العمل، فالزراعة كانت تحدث تلقائيا في البداية، ولكن اإلنسان راقب ما يحدث

فكشف قانون الزراعة، وبعد أن علم كيفية الزراعة من الواقع ؛ تدخل وقام بالزراعة وإنتاج الغذاء، وهكذا فإن الزراعة المجتمعية تحدث أمامنا، واألحداث االجتماعية تنتج

السلطة، وعلينا أن نراقب ما يحدث، ونستخرج قوانينه وسننه، وحين نستخرج قوانينه وسننه من الواقع نصير علماء، ونتمكن من إعادة اإلنتاج، ونسيطر على الموضوع

ونوجهه ونسخره، وعلى هذا األساس سأتحدث عن المعرفة والسلطة.السلطة والمعرفة في ضوء الشعور والالشعور

ما هو تأويل قولنا السلطة والمعرفة شيء واحد؟ وما هو تفسير االنفصال الذينراه بينهما؟

هل أستطيع أن أقول لك: إن السلطة ثمرة المعرفة، ثمرة نوع خاص منالمعرفة؟، ولكن هل المعرفة أنواع؟

نعم يا أخي! المعرفة أنواع، هناك علم راسخ،وهناك علم غير راسخ، هناك علمشعور، وهناك علم الشعور.

أظن أن هذه النقطة بحاجة إلى مزيد من التأمل والشرح والتحليل والتفكيك،دعني أشرح لك الشعور والالشعور قليال.

إن الالشعور هو شعور سابق، وقد تحول إلى الشعور، وأحاول أن أبين ذلك فيماأسوقه لك:

}م)إذا حاولنا أن نفهم قوله تعالى: ك ه} لحق مثل ما أن ماء واألرض إن فورب الس}م تنطق}ون(؟ ماذا)، فإننا نسأل: ما هذا الـ ] 51/23 الذاريات: [تنطق}ون( ك مثل ما أن

يحدث حين ننطق؟ وكيف صرنا ننطق؟ أظن أن فهم هذا الموضوع يحتاج إلى تأمل وعودة إلى الوراء لمعرفة الكيفية التي

صرنا بها ننطق بيسر وسهولة. إن وراء هذا النطق السهل الميسور الشعور يسير سلوكنا اللفظي، الذي كان في السابق شعورا، وقد تحول برسوخه إلى الشعور، ولذلك صرنا نتحدث دون أن نفكر،

وبإمكاننا أن نستوضح السلوك الشعوري والالشعوري، بمقارنة حالة اإلنسان الذي يتحدث لغته األصلية، واإلنسان الذي يتعلم لغة جديدة، بأفعالها وأسماءها وقواعدها

النحوية وقواعد تركيب االسم والفعل واإلخبار واالستفهام والنفي واإلثبات … هذه األشياء تحدث أمامنا، ونمارسها عمليا، أحيانا نتعلم النطق السليم بدون

دراسة القواعد، وأحيانا ندرس القواعد، حتى إنه في كثير من األحيان يصعب علينا تطبيق القواعد التي نعرفها، وأنا بالذات على الرغم من أنني تخصصت في قواعد

اللغة العربية ؛ أشعر أنني لم استطع أن أحول هذه القواعد إلى الالشعور، ولهذا ألحن في األعراب، ومن هنا قال لنا أساتذتنا: » النحو صنعتنا، واللحن عادتنا «، والذين

يبحثون موضوع اللغة العربية يقولون عنها: إنها لغة األم، ألن لغة األم تؤخذ سليقةبدون دراسة قواعد.

إن تشبيه الله سبحانه وتعالى لإليمان والكفر، ومظاهر الكون والطبيعة، وآيات}م تنطق}ون( )األرض والسماء، بقوله: ك ه} لحق مثل ما أن ماء واألرض إن [فورب الس

، هذا التشبيه فيه داللة كبيرة ينبغي أن نعيها.] 51/23الذاريات:

Page 16: كـــن كابن آدم - Jawdat Said · Web viewكن كابن آدم المحتوى الموضوع الصفحة المحتوى المقدمة تمهيد: لغة الحروف ولغة

إذا عرفنا ماذا حدث وماذا يحدث حين ننطق، وكيف يحدث النطق بسهولة ويسر، وكيف نستخدم األلفاظ في النطق، وما العالقة التي تربط األلفاظ بالمعاني، وكيف

تترسخ المعاني لدى اإلنسان، وكيف ينفصل السلوك عن اإليمان، وكيف يصير اإلنسان}ون( }ون ما ال تفعل }وا لم تق}ول ذين آمن ها ال ، وما] 61/2 الصف: [يقول ماال يفعل: ))يا أي

عالقة هذا العلم الراسخ والعلم السطحي، إذا عرفنا هذه األمور فإننا نستطيع أن نصل}م تنطق}ون(.)إلى الحق: ك ه} لحق مثل ما أن ماء واألرض إن فورب الس

إن اإلنسان الذي يحاول تعلم ركوب الدراجة الهوائية يعاني كثيرا في بداية تعلمه، والمشكلة التي يعاني منها هي الكيفية التي تحفظ له توازنه، ولكنه بعد أن تترسخ لديه

هذه المهارة يستطيع أن يثق بال شعوره، ويمكنه أن يتحدث دون أن يكون قلقا منمشكلة توازنه.

هذا الذي يحدث عند تعلم ركوب الدراجة الهوائية ؛ هو الذي يحدث عند تعلم قيادة السيارة، أو الكتابة على اآللة الكاتبة، وهو الذي يحدث معنا في موضوع اللغة، ففي كل هذه األحوال يتحول األمر من الشعور إلى آلية فوق الشعور، أي إلى الالشعور،

وفي)وبهذه الطريقة تعمل أعضاء كثيرة من جسم اإلنسان آليا وبدون تدخل واع منا: ون( }بصر} }م أفال ت .] 51/21 الذاريات: [أنف}سك

أنا لست ماهرا في سوق األمثلة، وإال فهناك أمثلة أسهل وأقرب مناال وتأويال، وهذا}تعب التلميذ دون طائل، والمتمكن هو الفرق بين العلم الناجح والمعلم الذي يتعب وي

أفمن)من شعوره وال شعوره، والذي يتمتع بانسجام بينهما هو الذي يعمل عمال سويا: الملك:[يمشي م}كبا على وجهه أهدى أمن يمشي سويا على صراط م}ستقيم؟(

67/22 [. إن الشعور والالشعور حين يتناقضان يحدث المرض النفسي، وحين ينفصل الشعور عن الالشعور يحدث النفاق والكذب، ولكن في صورة الحق، ألن شعور اإلنسان عندها ال قدرة له على فهم الواقع الماثل أمامه، ولعل هذا يتوضح بقول

الشاعر:عدوا له ما من صداقته بدومن نكد الدنيا على المرء أن يرى

}فسد}وا)كيف نحل هذه اإلشكالية؟ كيف نخرج اإلنسان من حالة وإذا قيل له}م: ال تون( ه}م ه}م الم}فسد}ون ولكن ال يشع}ر} ما نحن} م}صلح}ون أال إن }وا: إن [في األرض قال

ن له})؟ كيف نرده إلى الحالة السوية؟ وكيف نخلصه من ] 12-2/11البقرة: ي أفمن ز}وء} عمله فرآه} حسنا }ه}م في)؟ كيف نخرجه من ] 35/8 فاطر: [س} ذين ضل سعي ال

}ون ص}نعا( }حسن ه}م ي }ون أن .] 18/104 الكهف: [الحياة الدنيا وه}م يحسب إن السعي إليجاد حل لهذه اإلشكالية هو الذي يدفعني ألن أكتب هذا الكتاب، وهو

الذي دفعني قبل ثالثين سنة إلى كتابة كتاب: )مذهب ابن آدم األول(، ولكن ما صلة هذه اإلشكالية بالعالقة بين السلطة والمعرفة، بين العلماء واألمراء؟ أين الخطأ؟ أين

الخلل؟ هل الخلل في الحدث الواقع أمامنا، أم في الصورة الالشعورية القديمةالخاطئة التي تتحكم بنا؟

إننا لم نكشف القانون واآللية التي تجعل من اإلنسان منسجما في شعوره والشعوره، ومتجها في سعيه نحو األنفع واألدوم.

إن السياسة مرتبطة بالقوة، وإن العلم مرتبط بالفهم، والعلم هو الذي ينبغي أن يكشف قانون السلطة بمراقبتها وتحديد آلياتها، وإذا فهمنا اآلليات، فإن العلم ينبغي له أن يسخر القوة، فالكهرباء مثال، كانت تصعقنا، ولكن حين كشفنا قوتها، وآليات تحكمنا

فيها، سخرناها لصالحنا بعد أن كانت تتحكم بنا، فالكهرباء ليس من طبيعتها أن تخدماإلنسان ؛ بل نحن الذين نستطيع أن نستخدمها.

Page 17: كـــن كابن آدم - Jawdat Said · Web viewكن كابن آدم المحتوى الموضوع الصفحة المحتوى المقدمة تمهيد: لغة الحروف ولغة

في الواقع ؛ إن التفكير في شيء لم يفكر فيه من قبل أمر صعب جدا، ومن عادة الناس عوام وعلماء أن يظنوا أمن كل المشكالت قد حلت، وأنه ال توجد مشكلة قابلة

للحل، إال أناسا نادرين من أصحاب الفضول الذين لديهم هوس في التفكير فيالالمفكر فيه، أو في التفكير فيما ال لم يسمع الناس به من قبل.

إن عدم السماع يحمي المسموع، عدم السماع بالصواب يحمي الخطأ المسموع به والمعاش، ويجعل التفكير الجديد صعبا جدا، إلى درجة أن توماس كون قال: » إن الفكرة الجديدة ال يمكن أن تنتشر في جيلها، بل في الجيل الذي بعده «، ولعل بعض

سلفنا قد تنبهوا إلى هذا الشيء حين قرروا أن العادة المعاصرة حرمان، فنحن مثال قد نتبنى فكرة ع}ذب صاحبها من اجلها في زمانه، ومات في السجن ألنه أعلنها، بينما نأخذها نحن بسهولة ويسر، وهذا يشعرنا أحيانا بمأساة طول الزمن الذي تستغرقه

األفكار الجديدة بين نشأتها وقبولنا بها. قد نقبل األفكار الجديدة في التقنيات المادية )التكنولوجيا(، ولكننا نجد صعوبة في

قبول التقنيات الجديدة في علم االجتماع، وفي العالقة بين السلطة والمعرفة في المجتمع، هذه التقنيات التي تقلب النظريات القديمة ال نقبلها بسهولة، ولذلك ال تتحول

إلى الالشعور عندنا، وال يتحول الشعور إلى الالشعور، ال يتحول العلم إلى الرسوخ.}سمع به من ونعود إلى موضع السلطة والمعرفة، ما هو الشيء الخفي الذي لم ي

قبل في العالقة بين السلطة والمعرفة؟! إذا فهمنا العالقة بين الشعور والالشعور فبإمكاننا أن نفهم العالقة بين المعرفة

والسلطة، وبإمكاننا أن نضع السلطة مع الالشعور، والمعرفة من الشعور. السلطة عندنا تتبع الالشعور، وال تتبع الشعور، ألن شعورنا لم يترسخ بعد، ولم

ينسجم مع المفهوم الجديد للسلطة وال زال المفهوم القديم المترسخ هو الذي يصنعالسلطة عندنا.

إن المفهوم الجيد للسلطة لم يتعمق، ولم يتحول إلى الالشعور، ولذلك فهو قلق وسطحي، وال نعرف حتى التكلم بلغة المفهوم الجديد ؛ فضال عن أن نكون بليغين

فيها، وأن تصير لنا سليقة نقول بها الشعر واألدب، ومثال ذلك أن معرفتنا بالديمقراطية لم تدخل بعد في وعينا، فضال عن أن تتحول إلى األعماق والالشعور،

وعليه فإن السلطة غير متفقة، وال عالقة عضوية لها مع الديمقراطية، أي ال عالقة بين السلطة القديمة المترسخة والسلطة الجديدة القلقة الهشة، والتي لم يشتد قوامها

بالرسوخ بعد. ولهذا نقول: إن علمنا متخلف عن سلطتنا، ولو أن علمنا تعمق لتحولت السلطة،بعت علمنا، ولكن هل يمكن لنا أن نقول: إن إيماننا أيضا لم يبلغ درجة االطمئنان؟ والت

وأننا كإبراهيم الذي ال يزال يريد أن يطمئن قلبه، ويريد أن يرى مصداقية العلم الجديد:}ؤمن قال بلى ولكن ليطمئن) }حي الموتى قال أولم ت وإذ قال إبراهيم} رب أرني كيف ت

، فدله الله على شيء يطمئن قلبه، يرفع مستوى إيمانه،] 2/260 البقرة: [قلبي( ولكن كيف يمكن لنا أن نرفع من مستوى إيماننا؟ كيف نجد الداللة على إمكانية إحياء

الرشد الذي مات منذ زمن غير قريب؟ رب أرني كيف تحيي الرشد الميت!!!.. أيها القارئ النهم القلق الحريص المتتبع: انتبه إلى ما سقته إليك، وإن لم أكن بليغ

في كشف وتحليل وتفكيك الموضوع. إنني أشعر أنني استطعت أن افتح نفقا أو ثقبا إلى عالم يمكن اقتحامه، وأنا أهيب

بالشباب أن يقتحموا الصعاب، ليجدوا الحل ويمسكوا باألسباب ويسخروا ملكوتالسموات واألرض:

أيقظ قدرة الخالق فيك!

Page 18: كـــن كابن آدم - Jawdat Said · Web viewكن كابن آدم المحتوى الموضوع الصفحة المحتوى المقدمة تمهيد: لغة الحروف ولغة

انتبه إلى هذه النقطة: لماذا لم يتحول علمنا إلى يقين بعد؟ ولماذا ال زال اليقينالقديم يحكم العلم الجديد الذي يفقد الطمأنينة؟

الذي أريد أن أقوله هو أن السلطة كآلية الزالت تابعة للعلم ومتولدة عنه، فالعلم هو السلطان، والعلم الذي ال سلطان له هو العلم القلق الذي لم يقف على قدميه

بعد، فال يغرنك تقلب العلم القديم في البالد، ألنه إذا جاء العلم الراسخ المطمئنفستتحول السلطة إليه حاال.

كأن لسان حال السلطة يقول للعلماء: ال تلوموني ولوموا أنفسكم، ما كان لي عليكم من سلطان، إال أنكم لم تحصلوا العلم المطمئن، ولو فعلتم لسعيتم إلى

خدمتكم بدل خدمتكم لي، عن علمكم أضعف وأقل رسوخا، إنكم تخافون سلطة منسوخة فات أوانها، ولم تمتلكوا سلطة العالم الجديد، لذلك خفتم العلم المنسوخ وكيف أخاف علمكم الهش، وال تخافون من أنكم تنتسبون إلى ركن واهن ليس له

قوام؟!السلطة وعالقتها بقوة الجسد وقوة العلم:

هل أستطيع أن أشكك بالعلم الذي نملكه؟ وهل يمكن أن يكون الكشف عن هذاالعلم إلى هذه الدرجة من الصعوبة؟

إنكم أيها العلماء! لم تستطيعوا أن تكشفوا قانون العلم، وقوة العلم، ولم تعتزوا به، ولم تعرفوا القوانين التي تحكم معركة العلم والفهم، ولم تتمكنوا من فصل قانون

العلم وقوته، وال زلتم تربطون قوة العلم بقوة الجسد.هل يمكن لكم أن تمتلكوا قوة العلم حتى تحلوا سلطان العلم؟

}حرموا من السلطان حين تريدون إنكم تخافون من قوة الجسد، ولذلك فجدير أن تأن تدخلوا في صراع مع الجسد وليس مع العلم وبقوانينه.

إن الخوف من قوة الجسد يملككم أيها العلماء، ولم تأخذ قوة الفهم والعلم مكانتها في أنفسكم، بل لم يوجد إلى اآلن من يتوقف منكم، ولو للحظة واحدة، ليفكر

}سوة حسنة في إبراهيم)بالقوة والسلطان القاهر الذي تملكه المعرفة: }م أ قد كانت لكه( }د}ون من د}ون الل }م ومما تعب }رآء} منك ا ب }وا لقومهم: إن ذين معه} إذ قال الممتحنة:[وال

}ون به)، ] 60/4 }شرك ه، وقد هدان، وال أخاف} ما ت }حاجوني في الل وحاجه} قوم}ه}، قال: أتون، وكيف أخاف} ما ر} }ل شيء علما، أفال تتذك ي ك ي شيئا، وسع رب أن يشاء رب إال

لطانا، فأي الفريقين }م س} ل به عليك }نز ه ما لم ي }م بالل }م أشركت ك }م وال تخاف}ون أن أشركت}ولئك له}م األمن} }لم أ وا إيمانه}م بظ }وا ولم يلبس} ذين آمن }م تعلم}ون، ال }نت أحق باألمن إن ك

ك }نا آتيناها إبراهيم على قومه، نرفع} درجات من نشاء}، إن رب ت وه}م م}هتد}ون، وتلك ح}جاتهم)حكيم عليم( ثم ذكر أسماء سبعة عشر نبيا، وبعد ذلك يقول: ي }ر ومن آبائهم وذ

ه يهدي به من يشاء} وإخوانهم، واجتبيناه}م وهديناه}م إلى صراط م}ستقيم، ذلك ه}دى اللذين آتيناه}م الكتاب }ولئك ال }ون، أ }وا يعمل }وا لحبط عنه}م ما كان من عباده، ولو أشرك}ولئك وا بها بكافرين، أ لنا بها قوما ليس} }وة، فإن يكف}ر بها هؤ}الء فقد وك ب والح}كم والن

ذكرى للعالمين( }م عليه أجرا، إن ه}و إال }ك ه} فبه}داه}م اقتده، ق}ل: ال أسأل ذين هدى الل [ال.] 90-6/80األنعام:

كيف نعيد الحياة إلى الحوار اإلبراهيمي؟ كيف نعيد الحياة إلى المنهج النبوي؟ كيف يمكن أن نقلب الوجود البشري في الفكر رأسا على عقب؟ وكيف نستطيع إحداث نقلة انقالبية في الحياة االجتماعية مثل االنقالبات التي حدثت في علم الفلك، وعلم

الحياة العضوية؟ كيف نستطيع أن نجعل فهم التاريخ الماضي الذي حدث للفلك، وهو انقالب األمور}قضت نظرية مركزية األرض للكون، وكانت الشمس دليال على رأسا على عقب حين ن

Page 19: كـــن كابن آدم - Jawdat Said · Web viewكن كابن آدم المحتوى الموضوع الصفحة المحتوى المقدمة تمهيد: لغة الحروف ولغة

مس عليه دليال( )صدق الله؟ }م جعلنا الش ، دليال على إمكانية] 25/45 الفرقان: [ث انقالب الفهم في الشيء الذي نراه واضحا، إذ ربما يكون خادعا لقضية الشمس

وعالقتها باألرض. كيف نقلب حركة القوة والعلم؟ فنحن ال نزال نظن أن العلم يدور حول القوة! كيف سنقلب هذا الوهم؟ لنفهم أن القوة هي التي تدور حول العلم،

وكيف نجعل األمراء على أبواب العلماء ال العكس؟ولكن إلى أي مدى يمكننا أن نثق بالمعرفة بموجب هذه األفكار؟

إن الدماغ البشري قابل للخطأ وقابل لالنخداع، ومن الممكن أن يحصل إجماع تام على صحة أمر خادع، ولكن الواقع يظل يتحدى، ألنه ال يسير وفق أهواء الناس، ومن

أجل هذا قلت وال أزال أقول: إن الذهن البشري ليس هو المرجع، بل الواقع هو المرجع، الواقع هو الذي سيصحح أوهامنا، التاريخ هو المرجع، األحداث الماضية

إلى التاريخ] 6/11 األنعام: [انظ}روا( )والعواقب، حتى إن الله تعالى يقول لنا: لتتمكنوا من فهم ما أقوله لكم.

لقد وثقوا بأذهانهم، ولكنهم لم يكشفوا ضعف الذهن وهشاشته وإمكان انخداعه،هوا اإلنسان، ولكن تبين لهم أنه ال يوثق به، وأنه ينخدع وانه ليس معصوما، لقد أل

بالسراب ؛ فأعلنوا موت اإلنسان أيضا، ولم يهتدوا إلى نجم القطب، إلى سير التاريخ منذ قبل وصول البشرية إلى حالة الوعي، ولم يعرفوا أن الوعي البشري أيضا مرحلة

من مراحل إبداع الخالق جل جالله. انظروا إلى المجال الذي يتجلى فيه ذو الجالل، انظروا إلى الكيفية التي بدأ بها الخلق واإلبداع اإللهي في الوجود المادي، ألننا كلما تأملنا اإلبداع كلما علمنا عظمة

المبدع. لقد كان ما يسمى: عصر النوار ؛ انتقاال من التصور الوثني له في العصور السابقة ؛ إلى تصور وثني آخر، وذلك حين جعلوا اإلنسان هو المرجع، فسجدوا بذلك المرجعية

}ف}وا أحد( )مرة أخرى، ولم يتمكنوا من تنزيه الله عن خلقه: }ن له} ك اإلخالص:[ولم يك.] 42/11 الشورى: [ليس كمثله شيء( )، ] 112/4

مفهوم التغيير كما يطرحه األنبياء كم هو صعب الوصول إلى عمق التوحيد، وهو إال يستبه علينا الخالق بالمخلوق،

قنا فإن القياس الذي يقوم به ذهننا يخذلنا. ألننا مهما حل}حي الموتى( )إن سؤال إبراهيم عليه السالم: ،] 2/260 البقرة: [رب أرني كيف ت

، هذان] 7/143 األعراف: [رب أرني أنظ}ر إليك( )وسؤال موسى عليه السالم: السؤاالن، والجوابان اللذان رد بهما الله تعالى عليهما ؛ يقوالن لنا: انظروا إلى الواقع الذي خلقه الله، وال تحاولوا أن تنظروا إلى الله فتقعوا في الخطأ واللبس والقياس،

فالله خارج القياس، خارج المثلية. لقد جاء األنبياء بفهم جديد لإلنسان، جاؤوا بشيء قلب فهم اإلنسان، فاإلنسان غدا علما جديدا له قوانينه الخاصة، وتغييره يكون بتغيير ما بنفسه، وتغير نفسه صار ممكنا

دون قتل للنفس، ودون سفك للدماء.حل، وإن مجرد اإليمان بإمكان تغيير ما لقد صار ممكنا أخذ العسل دجون قتل الن باألنفس صار موقفا يفتح لصاحبه طريقا إلى تغيير وإزالة ما بنفس اإلنسان من غير

إزالة نفسه. هذه النقلة هي ما جاء به األنبياء حين فصلوا إزالة ما بالنفس عن إزالة النفس،

فزال بذلك النزاع والخلط بين األمرين. هل يمكن أن يكون هذا هو الفرقان الذي آتاه الله تعالى ألنبيائه؟، وأنه ألنهم جميعا

ق} بين أحد منه}م( )جاؤوا به فنحن: }فر .] 2/136 البقرة: [ال ن

Page 20: كـــن كابن آدم - Jawdat Said · Web viewكن كابن آدم المحتوى الموضوع الصفحة المحتوى المقدمة تمهيد: لغة الحروف ولغة

هل يساعدنا هذا الفهم على إدراك أن النفس صارت محرومة ألنه صار باإلمكان إزالة ما بالنفس دون إزالة النفس؟ نعم صار باإلمكان إزالة المرض دون إزالة

المريض بقتله. إن هذا الفهم خبر عجيب ونبأ عظيم لم يتوضح إلى اآلن، وإن كنت في ريب من

ذلك فارجع إلى نفسك: هل تشعر أن هذا المفهوم صار واضحا لديك، وأنك قادر علىأن تفكر به جيدا وتتأمله؟

هل نستطيع أن نكشف أنفسنا، وأن نغير ما بها في هذا الموضوع؟هل ما تزال فكرة إزالة النفس بدل إزالة ما بها هي المسيطرة علينا؟

تحدثت} إليك سابقا عن ذلك الطبيب الذي ال يجد عالجا لمرض المريض إال بإزالة الجسد ال المرض، فهو دائم التفكير في الكيفية التي يتخلص بها من المريض، ال

الكيفية التي يتخلص بها من المرض. هل تشعر معي أن األفكار المسيطرة علينا وعلى ثقافتنا، واألحقاد واألغالل التي

في قلوبنا ؛ إنما نتجت عن عدم فهمنا لهذا الموضوع، وهو إمكان معالجة النفسوإزالة ما بها من مرض دون إزالتها؟

إننا حين نكشف المرض، ونكشف إمكانية إزالته دون قتل المريض، وبدون قتلذي)المخطئ، فسيصبح هذا العلم كبيرا ونبأ عظيما: بأ العظيم، ال }ون، عن الن عم يتساءل

سيعلم}ون( }م كال سيعلم}ون، ث .] 5-78/1 النبأ: [ه}م فيه م}ختلف}ون، كال إن ما جاء به األنبياء لم يتحقق بعد في حياة الناس، ولم يصر مفهوما متداوال فيما

}ون( )بينهم، بل }وا به يستهزئ ول إال كان يس:[يا حسرة على العباد ما يأتيهم من رس} . هل نستطيع أن نفهم أننا ال نزال نستهزئ باألنبياء وبما جاؤوا به، وأن ما] 36/30

جاؤوا من اجله لم يأت عهده في حياة الناس بعد؟}لح على هذا المفهوم، وقد جاءنا نبؤه، ولكننا لم نفهمه، ولم يحصل لنا إن القرآن لي

.] 38/88 ص: [ولتعلم}ن نبأه} بعد حين( )علم بما جاؤوا به: }م بواحدة: أن)إننا ال نزال نعرض عنه، وال نستطيع أن نتفكر فيه: ما أعظ}ك ق}ل إن

ة( }م من جن وا ما بصاحبك ر} }م تتفك ه مثنى وف}رادى، ث .] 34/46 سبأ: [تق}وم}وا لل ق}ل ه}و نبأ عظيم،)هل تساءل الناس عن النبأ العظيم فعال؟ لماذا يقول الله تعالى:

}م عنه} م}عرض}ون( ؟] 68-38/67 ص: [أنتما هذا الشيء الموحد، والنبأ العظيم الذي جاء به األنبياء جميعا؟

تبارك)ما هذا الفرقان الذي أنوله الله ونزله على عبده ليكون للعالمين نذيرا: }ون للعالمين نذيرا( ل الف}رقان على عبده ليك ذي نز ه)، ] 25/1 الفرقان: [ال ق}وا الل إن تت

}م ف}رقانا( .] 8/29 األنفال: [يجعل لكاللهم اجعل لنا فرقانا!!..

واجعل لنا ميزانا!!.. نميز به بين الخطأ والصواب، بين الغي والرشد، بين الضاللوالهدى، بين الفساد والصالح.

اللهم ال تجعله ملتبسا علينا فنضل، واجعل لنا نورا وفرقانا نخرج به مما نحن فيهمن الفساد واألحقاد وسفك الدماء.

إنني أخاف، وال أجرؤ على أن أقول: إنني بصرت شيئا لم يره الراؤون، ومحمد إقبال رحمه الله كان يشعر بهذا، وقد صرت أفهم عليه انه كان يرى أشياء لم يرها

الناس، ومن يقرأ ديوان األسرار والرموز يشعر أن إقباال كان يتأجج حرقة وتوقدا، لقدكان يرى في الرماد شعلة، وفي عروق البدر دورات الدم، ويقول:

ر غيري في البشر لم يثقب ناظم مثلي الدررما فشى ذا السلم تسيب بعد من قيد العدمصيد أفكاري ظباء لم ترم

Page 21: كـــن كابن آدم - Jawdat Said · Web viewكن كابن آدم المحتوى الموضوع الصفحة المحتوى المقدمة تمهيد: لغة الحروف ولغة

مشعل ط}وري ليغشاه كليمأنا في يأس من الصحب القديم وكان يشكو أن أفكاره ال تروج في هذه األسواق، ألن هذه األسواق ليس فيها من

يشتري يوسفه ويقول:أنا لحن ضرب صعدا أنا صوت شاعري يأتي غدا

}شرى يوسفيدون عصري كل قد خفي ما بهذا السوق ي لقد عشت مع إقبال وأفكاره زمانا طويال، كنت أدور معه في الصحارى والبراري

واألفالك، فعن أي شيء كان يبحث إقبال؟ إنه كان يبحث عن قوة الذات وأسرار إثباتها، وعن مواطن الضعف في الذات

اها( )ورموز نفيها، لقد كان يبحث في معاني اها، وقد خاب من دس [قد أفلح من زك، في: )أسرار إثبات، ورموز نفي الذات(.] 10-91/9الشمس:

إن الذي تعب في البحث يقر قيمة التعب في البحث، ويعرف أن انشراح الصدريسبقه ألم.

حين كان إقبال يريد أن يوجز فكرته ؛ كان يقول:وانصرف عني إذا لم تفهمنكتة خذها كسيف مخزم

النزاع الفكري والنزاع الجسدي: ما هي النكتة التي أريد أن أقولها لك؟ ما الذي جاء به األنبياء من الفرقان والهدى

والذكرى والرحمة والموعظة والنجاة؟ ما هو الشيء الذي دعوا إليه حين نادوا: حيعلى الفالح؟ ما هذا الفوز المبين، وما هذه التجارة الرابحة؟

إنهم حرروا اإلنسان، وفرقوا بين النزاع الفكري والنزاع الجسدي، وأدخلوا الناسإلى عالم جديد، وأوجدوا عالما من الحوار وتغيير ما باألنفس.

لقد خرجوا من عالم التحدي بالعضالت التي نوع آخر من التحدي، وابن آدم األول هو أول من تحدى عضالت اليد، وانتقل إلى مجال آخر من التحدي، واألنبياء جميعا

دعوا إلى هذا االنتقال من عالم الحيوان الذي تحكمه الظافر واألنياب والعضالت، إلىشد} من الغي( )عالم آخر ومستوى مختلف. ن الر البقرة:[ال إكراه في الدين قد تبي

، هل حقا قد تبين الرشد من الغي؟] 2/256 إن فرقان األنبياء الزال مشتبها وملتبسا علينا، والبد لنا من إضاءته، وفهم العالقة

ون الف}رقان وضياء)التي تربط الفرقان بالضياء في قوله تعالى: ولقد آتينا م}وسى وهار}قين( .] 21/48 األنبياء: [وذكرا للم}ت

وبمجرد أن يفهم اإلنسان أن صراع األفكار مختلف عن صراع األجساد ؛ يكون قد دخل عالما جديدا، وحين يميز ويفصل عالم األفكار عن عالم األجساد ؛ يكون قد

ماء رفعها)أمسك بالفرقان، وبالقول الفصل الذي ليس بالهزل، وبالميزان: والس ،] 2/256 البقرة: [ال إكراه في الدين( )، وامسك بـ ] 55/7 الرحمن: [ووضع الميزان(

فال يعود يستخدم قوة األجساد لفرض الدين والعقيدة، وال يستخدم اإلكراه الجسدي في فرض األفكار، وما لم يتحرر اإلنسان ويتطهر ويفصل معركة الفكر عن معركة

الجسد ال يكون قد دخل في التوحيد. إن إشراك وخلط معركة الجسد في معركة الفكر ؛ هو إشراك فيما يجب توحيده.

}سخت في عالم األفكار بـ ال إكراه في الدين( ولكنا نعيش)إن القوة االكراهية نالمنسوخ.

إن المنهزمين فكريا يحاولون جر أصحاب األفكار إلى المعارك الجسدية، ولذلك ينبغي على أصحاب األفكار أن يكونوا من الوعي والوضوح بحيث يستطيعون فصل

األمرين عن بعضهما فصال تاما، وال يقعون فيما يسعى اآلخرون إلى إيقاعهم فيه، وبالقدر الذي يكون فيه أصحاب الفكر غامضين وغير صريحين وال واضحين، فإن

Page 22: كـــن كابن آدم - Jawdat Said · Web viewكن كابن آدم المحتوى الموضوع الصفحة المحتوى المقدمة تمهيد: لغة الحروف ولغة

أصحاب الصراع الجسدي لن يكفوا عن التلويح بالجسد، وسيتمادون في اتهام اآلخرينبأنهم يريدون القضاء على الجسد.

دعني أتحدث إليك عن ميالد األفكار وتطورها ورسوخها، دعني أتحدث عن تاريخاألفكار، عن تاريخ العلم، عن تاريخ اإليمان.

إن اإليمان هو العلم الراسخ الذي وقر في القلب وصدقه العمل، وال يشترط أن يكون هذا الذي وقر في القلب وصدقه العمل صوابا، ألن اإليمان قد يتعلق بالخطأ كما

قد يتعلق بالصواب، فهو قد يكون إيمانا بالحق، وقد يكون إيمانا بالجبت والطاغوت.ولكن ما شان تاريخ األفكار وتاريخ العلم والفهم؟

فالفكرة تتكون جنين في البداية، ثم يأتي المخاض المفاجئ فتولد والدة هشة،وعندها تكون بحاجة إلى رعاية وتربية ودعم.

عن ميالد فكرة فصل معركة الجسد عن معركة الفكر، كان مرافقا لوالدةي)اإلنسان، بل قبل ذلك حين كان اإلنسان مشروعا لإليجاد: ك للمالئكة: إن وإذ قال رب

ح} }سب }فسد} فيها ويسفك} الدماء، ونحن} ن }وا: أتجعل} فيها من ي جاعل في األرض خليفة، قالها( }ل م آدم األسماء ك ي أعلم} ما ال تعلم}ون، وعل }قدس} لك؟ قال: إن البقرة:[بحمدك ون

2/30-31 [. لقد كان اإلنسان مشروعا وخطة وهدفا، ولم يكن منبعثا إلى الوجود، كان نموذجا في الوجود، خلقا آخر من اإلبداع المحير والتطور غير القابل للفهم والمحير لإلدراك، كان يحمل إمكان الفساد وإمكان الصالح، ولكن الذين عاصروا ميالده لم يتمكنوا من

م آدم األسماء)فهمه، وقد عذرهم الله، واكتفى بان قال: ي أعلم} ما ال تعلم}ون، وعل إنها(. }ل ك

إن المتشائمين معذورون ألنهم لم يعرفوا قانون الخلق ولم يدرسوا تاريخ الخلق،ولم يدركوا أو إبداع مستمر، ولذلك فهم ال يستطيعون أن يتصوروا إبداعا.

إنهم لم يفهموا سنة الخلق وتاريخ اإلبداع، وإمكانية استمرار اإلبداع، لم يفهمواي أعلم})المرجع والقانون، ولهذا كان جواب الله مقتضبا وممتدا وغير قابل لإلغالق: إن

ما ال تعلم}ون(.رحلة االرتقاء االنساني

أترك} عالم الغيب، عالم المالئكة الذين توقعوا الفساد من اإلنسان، وعالم الجنه}م رشدا( )الذين قالوا: }ريد بمن في األرض أم أراد بهم رب ا ال ندري أشر أ الجن:[وأن

، واعود إلى عالمنا ألدرس كيف كان فهم الناس لوضعهم وإمكاناتهم، وكيف] 72/110 كان تفاعلهم مع اإلبداع الذي اودع فيهم والروح الجديدة التي ص}بغ بها الوجود حين

}مر بالقراءة، وأوكل إليه اصالح ذاته بذاته }فخت الروح في اإلنسان، وتعلم االسماء، وأ ن وتغيير وضعه عن طريق تغيير ما بنفسه وتزكيتها، وبالتعامل مع الواقع والنظر إلى

العواقب. لقد نفخ في اإلنسان روح الفهم والعلم والمعرفة واالكتساب، ثم أنزل إليه الروح:

، ولكن جعلناه}) }نت تدري ما الكتاب} وال اإليمان} وحا من أمرنا، ما ك وكذلك أوحينا إليك ر}ذي ه ال ك لتهدي إلى صراط م}ستقيم، صراط الل }ورا نهدي به من نشاء} من عبادنا، وإن ن

) ه تصير} األم}ور} ماوات وما في األرض أال إلى الل 53-42/52 الشورى: [له} ما في الس[.

كيف نعرف البشر بما نفخ فيهم؟ كيف نهديهم إلى ما أودع فيهم من إمكاناتالكشف عن الكون والذات وصوال إلى القدرة والتسخير وبناء العالم الجديد؟!!

}ودع فيهم هو العلم القابل للزيادة، وروح المعرفة، روح قانون حياة إن الذي أ وكذلك أوحينا إليك)الجسد، وقانون الروح الذي هو العلم والكتاب والفهم والتسخير:

Page 23: كـــن كابن آدم - Jawdat Said · Web viewكن كابن آدم المحتوى الموضوع الصفحة المحتوى المقدمة تمهيد: لغة الحروف ولغة

}ورا نهدي به من ، ولكن جعلناه} ن }نت تدري ما الكتاب} وال اإليمان} وحا من أمرنا، ما ك ر}ه ( ك لتهدي إلى صراط م}ستقيم، صراط الل -42/52 الشورى: [نشاء} من عبادنا، وإن

53 [. لقد خرجت أيها اإلنسان من قوانين عالم الجسد، وارتفعت عنها، ألنك خلق آخر نفخ فيك الروح، فال تنكص وال تتراجع. ال ترجع إلى قانون الجسد، بل تمسك بقانون

الروح والعلم والفكر واالبداع. ال تخف وأمسك بنور التاريخ. ال تنس تاريخك. لقد كنت هيدروجينيا، ثم تحولت إلى عناصر أخرى في قلب الشموس، ثم صرت مع البات

البراكين، ثم تحولت إلى زهرة وثمرة، ثم تحولت إلى كائن حي يسمع ويبصر، ثم نفخفيك الروح، وأنت تتطلع إلى مقعد دق عند مليك مقتدر في الخالدين!!..

اسمع ما يقوله جالل الدين الومي، في الحوار الذي جرى بين المرأة التي تطبخ، وبين الحمص الذي كان في القدر ؛ تقول المرأة مخاطبة الحمص الذي توقد النار تحته: أيتها الحمصة! لقد كنت مادة في التراب، ثم ابتسمت زهرة في النبات، ثم

تحولت إلى ثمرة، واآلن تنضجين لترتقي أكثر، لتتحولي إلى اإلنسان، فتقول الحمصة:أيتها السيدة! أوقدي النار أكثر، كي أنضج وأتحول إلى مرتبة أعلى وأسمى..

خذ هذه القصة يا أخي وتأمل فيها حصة من الزمن، وتامل كيف كان اإلنسان في عالم الجسد ثم بدأ يدخل في عالم الروح، تأمل كيف سيتجرد من عالم الجسد، إنه

اآلن يتدرب على هذا التجرد، فهو، وإن كان يعيش في الجسد، كنه سوف يتحرر منه، وسوف لن يتراجع إلى الوراء، سوف يتحرر من قانون الجسد ليدخل إلى قانون

الروح، هذا ما فعله ابن آدم ليثبت قدرة الخالق فيه. لقد دشن قانون الروح ؛ قانون المعرفة، نعم إنه أكل من شجرة المعرفة، وتطلع

إلى الخلود، » وقد و}ضع على طريق شجرة الحياة لهيب سيف متقلب «.األنبياء وحرية الفكر:

ما هي قصة العلم والمعرفة في تاريخ البشر؟ ما قصة الباب الذي فتح للفكر؟ هل الفكر جائز؟ هل لك حق في أن تفكر وتحاور نفسك وتتأمل وتتدبر؟ هل لك حق في

أن تناجي نفسك خارج ذاتك بصوت مسموع ؛ هل لك حق في أن تحاور اآلخر؟ هل لك حق في أن تفكر في األشياء: كيف حدثت؟ وفي األمور كيف تحدث؟ هل لروحك حق

في أن تتمرن وتفكر في خلق السماوات واألرض؟ هل لك حق في أن تتفكر فيالمبدأ والمصير، وفي األولى واآلخرة، في الدنيا والعليا؟

هذا ما جاء به األنبياء، جاؤوا من أجل أن يحكموا حرية الفكر ويزيلوا العراقيل التيال إكراه في الدين(.)تقف أمامه، جاؤوا بمبدأ:

ارفع اإلكراه وأطلق الروح تحلق، إن الروح لتسمو وتتعلم من عثراتها، تتعلم أالتسقط، دعوا الروح تسمو إلى خالقها. إنها متجهة نحوه!!..

ر فيها، إن األنبياء هم لقد علم األنبياء الناس كيف يفكرون في األشياء التي لم يفك الذين جاؤوا بما لم يسمع به من قبل، إنهم هم القدوة في اإلبداع والخروج عن المألوف، ومن أكبر إبداعاتهم أنهم لم يطالبوا بأن يسمح لهم بالتفكير والقول

والحديث والحوار ؛ بل مارسوا التفكير عمليا. لقد اعتبروا ذلك من أقدس الواجبات، وجاؤوا أيضا بالفرقان، جاؤوا بالرشد،

ورفعوا اإلكراه، وأنكروه، أنكروا استخدام القوة الجسدية، في مجاالت الفكر، هذا هو الفرقان، هذا هو القول الفصل الذي ما هو بالهزل، وبهذا الفصل بين االستخدام

الجسدي واالستخدام الفكري ؛ تم االرتقاء، وتبين الرشد من الغي. لقد آمنوا بالله، آمنوا بالروح الذي نفخ فيهم، والتزموا كلمة التقوى، ولم يرتدوا

ال إكراه في الدين( ؛ فقد أمن على وجوده، وحمى)على أعقابهم، فمن قبل مبدأ

Page 24: كـــن كابن آدم - Jawdat Said · Web viewكن كابن آدم المحتوى الموضوع الصفحة المحتوى المقدمة تمهيد: لغة الحروف ولغة

}م فلم)نفسه ودينه، وعرضه ودياره، ال يطلب منه بعد ذلك شيء: }وك فإن اعتزل}م عليهم سبيال( ه} لك لم فما جعل الل }م الس }م وألقوا إليك }وك }قاتل وال)، ] 4/90 النساء: [ي

الم لست م}ؤمنا }م الس }وا لمن ألقى إليك .] 4/94 النساء: [تق}ول إنك بإلقاء السالم صرت مؤمنا بأعظم ما جاء به األنبياء، وأمنت على نفسك

وفكرك ودينك وديارك، أيا كان دينك، وأيا كان أفكارك، وبإلقائك السالم تدخل في مملكة الالإكراه، في مملكة الرشد، وتخرج من مملكة اإلكراه، مملكة الغي

والطاغوت. انظر إلى العالم وابحث عن مكانة هذه الفكرة فيه، ولكن قبل أن تعرف مكانتها

في العالم تأكد من أنها قد توضحت لديك، فإذا وجدت أنها لم تتوضح بعد، وانك الزلت تشك فيها وتتردد ؛ فاعلم أن اإليمان لم يدخل إلى قلبك بعد، ولذلك لم تقتنع بالسالم

ا)واإلسالم، وال زلت على دين األعراب الذين قال الله تعالى فيهم: قالت األعراب} آمن}م( }وبك }وا أسلمنا ولما يدخ}ل اإليمان} في ق}ل }وا ولكن ق}ول }ؤمن 49/14 الحجرات: [ق}ل لم ت

[. إن المنهزم في معركة األفكار هو الذي يلجأ إلى معركة األجساد، افهم هذا جيدا،

ومن يترك معركة األفكار، وال يقدر على الصبر فيها، وال يمرن نفسه على كسبها، ويعود إلى معركة األجساد، فإنه يعود إلى الجاهلية، وإلى مقابل عالم الروح وعالم

الكتاب.}نت تدري ما الكتاب})إن الكتاب هو الروح: وحا من أمرنا، ما ك وكذلك أوحينا إليك ر}

) .] 42/52 الشورى: [وال اإليمان}، تأمل الكتاب، تأمل الفرقان، ال تخلط معركة الفكر بمعركة الجسد.

دعنا نلطف من عبارتنا شيئا ما، فبدل أن نقول كلمة )معركة( التي توحي بالصراع الفكري ؛ دعنا نستخدم كلمة )معترك(، لنقول: إن من يخلط معترك األفكار بمعترك

األجساد ؛ لم يعرف معنى الفرقان، ولم يصر له فرقان أو ميزان، ولم يتبين له الرشدمن الغي.

إن الخروج من هذا الخلط شيء أساسي كي يحدث الفرقان، ويتم التمييز، ويزولاالشتباه وااللتباس.

الشعور باألمن والثقة باألفكار: أيها المسلم، أيها المؤمن! ال تلبس إيمانك بالدنس والظلم والجاهلية، ال تنس اآليات التي سقتها لك من سورة األنعام في محاجة إبراهيم عليه السالم لقومه،

إبراهيم الذي شعر بسالمة األفكار، وسالمة الفهم، واإلدراك الصحيح للمشكلة ؛ حدثته وقد هدان(، عن الشعور بالهداية، وبالهيمنة)له االستنارة والهداية: }حاجوني في الل أت

( ، هذا)الفكرية ؛ يزيل الشعور بالخوف، ولهذا قال إبراهيم عليه السالم: وال أخاف} الشعور يعبر عن حالة فكرية رائعة، ال يمكن حدوثها باالدعاء، وال تتأتى إال بتوافق تام

(، وأن)بين الشعور والالشعور في موضوع األمن، لهذا علينا أن نفهم كلمة: ال أخاف}نحللها ونفككها، ونجزئها إلى عناصرها األولية.

( ؛ حاول أن يشرحها ويحللها أيضا فقال: )حين قال إبراهيم كلمة: وال)ال أخاف}}م( }م، وكيف أخاف} ما أشركت }م أشركت ك ، أين سلطان] 81-6/80 األنعام: [تخاف}ون أن

الخوف، وأين سلطان األمن؟ من ذا الذي يتسلط عليه الخوف، ومن ذا الذي يأتيهاألمن؟

الخوف في التحليل: هو الخشية من وقوع الخسارة في مال أو شرف أو مكانة، وهو يحدث من تقدير الموقف، ومن التصورات التي يمتلكها اإلنسان على ما يتمتع به،

Page 25: كـــن كابن آدم - Jawdat Said · Web viewكن كابن آدم المحتوى الموضوع الصفحة المحتوى المقدمة تمهيد: لغة الحروف ولغة

وأنه لن يسلب شيئا يملكه، وقد علل إبراهيم عليه السالم حدوث الخوف وعدمه،ولكن}رجع معنى الشرك أيضا إلى عناصره األولية. علينا أن ن

لقد كان إبراهيم منسجما مع نفسه وأفكاره، من البداية وحتى النهاية، فهو الذي}م)واجه األصنام وعبادتها في مجتمعه بالتساؤل اإلبراهيمي الكبير: قال هل يسمع}ونك

}ون( }وا: بل وجدنا آباءنا كذلك يفعل ون؟ قال }م أو يض}ر الشعراء:[إذ تدع}ون و ينفع}ونك ، كان يعود إلى المرجعية األساسية، إلى مرجعية النفع والضرر، وبهذا] 26/72-74

المعنى كان إبراهيم هو البراغماتي األول الذي سأل عن نفع األشياء وضررها، أما بل وجدنا آباءنا كذلك)الذين كانوا يحاجونه ؛ فكانت مرجعيتهم تستند إلى اآلباء:

}ون(. يفعل لم يضيع إبراهيم المرجعية األساسية، أال وهي قانون الله في معرفة الحق

} فيذهب} ج}فاء، وأما ما ينفع})والباطل: بد ه} الحق والباطل فأما الز كذلك يضرب} الل}ث} في األرض( اس فيمك ، هذا هو القانون الذي يحكم العالم، إنه] 13/17 الرعد: [الن

روح العالم الذي تجسد في اإلنسان، وهو يعني أن األنفع هو الذي سيبقى، وأن األقلنفعا سيزول مهما طالت حياته، ومهما امتد عرضا وعمقا.

الخير واألبقى هو الذي سوف يستمر، والزبد سوف يذهب جفاء غير مأسوفعليه، ولن تبكي عليه أرض وال سماء، ألن الذي سيأتي بدال منه هو األنفع.

إن الذي يدرك قانون التاريخ وسنة الله وميزان النفع والضرر ؛ يتخلص من وكيف أخاف})الشرك، ويزول عنه الخوف، ويصبح مثل إبراهيم عليه السالم الذي قال:

لطانا فأي الفريقين }م س} ل به عليك }نز ه ما لم ي }م بالل }م أشركت ك }م، وال تخاف}ون أن ما أشركت.] 6/81 األنعام: [أحق باألمن(

بعد هذا التحليل، نعلم مقام إبراهيم عليه السالم في تاريخ النبوة، وفي تاريخبي)المرجعية التي تفصل الحق عن الباطل: بع}وه} وهذا الن ذين ات اس بإبراهيم لل أولى الن

}وا( ذين آمن .] 9/114 التوبة: [إن إبراهيم ألواه حليم( )، ] 3/68 آل عمران: [والإبراهيم وسقوط مرجعية اآلباء:

( )إبراهيم هو الذي سمانا المسلمين }م الم}سلمين من قبل} الحج:[ه}و سماك ، وهو الذي تحدث بالقانون الكوني، قانون الزبد، فكانت الحجة اإلبراهيمية:] 22/78

ون( ) }م أو يض}ر }م إذ تدع}ون، و ينفع}ونك .] 73-26/72 الشعراء: [قال هل يسمع}ونك هذا هو قانون التاريخ، وليس هذا فحسب ؛ بل هو قانون الحالل والحرام:

اس، وإثم}ه}ما أكبر} من) }ونك عن الخمر والميسر ق}ل: فيهما إثم كبير ومنافع} للن يسألما الخمر})، ألن إثمهما أكبر من نفعهما تحوال إلى رجس: ] 2/219 البقرة: [نفعهما ( إن

}فلح}ون( }م ت ك }وه} لعل يطان، فاجتنب [والميسر} واألنصاب} واألزالم} رجس من عمل الشم} عليهم)، وأما الحالل فهو الطيب النافع: ] 5/90المائدة: }حر بات وي }حل له}م الطي ي

، ومن هنا كانت القاعدة الفقهية الشاملة: » الواجب هو] 7/57 األعراف: [الخبائث( ما كان نافعا أو غالبا، والحرام هو ما كان ضارا دائما أو غالبا «.

هذا هو القانون، وهذه هي المرجعية التي نعرف بها الحق من الباطل، والصحة من الخطأ، وهذا ما انتهى إليه محمد إقبال حين درس الحضارات والثقافات، وقرر أن

الحكم ألي من الحضارات أو الثقافات يكون لها أو عليها، بالنظر إلى نموذج اإلنسان الذي تنتجه، وهذا ما ذكره اإلنجيل للتفريق بين األنبياء ومدعي النبوة حين قال: » من

ثمارهم تعرفونهم، هل يمكن أن تجني من الحسك تينا، ومن الشوك عنبا «. إن المرجعية ال تكون في اآلباء، وإال كان تفكيرنا مثل تفكير قوم إبراهيم، بل

المرجعية هي مصير ما كان عليه اآلباء خالل التاريخ.

Page 26: كـــن كابن آدم - Jawdat Said · Web viewكن كابن آدم المحتوى الموضوع الصفحة المحتوى المقدمة تمهيد: لغة الحروف ولغة

}م وال)إنها ليست في االنتساب إلى الله ومالئكته وكتبه ورسله،: ك ليس بأماني}جز به( وءا ي .] 4/123 النساء: [أماني أهل الكتاب، من يعمل س}

ما قصة معترك األفكار في التاريخ؟ كيف تعامل الناس مع مشكلة الفهم خاللالتاريخ؟ كيف تعاملوا مع معترك األفكار واألجساد؟

هل استطاعوا أن يفصلوا معترك األفكار عن معترك األجساد؟ هل استطاعوا أنينادوا بهذا الفصل أو يعملوا له؟

لقد قام المؤرخ ينبي برصد التاريخ خالل ثالثة آالف من السنين، وذكر نحو ستة شخصيات ال تزال تؤثر في العالم أكثر من غيرها، منهم كونفوشيوس، وبوذا والمسيح

، وذكر أن القاسم المشترك األعظم الذي يميز هذه الثلة عن غيرها أنهمومحمد كانوا يدعون إلى الخروج من عبادة المجتمع )اآلباء(، وأن أكثرهم كانوا يؤمنون بحياة

أخرى.}عد تطورا في حياة اإلنسان وتاريخه، إن التمكن من الخروج من مرجعية اآلباء ؛ ي وإن كانت فكرة التوحيد اإلبراهيمي التي تجعل المرجعية في النفع والضرر ؛ لم تصر

مرجعا موحدا بين الناس، ولم يتطور البشر بعد ليتخذوا من ميزان النفع والضررأساسا في تحديد المرجعية.

إن كل جماعة ترى في آبائها مرجعا، ولكن سقوط مرجعية اآلباء أحدثت بلبلة في العالم الفلسفي في العصر الحديث، ولما يبدأ الفالسفة بعد بإقامة القانون الموحد بين

الناس جميعا، والزالت روح االستكبار تحول دون تعميم القاعدة، وتوحيد المرجعية. إن مجلس األمن الذي مح لبعض أعضائه حق النقض )الفيتو( ؛ ليس خاضعا

}م األعلى( )للقانون العام الموحد، بل يتحكم فيه قانون: ك ،] 79/24 النازعات: [أنا رب القانون الذي يقول: أنا قوي جسديا، وال يشترط أن أكون قويا فكريا، وال يجب علي أن

أوحد القانون وأطبقه على الجميع، ولذلك ال أقبل كلمة السواء وال كلمة التقوى، وال أرضى أن تكون كلمة توحيد الناس أمام القانون هي األعلى، ولن أتنازل عن أن أكون

أنا األعلى!!..هل نستطيع أن نصحح هذا الميزان ونوجد الوزن بالقسط؟

العدل وفصل معترك األفكار عن معترك األجساد أيها الناس! إنكم تحبون الوزن بالقسط والعدل ما دمتم مظلومين ومستضعفين، أما حين تصير لكم السيطرة والقوة ؛ فسوف ترفضون كلمة السواء وكلمة التوحيد،

وال تقبلون أن يتساوى الناس جميعا أمام كلمة السواء وميزان واحد. امتحن ذاتك، وستعرف انك لن تستطيع أن تكون عادال ؛ إال إذا فصلت معترك

األفكار عن معترك األجساد باطمئنان، وقبلت قانون معترك األفكار، ورفضت إدخالمعترك األجساد في معترك األفكار.

ينبغي أن تصل إلى إيمان ابن آدم وموقفه، حتى يكون قولك مطابقا لعملك، وإال لن تكون صادقا بادعائك قبول كلمة السواء، وادعائك انك فصلت معترك األفكار عن

وما نقم}وا)معترك ألجساد، ولن نصدق أنك فهمت الهدف والمغزى من قوله تعالى: ه العزيز الحميد( }وا بالل }ؤمن أن ي ، كال ولن نصدق أنك فهمت] 85/8 البروج: [منه}م إال

}م}ونا( )المغزى والهدف الذي جاء من اجله األنبياء الذين قالوا: [ولنصبرن على ما آذيتل من قبلك)، وال الهدف والمغزى من قوله تعالى: ] 14/12إبراهيم: س} }ذبت ر} ولقد ك

ه( ل لكلمات الل نا وال م}بد ى أتاه}م نصر} }وذ}وا حت }وا وأ }ذب وا على ما ك 6/34 األنعام: [فصبر}[.

إنك إن لم تصل إلى إيمان ابن آدم وفهمه، فانك ال تكون دخلت معترك األفكار والذقت قوانينها.

Page 27: كـــن كابن آدم - Jawdat Said · Web viewكن كابن آدم المحتوى الموضوع الصفحة المحتوى المقدمة تمهيد: لغة الحروف ولغة

إن األمور الزالت ملتبسة، حتى إننا لم نؤمن بعد بفعالية عالم األفكار، ولم نشعر أننا نستطيع أن نربح معترك األفكار، ولذلك فنحن منهزمون قبل أن ندخل إلى هذا

المعترك، وبموجب هذه العقلية فإننا سنخنق األفكار في مهدها، وسندفنها حية ؛ متىصار لنا قوة وسلطان، ولن نصبر على أي فكر يخالفنا.

كم مرة تكرر هذا في تاريخنا؟!!ماذا يحدث لدعاة حرية الرأي.

ال إكراه في الدين(؟)ماذا يحدث لدعاة فكرة }وذ}وا( )تأمل في قوله تعالى: }وا وأ }ذب وا على ما ك !] 6/34 األنعام: [فصبر}

إذا كنت ال تصبر على التكذيب واألذية في معترك األفكار، وتلجأ بدال عن ذلك إلىمعترك األجساد، فإنك بدل أن يتعمق دخولك إلى عالم األفكار وتنحرف عنه.

ال تتحدث عن األفكار حين تكون في معترك األجساد، ألن األفكار عندها لن يكون لها مكان في ميدان تتصارع فيه األجساد، وال يوجد أناس يلتزمون بمعترك األفكار على

أساس دائم وثابت واستراتيجي. إن الذين ينجرون إلى معارك األجساد بالتحرشات وااليذاءات، هؤالء لم يتعمقوا

في اإليمان بعالم األفكار ولم يفهموه، ألن باإلمكان إخراجهم منه، هؤالء الذين ليدهم استعداد للخروج من عالم األفكار والوقوع في حبائل الغواية واإلغواء ؛ جدير بهم أال

ينجحوا في معترك األفكار، وحتى وغن نجحوا في معارك األجساد ؛ فإنهم لن يستطيعوا أن يحيوا قوانين معترك األفكار، ألن فاقد الشيء ال يعطيه، هو فقد معترك األفكار وانجر إلى حمأة المعارك الجسدية، ولهذا لن يستطيع أن يحمي عالم األفكار

وقوانينه. وال يكفي مجرد االنتصار في معترك األفكار بقانون األفكار، وبدون إشراك معترك

الجسد في الصراع، ألن اللتزام باألفكار وقوانينها بعد ذلك يكون أصعب، وخاصة إذاكان هذا األسلوب جديدا في عالم الفكر.

إن عهد دعوة األنبياء لم يأت بعد، وال تزال دعوتهم في رحم التاريخ، ولكنها ستولد، وستحيا، وسترى النور، ولكن علينا أن نعلم جيدا في أي وضع نحن اآلن، وما هي

األمراض الخطيرة التي نحملها وال تظهر إال في حينها. من هنا كان جواب موسى عليه السالم لبني إسرائيل حين استبطؤوا الفوز، وقد

ذكر الله لنا هذا الحوار:}هلك) }م أن ي ك }وذينا من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جئتنا، قال: عسى رب }وا: أ قال

}ون( }م في األرض فينظ}ر كيف تعمل }م ويستخلفك }وك ، وقال الله] 7/129 األعراف: [عد}ون( )تعالى: }م خالئف في األرض من بعدهم لننظ}ر كيف تعمل }م جعلناك يونس:[ث10/14 [.

ال إكراه في الدين(:)اإلسالم و لقد تقدم التاريخ تقدما كبيرا، وقطعت البشرية مراحل متعبة إلى أن اضطرت

ال إكراه في الدين(.)لقبول مبدأ: ال إكراه في الدين(، وقال: » لقد جاء بها)وقد تحدث المؤرخ توينبي عن فكرة

اإلسالم من زمن بعيد، ولم نقبلها نحن هنا في بريطانيا إال في وقت متأخر جدا «، حتى إن مشكلة إيرلندا إلى اآلن من عقابيل عدم رسوخ تلك الفكرة، لكن الفكرة ولدت

على كل حال، وخرجت من األرحام، واألفكار الجديدة المخالفة لما هو سائد في}رفض، المجتمع ؛ تأتي شاذة ومنكرة، سواء في الفلك أو الحياة أو النفس اإلنسانية، فت ثم يتعرف عليها بعض األشخاص الذين لهم قدرة على التأمل، ثم يبدؤون بالتحدث بها

Page 28: كـــن كابن آدم - Jawdat Said · Web viewكن كابن آدم المحتوى الموضوع الصفحة المحتوى المقدمة تمهيد: لغة الحروف ولغة

}قبل من المأل، ثم تنتشر وتهم الناس، ثم تترسخ في األعماق، فال يعودون حتى تيذكرونها، بل يبنون سلوكهم عليها دون شعور منهم.

إن مشكلة التدين وقبول تغيير الدين الزالت مشكلة بشرية، فالدين كان يولد مع اإلنسان، ال بل إن اإلنسان يكتسبه بعد والدته من مجتمعه، وبعد ذلك يجتهد المجتمع

للمحافظة على دينه، وال يسمح ألبنائه بالخروج عنه. ال إكراه في)لقد دفعت اإلنسانية ثمنا باهظا حتى قبل الناس الفكرة القائلة بـ

الدين(، وغن كانوا لم يطمئنوا إليها بعد. إن العالم اإلسالمي يرفض هذه الفكرة، وإن كان يقبلها في مستوى األديان مع كثير من السطحية، فالفكر اآلخر المعارض غير مقبول إلى اآلن، والناس في العالم

اإلسالمي لم يقبلوا حرية الفكر باطمئنان، بل قبلوها اضطرارا، وهي إلى اآلن لمتنتشر بينهم، رغم بروزها دعوة عريضة في الدساتير المسجلة.

}سجل في القلوب، ولم يطمئن الناس إليها، وهذا دليل على حداثة عهد إنها لم ت ال)اإلنسان في الدخول إلى عالم األفكار، فضال عن قبول المرجعية الموحدة، أو قبول

إكراه في الدين( وال إكراه في السياسة. إن فكرة اإلكراه، وفكرة الخضوع للطاغوت والخوف منه ومن تحديه، هاتان

الفكرتان راسختان في ال شعورنا، موجودتان بقوة في مجتمعاتنا، إلى درجة أني قلت مرة: إن العلم والعقل في مجتمعاتنا اإلنسانية كلها، ال زاال مخلوقين قاصرين، وال يرى

أهل الهوى والطغيان في العالم كله أي حاجة إلى مدارتها، بل إن الهوى ليتربع على عرش القوة ويدعو العلم والعقل ليؤديا طقوس االحترام والطاعة والثناء له ولإلكراه، ثم يؤمران باالنصراف فينصرفان وهما يتمتمان بكلمات تدل على شيء من االمتعاض

الداخلي، كما أن فيهما شيء من عدم الخجل، إذ ال يوجد وعي يجعلهم يخجلون منهذه الشهادة المظلمة التي ال يوجد فيها شيء من الضياء.

بل إن ورثة األنبياء من اآلمرين بالقسط من الناس ال يزالون متفرقين ومبعثرين، ال تعارف بينهم وال تآزر وال تعاون، لم يشكلوا سلطة رقابة على الفساد في األرض

ليقوموا بدور الشهادة للحق والقوامة بالقسط، فكأنهم إلى اآلن ال يشعرون بأي مسؤولية، وال يعلمون أن عليهم مسؤولية القيام بدور اإلنذار والتبشير وتوعية الناس

إلى تاريخهم، وفتح أعينهم إلى مستقبلهم، وإشعارهم بأنهم يستطيعون أن يتحرروا منعبادة الخطأ، ويمكنهم أن ينصروا الصواب.

إن أقل ما يجب على اآلمرين بالقسط من الناس هو أن يرشدوا الناس إلى أاليدخلوا إلى المعارك الجسدية، وإال يكونوا بنادق بأيدي حراس االمتيازات في العالم.

إن فكرة أال يتحول اإلنسان إلى بندقية وسوط بيد الجالد، وأن يخرج من أن يكون مجرد أداة بيد أصحاب االمتيازات، هي فكرة مهمة وسهلة التطبيق مهما تراءى لنا أنها صعبة، ومن هنا كان المسيح عليه السالم يقول: » أيها المتعبون في العالم هلموا إلي،

عن نيري خفيف «. إن هذا البديل خفيف، وإذا انتبه اإلنسان إليه وجده} خيرا وأبقى، ويمكننا أن نكشف

هذا البديل في المخبر، في التاريخ، وعلينا بعد الكشف عن هذا البديل أن نحوله إلى ثقافة، إلى علم راسخ، إلى الشعور يهيمن عليه الشعور، لتتحول السلطة إليه، ال أن

يكون الشعورا غير مضبوط، وقابال لالنفجار دون ضوابط. البد من فهم هذه التقنية، البد من كشف هذا المنجم الثر المعطاء، البد من فتح

األسماع واألبصار، البد من استثمار هذا الكنز!!.. إن الجيوش في العالم كله تعلم الجنود أن يطيعوا األوامر وينفذوها قبل االعتراض عليها، نعم العالم كله يربي جنوده على أن يكونوا بنادق مجردة من اإلحساس والتمييز

Page 29: كـــن كابن آدم - Jawdat Said · Web viewكن كابن آدم المحتوى الموضوع الصفحة المحتوى المقدمة تمهيد: لغة الحروف ولغة

والفرقان، وأن يكونوا مجردين من المحاكمة الذهنية، والميزان الذي يفرق بين الخطأوالصواب، وعليهم فقط أن ينفذوا األوامر التي تأتيهم من قادتهم وزعمائهم.

هذا األمر أيضا يؤكد الفكرة التي أقولها من أن عهد األنبياء لم يبدأ بعد، نعم إنه لم}فهم من قبلهم حتى اآلن. يأت إلى حياة البشر، ولم ي

ال طاعة في لمعصية.(1)لقد جاء األنبياء بشيء عجيب، جاؤوا بفكرة » ال طاعة في معصية «

هذه الفكرة عميقة وبسيطة وصعبة في آن واحد، وعمقها نابع من بساطتها،وصعوبتها تكمن في سهولتها.

ال طاعة في معصية، ال تنفيذ لألوامر دون قانون، دون شرط، لقد أدخل األنبياء إلىالناس هذه الفكرة االنقالبية )الكوبرنيكية( في سلوك اإلنسان.

» ال طاعة في معصية »!!.. ما هي المعصية؟ كيف نفهمها أم كيف نفهم الطاعة، كيف نحصل على الفرقان

والميزان، كيف، كيف؟ نعم، هذا ما أريد أن أبحثه واكشفه، أريد أن ابحث معنى الطاعة ومعنى المعصية،

متى تحين هذه، ومتى تحين تلك؟ ما هو الميزان الذي يبين كل هذا؟ حقا إنها فكرةعلوية إلهية.

اإللهي السماوي والسفلي األرضيالطاعة لله والمعصية للطاغوت!!..

ولكن كيف نتعرف على الله، وكيف نتعرف على الطاغوت؟ ينبغي أن نجد دليال على هذا الشيء العلوي السماوي من العالم السفلي األرضي، ألن العلوي السماوي جعل برهانه ودليله في العالم األرضي السفلي، وما ذلك إال ألن

هذا العالم هو الذي يقع تحت أسماعنا وأبصارنا، وهو الذي نستطيع أن نفهمه وندرسه،ولكن من ذا الذي يستطيع أن يقيم الدليل األرضي على هذا العلوي السماوي؟!!..

إن العلوي يأمرنا أن ننظر إلى العواقب، وأن ننظر إلى الخسائر والمرابح، ويقوللنا: انظروا إلى اإلحصاءات، انظروا إلى المثالت.

هذا العلوي يمكن أال يكون حقيقيا، بالنسبة لنا، إال إذا كان دليله سفليا وأرضياوواقعيا وعينيا وبصريا وإحصائيا )رياضيات، حساب، لمس،..(.

غو واالشتباه وااللتباس، وتحدث }حدث الل أين ورثة األنبياء الذين يجعلون األرض تالحيرة، وتسيطر العبثية والتشاؤم، وتتراخى الجهود.

إنهم يلغون:}ون( ) }م تغلب ك .] 41/26 فصلت: [ال تسمع}وا لهذا الق}رآن والغوا فيه لعل}وره( ) ه} م}تم ن ه بأفواههم والل }ور الل }وا ن }طفئ }ريد}ون لي .] 61/8 الصف: [ي

يريدون للسحر أن يبقى:احر} حيث} أتى( ) }فلح} الس .] 20/69 طه: [وال ي

من الذي سيجعل الفرقان بيد الناس؟ من ذا الذي سيجعلنا نفهم أن الله معنا في األرض كما هو في السماء؟ نلقاه عند

المريض، عند الجائع، عند الجاهل ؛ حينما نكون معهم نكون مع الله. إنه قريب، وقريب جدا، وأقرب من حبل الوريد، وأقرب إلينا من جارنا الجاهل

الذي هو أحوج ما يكون إلى المعرفة، إلى الفرقان، إلى حقنة إنعاش!!..

( ومسلم في االمارة ،6725 رواه البخاري في االحكام ، باب : السمع والطاعة لالمام ما لم تكن معصية ، رقبم ) (1) ( .1839باب : وجوب طاعة االمراء في غير معصية ، رقم )

Page 30: كـــن كابن آدم - Jawdat Said · Web viewكن كابن آدم المحتوى الموضوع الصفحة المحتوى المقدمة تمهيد: لغة الحروف ولغة

}نا) ت }ولئك له}م األمن} وه}م م}هتد}ون وتلك ح}ج }لم أ وا إيمانه}م بظ }وا ولم يلبس} ذين آمن اله لوجد}وا)، ] 83-6/82 األنعام: [آتيناها إبراهيم على قومه( ولو كان من عند غير الل

.] 4/82 النساء: [فيه اختالفا كثيرا( ينبغي علينا أن نتأمل في الجهاز االجتماعي دائما، وان نتفكر في الكتاب وفق

إشارات الواقع، وان نتفكر في الواقع وفق إشارات الكتاب. إن الكون مسخر لإلنسان، بما في ذلك المجتمع، أي أن بإمكان اإلنسان أن يسخر

المجتمع ويجعله منضبطا بقوانين التزكية والتدسية، كل هذا بالتعامل مع القابلية الموجودة في اإلنسان، وبالتعامل مع القوة الموجودة لدى هذا اإلنسان، والتي تجعله

قبال للتزكية والتدسية.اإليمان والظلم

}لم(، لكي نتعامل مع اإلنسان من منظور هذه) وا إيمانه}م بظ }وا ولم يلبس} ذين آمن ال اآلية ينبغي أن نعرف اإليمان والظلم، وإمكانية االلتباس بينهما، وأن األمن والهداية إنما

يحدثان حين يزول االلتباس بين اإليمان والظلم. إذن، ينبغي علينا أوال أن نفصل بدقة بين اإليمان والظلم، فإذا زال اللبس حصلت

الهداية واألمن.هل نستطيع أن تقترب من فهم كل من اإليمان والظلم؟

لعل إمكانية فهم الظل أقرب من إمكانية فهم اإليمان، ولكن اإليمان يتوضح حين نفهم الظلم، فاإليمان قد يكون بالحق وقد يكون بالباطل، قد يكون إيمانا بالله، وقد

يكون إيمانا بالطاغوت. إننا إن نظرنا إلى العالم نجد أن اإليمان موجود إلى درجة أن في الناس من يحرق

نفسه في سبيل ما يؤمن به، ويبذل ماله وكل إمكاناته في سبيل معتقده الذي ربما يكون خطأ، ولكن هذا اإليمان مبعثر، وليس هذا فحسب ؛ بل إن هذا اإليمان قد يكون عامال سلبيا، والذي يكون عامال سلبيا، والذي يوجهه إلى اإليجاب أو السلب هو نحن،

ولذلك علينا أن نبحث في الكيفية التي تمكننا من أن نوجهه إلى اإليجاب ال إلىالسلب، وهذا ما سيؤدي بنا إلى فهم موضوع الظلم.

الظلم ضد العدل، وبضدها تتميز األشياء، والعدل هو المساواة، ويقال للكيس الذي}حمل على جانب من البعير عدل، ويكون على البعير عدالن، أي كيسان متعادالن، ي

ليتوازن الحمل على ظهره، وكلما كانا متساويين كان الحمل أكثر توازنا، وإذا اختلفااختل الحمل وصعب تحقيق التوازن.

العدل} هو أن تعطي لآلخر مثل ما تعطي لنفسك، أو أن تعطي لنفسك مثل ما تعطي لآلخر، وحين ترفض هذا تكون واقعا في الظلم، وبقدر رفضك للعدل بقدر ما

تقع في الظلم، إن قليال فقليل، أو كثيرا فكثير. تأمل هذا وال تضيعه، وال يلتبس عليك، ألنه بقدر ما يلتبس عليك بقدر ما تفقد من األمن والهداية، والمجتمع الذي يقع فيه االلتباس، ويختلط نظامه بالظلم، يفقد أبناؤه

األمن والهداية. أحيانا أشعر أنني أقترب من اإلمساك بتقنية المجتمع،وأشعر أن آليات المجتمع قد

خرجت من الظالم وصارت تحت الضوء، فكيف نحتفظ بالنور، كيف نمسك بالضياءإلزالة اللبس، ولالمساك باألمن الداخلي والراحة النفسية واإلحساس بالهداية؟

إن األمن أهم من الهداية، ألنك إذا حصلت على األمن شعرت انك مهتد، وما دمتخائفا فإنك لم تهتد ولم يحصل لك األمن.

نعم، قف عند المكان الذي تشعر فيه أنك أضعت المفاتيح وغاب عنك النور وحصللديك االلتباس.

Page 31: كـــن كابن آدم - Jawdat Said · Web viewكن كابن آدم المحتوى الموضوع الصفحة المحتوى المقدمة تمهيد: لغة الحروف ولغة

كيف أستطيع أن أمسك باإليمان الذي ليس ملتبسا بظلم حتى أحصل األمنوالهداية؟

اإليمان ومذهب ابن آدم األول هل نستطيع أن نفهم أن اإليمان الذي ال يشوبه الظلم ال يمكن أن يكون إال عن

طريق مذهب ابن آدم األول؟ إن المجتمع الذي ال يمر بمذهب ابن آدم ليس غير راشد فحسب ؛ بل إن إيمانه ال

}فقده األمن والهداية. يمكن إال أن يكون ملتبسا بالظلم، وهذا االلتباس هو ما ي عن المجتمع الذي يصنعه القاتل هو مجتمع يلتبس بالظلم، وال يشعر باألمن، ألنه

ة ووضع قانونا ليس فيه كلمة السواء، وكيف تكون فيه كلمة السواء يكون قد سن سن وقد خرق العهد وخرق المساواة وسن الظلم، ولهذا فإن المجتمع الذي ال يمر بابن

آدم يكون مبنيا على قانون ال مساواة فيه، قانون يأخذ بطريقة التسلسل، يعطي الحق لصاحب القوة، ومقدار المساواة فيه أنه يجعل لآلخر الحق في أن يأخذ بالقوة كما أخذ

األول، وبهذا لن ينقطع الظلم، ألنه مبني على الخراب. هذا هو التيه الذي وصل إليه العالم اإلسالمي عندما نب طريق السواء الذي يؤدي

إلى السالم. هذا هو طريق االمتيازات التي تؤخذ بالقوة، إنه الطريق الذي يؤدي إلى الغي

المستمر. إنني ال أستطيع أن أوضح هذه األفكار بعبارة جيدة واضحة، ولكنني أظن أنني

ساهمت في دفعها إلى األمام، إلى شيء من الوضوح. ينبغي أن نتذكر أننا إذا صنعنا قانونا ما، أي قانون كان، فإنه ينبغي أن يطبق على الجميع، علينا وعلى اآلخرين، ولهذا قال عيسى عليه السالم: » كل من اخذ بالسيف،

بالسيف يهلك «، وهذا القانون الصحيح.الفصل الثاني

الخوف من المعرفة(:كن كابن آدمبدايات التفكير بـ )

منذ زمن بعيد كان يخطر لي أن أكتب لكتاب )مذهب ابن آدم األول( جزءا ثانيا، ولعل الموضوع لم يكن لينتهي لو أنني كتبت جزءا ثانيا في ذلك الوقت، ولشعرت اآلن

أن علي أن أكتب جزءا ثالثا. حين كتبت كتاب )مذهب ابن آدم األول( قبل ثالثين سنة ؛ كنت أشعر أنني لم

أتمكن من إيضاح الموضوع، وأن ذلك بعيد المنال، ومع ذلك شعرت في حينها بضرورة أن أسجل األفكار المتوافرة وأنشرها بسرعة، ولعل الهاجس الذي كان يحثني على

نشرها على الرغم من عالتها، هو خوفي من أن أضيع تحت أرجل الفتن دون أن أسجل رأيي في هذا الموضوع، وألجل هذا عقدت} فصال في الكتاب بعنوان: )لإلعالن وليس

دعيت إلى إمارة الشارقة في الخليج ألتحدث عن مذهب1990لإلقناع(، وفي عام ابن آدم األول، وهناك قال لي محمد سالم القاسمي، وهو الشخص الذي دعاني: لقد

آن األوان كي تكتب من جديد كتابا ال يهدف إلى اإلعالن فقط، بل لإلقناع أيضا. ومع أن نفسي كانت تراودني ألكتب، ولكن لم أكن ألبدأ في التنفيذ، وقد كتبت

بعض األفكار، ولكنها لم تصل إلى حد إخراج كتاب كامل في هذا الموضوع. لقد طالبني الكثيرون ممن يعرفونني، ويعرفون هاجسي، بالكتابة في هذا

الموضوع وبتنفيذ هذا الهاجس، وكان منهم الكاتب عبد الحليم أبو شقة، وأختي ليلى،

Page 32: كـــن كابن آدم - Jawdat Said · Web viewكن كابن آدم المحتوى الموضوع الصفحة المحتوى المقدمة تمهيد: لغة الحروف ولغة

وغيرهما كثير، وكنت أشعر بصحة طلبهم، ولكن لم يكن األمر ليصل إلى درجة التنفيذ،وذلك لعوائق التطلع إلى النضج والتكامل.

ألحت علي أختي ليلى أن أزورهم في كندا، وكنت قبل ذلك قد1995وفي عام رفضت طلبها مرارا، ولكنني في هذه المرة وافقت كي ال أصدمها برفض طلبها

وإلحاحها الشديد وغير العادي، وكأنها أشعرتني أن األمر سيبقى في قلبها إن رفضتالزيارة، فقبلت وأنا غير مقتنع بجدوى هذه الزيارة.

كانت ترى أن الفرصة مواتية، وأنها قد ال تتوافر بسهولة مرة أخرى، إذ ال توجد موانع ملحة ومعقولة تحول دون تحقيق الزيارة، وكانت تقول لي: ربما تتمكن هناك

من كتابة الجزء الثاني لكتاب )مذهب ابن آدم األول(، الذي طال عليه األمد ولميتحقق بعد.

وفي النهاية غادرت دمشق إلى كندا برفقتها، ومررنا بعمان وأقمنا فيها خمسة أيام كانت حافلة بالحديث عن مذهب ابن آدم، ثم أخذنا طريقنا إلى كندا التي بقيت فيها

م، والتقينا الناس هناك، وزرنا الواليات المتحدة خالل17/8/1995 إلى 4/7من تاريخ هذه المدة وعدنا منها، وفي يوم الثالثاء جمعت لي األوراق وقالت: ينبغي أن تكتب،

فوعدتها أن أبدأ في صباح اليوم التالي، ولكنني لم أكن أدري كيف سأبدأ الكتابة. استيقظت في الساعة الثالثة صباحا وأنا أفكر في هذا الموضوع اإلنساني الكبير،

محاوال إبراز أهمية موقف ابن آدم الذي رفض الدخول في مغامرة العنف.ابن آدم ومشكلة الفساد

حين كتبت عن مذهب أن آدم ؛ اخترت هذا العنوان، ألنني كنت أحس أن هذا الموضوع هو مشكلة اإلنسان من عهد ابن آدم األول القديم في التاريخ، إلى

المستقبل الذي يمكن أن يخضع لمنظورنا.}فسد} فيها كانت التهمة التي وجهت لإلنسان حين استخلف في األرض انه سي

هم به. ويسفك الدماء، ولو كان هناك ذنب أكبر في إدانة اإلنسان الت لقد ذكروا الفساد وسفك الدماء، ولم يذكروا عدم اإليمان بالله واليوم اآلخر

وممارسته التوجه إلى المشرق والمغرب، وهذا دل على أن مشكلة الفساد وسفك الدماء هي أم المشكالت، وان التصورات التي تؤدى إلى ممارسة هذا الطقس الفظيع

؛ هي من أكبر العيوب التي يمكن أن توجه لإلنسان اإلدانة عليها. أشعر أن هذه التهمة التي وجهتها المالئكة لإلنسان، هي التهمة التي سيوجهها

الناس في المستقبل البعيد، وسيتساءلون: كيف كان الناس يمارسون هذه الطقوس؟،وسيتعجبون كثيرا، وسيحمدون الله ألنهم تخلصوا من تقديم القرابين البشرية.

وكلما قرأت أو تذكرت عادات المكسيكيين في تقديم القرابين البشرية الكثيرة العدد، وإخراج قلوبها وهي تنبض، شعرت انه البد من دراسة هذا الموضوع، وتحليل

اإلنسان الذي يحمل طبيعة مزدوجة قابلة للتزكية وقابلة للتدسية، والمكسيكيون الذين نتحدث عنهم كانوا يعيشون بعد نزول القرآن وختم النوبات، ولذلك البد من إعادة

دراسة الوضع البشري الذي كان يعيش عليه المكسيكيون، وأحداث التاريخ قابلة ألن يعاد فهمها وتفسيرها من جديد في كل عصر، واإلسالم الذي جاء به األنبياء جميعا

}كتشف، وسيعاد فهمه وتفسيره في كل عصر بما يتالءم مع األوضاع التاريخية لذلك سيالعصر، وسنفهم من جديد كيف كشف اإلنسان النار والزراعة والكتابة.

إنني كلما تحدثت عن التهمة الموجهة لإلنسان من الفساد وسفك الدماء، وعن جواب الله تعالى عن هذه التهمة وهو أن الله يعلم في هذا اإلنسان ما لم يعلمه

}ضيع مغزى الحديث وأهمية الموضوع، وهو همون ؛ أواجه بالسؤال التقليدي الذي ي المتقولهم: كيف علموا أن هذا المخلوق سيفسد في األرض ويسفك الدماء؟

Page 33: كـــن كابن آدم - Jawdat Said · Web viewكن كابن آدم المحتوى الموضوع الصفحة المحتوى المقدمة تمهيد: لغة الحروف ولغة

إنهم يبخعون الموضوع، ويضيعون المغزى والهدف من الخبر، وذلك حين يتناولون الجانب الذي ال يتصل بحل المشكلة التي أراد الله أن يسوق الخبر من جله، فهم ال

يوجهون انتباههم إلى الكيفية التي نتخلص بها ن التهمة، بل يتوجهون إلى السؤال عن الكيفية التي مكنت المالئكة من معرفة مستقبل اإلنسان وفساده وسفكه للدماء، مع

ي أعلم} ما ال تعلم}ون( )أن الله تعالى لم يبحث هذا األمر وإنما قال: 2/30 البقرة: [إن ، أعلم في هذا اإلنسان شيئا يختلف عن العلم الذي عندكم عنه، ثم قال بعد ذلك]

ها( )مباشرة: }ل م آدم األسماء ك .] 2/31 البقرة: [وعلها(؟ ال بل من هم الذين)من الذي سيكتب عن قوله تعالى: }ل م آدم األسماء ك وعل

سيكتبون عن علم آدم لألسماء؟ إن أهمية هذا الموضوع تكمن في أن الله تعالى أشار بهذا إلى الميزة التي يمتاز

بها آدم عن باقي المخلوقات، ميزة التعلم بالرمز، وبهذا سيتجاوز اإلنسان الفسادوسفك الدماء.

بهذه الميزة العجيبة، واألداة التي تحصد المعرفة يتمكن اإلنسان من االرتقاء،م آدم األسماء()والتخلص من مشاكل الفساد وسفك الدماء، ومن ال يتذوق معاني وعل

ال يدخل إلى عالم اإلنسان وإمكاناته، ولهذا البد من بحث هذا الموضوع، حتى ولوكمقدمة ومدخل لدراسة اإلنسان.

إذن، كيف سندخل إلى مذهب ابن آدم ونحن ال نملك أدوات البحث والمعرفة؟ ونحن ال نعرف اإلمكانيات المستقبلية البسيطة المرتبطة بتعلم آدم لألسماء،

وباإلمكانيات التي تحققت في الماضي بواسطة قدرة آدم على إطالق األسماء.}واجه اليوم بسؤال عن الكيفية التي علمت المالئكة بها أن اإلنسان سيفسد وكما ن

في األرض ويسفك الدماء، كذلك واجه األولون موضوع تعلم آدم لألسماء بمثل هذا اإلحباط والتشويه، حين بحثوا عن األسماء التي تعلمها آدم، وعن اللغة التي تعلم بها هذه األسماء، ولم يبحثوا في أن األسماء المنطوقة أوال، والمكتوبة ثانيا هي الوسيلة

الوحيدة لنقل الخبرات من دماغ إنسان إلى دماغ إنسان آخر، وأن اإلنسان بهذهالوسيلة يتمكن من تزكية نفسه أو تدسيتها.

كيف نبدأ البحث ومن أين؟ وماذا سنقول فيه؟ وهل سنتمكن بالبحث والكتابة منتقريب الموضوع وتبسيطه؟

أظن أننا يمكن أن نزيد في الموضوع، مهما كانت هذه الزيادة ضئيلة، وما ينبغي أن نبخس جهودنا مهما كانت جدواها قليلة، فإذا علمنا الكيفية التي حدث بها التقدم البشري عبر النمو البطيء والكئيب والمضني، والكم الهائل من البشر الذين ماتوا،

والذين عانوا الكثير من اآلالم، حتى حدث هذا التقدم البطيء، بهذه المعرفة نستطيعأن نحدد اتجاهاتنا المستقبلية، وما علينا أن نقو به في سبيل التقدم المنشود.

}ذل في سبيل دفع إنها لجهود مباركة ومقدسة مهما كانت ضئيلة، ومن عرف ما ب المعرفة إلى األمام ؛ لم يحقر جهوده مهما كانت ضئيلة، وعلى هذا األساس ستتواصل

محاوالت تسلق الحائط األملس الذي علينا أن نتجاوزه.أثر المناخ الثقافي في آلية تفكير اإلنسان

الموضوع أوال ليس موضوع تقديم أدلة لإلقناع، بل هو بحث في موقف اإلنسان من األدلة، لمعرفة الكيفية التي يصنع بها هذا الموقف، وتحديد الشروط التي ينبغي أن تتوفر في دليل ما ليكون مقبوال في جو ثقافي ما، والشروط التي ينبغي أن تتوفر في

اإلنسان ليصل إلى درجة القدرة على تأمل الدليل والتعامل معه. إنه بحث في مايحدث داخل اإلنسان.

Page 34: كـــن كابن آدم - Jawdat Said · Web viewكن كابن آدم المحتوى الموضوع الصفحة المحتوى المقدمة تمهيد: لغة الحروف ولغة

إننا إن لم نمتلك تصورا عن الوضع اإلنساني الذي يحدد فهم اإلنسان لموضوع ما أو قدرته على التعامل مع األدلة ؛ فإن جهودنا التي نبذلها تكون عديمة الفائدة، فالبد

إذن من العودة إلى الخلف، كي نتمكن من القفز إلى األمام. لقد مرت البشرية بمراحل ينبغي أن نستحضرها وال ننساها أو نغفل عنها، ولكن ما

هي شروط استحضارها؟ ولماذا يكثر القرآن من الدعوة إلى الذكر والتذكير وعدمالوقوع في الغفلة؟ وكم هي مرات التذكير التي ينبغي أن نقوم بها حتى يبدأ التذكر؟

يحدثنا القرآن بأن البشر يصلون إلى درجة من عدم القدرة على الفهم، تجعلهم اليسعون إلى الفهم، وليس هذا فحسب ؛ بل يقاومون الفهم بكل جهودهم.

فاإلنسان يصل إلى درجة ال يكون قابال معها للفهم، وإنه لممتع أن نتبع الوضع اإلنساني في القرآن، وذلك حين يصف من أحواله أنه يرفض التأمل، ويعجز عن الفهم

والتذكر. ينبغي أن ندرس هذه الحاالت، والحاالت األخرى التي تجعله يفهم الموضوع على

وء} عمله فرآه} حسنا( )عكسه، ويرى السيئ حسنا، والحسن سيئا: ن له} س} ي فاطر:[ز}وا سواء عليهم أأنذرته}م أم لم)، وال ينتفع من سمعه وبصره: ] 35/8 ذين كفر} إن ال

}وبهم، وعلى سمعهم، وعلى أبصارهم غشاوة( ه} على ق}ل }ون، ختم الل }ؤمن }نذره}م ال ي [ت ، بل إنه يصل إلى درجة يقبل معها تقديم نفسه واآلخرين قرابين في] 7-2/6البقرة:

سبيل الحفاظ على ما في ذهنه.ة، ويتأملون ة واالجتماعي إنني أقترح على الشباب الذين يدرسون الدراسات النفسي

في تاريخ األفكار، وفي عالقة اإلنسان بها، وينظرون إلى ما يقدمه القرآن في هذا الموضوع ؛ أن يجعلوا من هذه النقاط مشاريع أبحاث يقدمونه في أطروحاتهم،

ويتعمقون في دراستها وتوضيحها، ويتعرفون مدى عمومية هذه الحاالت في البشروالظروف التي ترافقها، والصعوبات التي تحول دون كشفها في المجتمعات.

إن دراسة الناس للمجتمعات األخرى غير مجتمعهم، تمكنهم من فهم وإدراك أن الناس يرون الحسنة سيئة والسيئة حسنة، ولكنهم ينزهون أنفسهم عن أن يصابوا بهذا

المرض، وقد بدأت الدراسات اإلنسانية بالكشف عن هذه الحاالت.}فسد}وا في األرض،)كيف نخدع المرء نفسه دون أن يشعر؟ وإذا قيل له}م: ال ت

ون( ه}م ه}م الم}فسد}ون ولكن ال يشع}ر} ما نحن} م}صلح}ون، أال إن }وا: إن -2/11 البقرة: [قال.] 18/57 الكهف: [وإن تدع}ه}م إلى اله}دى فلن يهتد}وا إذا أبدا( )، ] 12

أمراض الجسد وأمراض الفكر والنفس يقول بعضهم في التفريق بين أمراض الجسد وأمراض النفس: إن اإلنسان حين

يقرأ عن األمراض الجسدية يخشى أن يكون مصابا بها، ولكنه حين يقرأ عن األمراضالنفسية ال يشعر بهذا الشعور، وتكون نفسه مطمئنة إلى انه محصن ضدها.

والزالت الدراسات التي تقام حول هذه القضايا تمشي على استيحاء، وهي متهمة باإلغراق في الوهم والخيال، وخاصة حين يتوجه الباحث إلى دراسة ثقافة مجتمعه،

فالناس قادرون على رؤية عيوب اآلخرين، ولكنهم ال يقدرون على رؤية عيوبهم هم،ها خفيفة }ظر إليها على أن وعيوبهم إما أنها غير قابلة للرؤية مطلقا، وإما أنها إذا رؤيت ن

}نظر إلى العيوب الصادرة عن وطفيفة وغير جديرة بالبحث والنقاش، وبالمقابل ياآلخرين على أنها عظيمة كالجبال الساحقة الماحقة.

لقد كان بعض الصوفية أقدر من غيرهم على الدخول إلى هذا الحرم المحمي، وكذلك كان بعض علماء النفس والمؤرخون الذين يدرسون الفكر، وتاريخ ما باألنفس،

ويقومون بمقارنة المجتمعات والثقافات، ويزيد احتمال كشف العمى الفكري حين يرى اإلنسان أهل ثقافتين تتهم كل واحدة منهما األخرى بالجنون والفساد في األرض،

Page 35: كـــن كابن آدم - Jawdat Said · Web viewكن كابن آدم المحتوى الموضوع الصفحة المحتوى المقدمة تمهيد: لغة الحروف ولغة

وأن أهلها من أصحاب الجحيم، وترى نفسها االبنة الوحيدة للسماء، فالذي يعيش ثقافة ثالثة، ويرى نماذج هاتين الثقافتين أو الدينين أو المذهبين ؛ يصير أكثر قدرة على

كشف األفكار واألوهام التي تحرك اآلخرين، ويرى كيف أن كال الجماعتين المتنازعتين من نوع واحد، وكلما زاد التوسع في هذه الدراسات، واصطدم الباحث بعدد كبير من

الثقافات المتنوعة ؛ كلما تمكن من كشف الخصائص العامة التي تحكم الثقافات،والفروق الضئيلة الموجودة بينها.

وإذا تمكن دارس اإلنسانيات من الوصول إلى هذه الرؤية ثم رجع إلى القرآن ؛ فإنه سيبصر مقدار االهتمام الذي يعطيه القرآن لتشابه القلوب بين الثقافات التي ترى

سات حقيرة. كل واحدة منها نفسها مقدسة ومتسامية، بينما ترى اآلخرين م}دنصارى نحن})ويضرب القرآن المثل باليهود والنصارى فيقول: وقالت اليه}ود} والن

اؤ}ه}( ه وأحب ، وكذلك ينظر المسلم إليهما بتعال كبير، ومن] 5/18 المائدة: [أبناء} الل شدة العلو الذي يمنحه لنفسه، وال يتمكن من أن يراهما شيئا، وال يستطيع أن يفهم أناآلخرين ينظرون إليه بالمنظار نفسه، دون أن يكون لديه أو لديه أي ميزان ومقياس.

بل انتم بشر! إن القوميات والمذاهب الفكرية عاجزة عن رؤية نفسها ؛ فالبد من تقديم أمثلة

كثيرة لمساعدتها على الرؤية بأن اآلخرين بشر أيضا. لقد تفاخر إبليس، واعتبر نفسه عاليا، ألنه خلق من نار، ولم يخلق من طين، ورأى أن فهمه هذا من اكبر وأحسن وأعظم المذاهب الفكرية، وال زال البشر يتمتعون بحظ وافر من هذين االفتخارين اإلبليسيين، ولديهم كامل االستعداد لبذل األموال واألنفس

في سبيل العرق والمذهب، وحين أقول المذهب أعني كل االنتماءات الرؤيوية، بمافيها مختلف األديان واأليديولوجيات، فجميعها مذاهب فكرية.

اؤ}ه}( ؛ يقول لهم:)وحين يتحدث القرآن عن الناس الذين قالوا: ه وأحب نحن} أبناء} الل}م بشر ممن خلق( ) }م؟ بل أنت }وبك }ن }م بذ }ك ب }عذ ، هل يعذب] 5/18 المائدة: [ق}ل فلم ي

المحب حبيبه؟ أليس ما ينزل بالمسلمين اآلن عذاب مهين؟ ومع ذلك فنحن أبناؤه وأحباؤه رضي أم لم يرض، وليس المهم أن ينزل علينا العذاب وفق قانون الله وسنته في خلقه ؛ بل المهم عو أن نبقى أبناءه الوحيدين، ولذلك رد عليهم الله بأن بنوة الله

ومحبته ليست باالدعاء:بينات ؛ أبناؤها أدعياءوالدعاوى إن لم تقيموا عليها

}م بشر ممن خلق(، هذا هو الرد على الذين ادعوا بنوة الله ومحبته) بل أنت}م بشر)ألنفسهم، حين قالوا: }م؟ بل أنت }وبك }ن }م بذ }ك ب }عذ اؤ}ه}، ق}ل: فلم ي ه وأحب نحن} أبناء} الل

ممن خلق(.}م بشر(؟ من الذي سيبين للناس أن)من الذي سيكتب تحت هذا العنوان: بل أنت

نة البشرية والقانون اإلنساني ال يحابي احدا منهم، وان الكلمات التي يتسمى بها الس}م ما أنزل)الناس ما انزل الله بها من سلطان: }م وآباؤ}ك }م}وها أنت إن هي إال أسماء سميت

لطان( ه} بها من س} .] 53/23 النجم: [الل إننا ال نزال ندعي أن غيرنا ال يمكن أن يدخل الجنة، وأن اآلخرين ليسوا على

شيء، ونبيع الجنة ونتوازعها فيما بيننا فقط، وإن كنا نسخر من الذين باعوها من قبلنا،}م بشر(؟ ومن ذا الذي سيفهم معنى )فمن ذا الذي سيكتب في معنى: ليس)بل أنت

}جز به( }م وال أماني أهل الكتاب من يعمل س}وءا ي ك .] 4/123 النساء: [بأماني}مأل بالمعنى من جديد؟ وكيف تم لقد فرغت هذه الكلمات من معناها، فكيف ت

تفريغها من قبل؟ من الذي سيدرس هذا الموضوع؟

Page 36: كـــن كابن آدم - Jawdat Said · Web viewكن كابن آدم المحتوى الموضوع الصفحة المحتوى المقدمة تمهيد: لغة الحروف ولغة

إننا نفرغ الكلمات من معناها ونملؤها بمعان نريدها ونهواها، وكشف هذا مفيد جدا، ومن غير كشفه ستظل الكلمات تخدعنا، ولكن خداع الكلمات وتفريغها وتحريفها

ومألها وتوجيهها ال يغير قوانين الوجود، ومهما قلنا: إن الله معنا، سنجده يتخلى عنهه تبديال ولن تجد)ويذيقنا بأس بعضنا بعضا، ولن يتغير قانون الله: ة الل ن فلن تجد لس}

ه تحويال( ة الل ن ، ولكن نحن الذين سنتغير، سيتغير مفهومنا عن] 35/43 فاطر: [لس} الله وقوانينه وسننه، ولن يمل الله حتى نمل، وسنقوم بالحروب حتى نمل ونشعر

هل من)ونؤمن بأنها ال تخدم أصحابها، بل تطلب منهم أثمانا باهظة، وتطلب المزيد: .] 50/30 ق: [مزيد(

المسلمون وعبر} التاريخ: يصل اإلنسان إلى درجة تجعله غير قادر على الفهم ؛ هذه المقولة صحيحة

بشرطيها الزماني والمكاني، ولكن الزمان سيرغمنا على قبول الحقائق طوعا أو كرها، وإذا لم نكف األدلة التي سيقت لحصول الفهم فانتظر المستقبل، ألن األدلة ستأتي،

وإذا لم تتمكنوا انتم من الوصول إليها فإن أبناءكم أو أحفادكم سيصلون، وسيخرج منأصالبهم من تكون له القدرة على الفهم والتغيير.

أين الشعراء؟ أين الكتاب؟ أين المتبصرون ظ الذين يتمكنون من رؤية الحدثوفهمه بسننه، وتبليغه كما فهموه.

}طالب بدفع لقد ألغينا عبر التاريخ وقوانين األحداث، ومن ألغى عبر التاريخ فإنه سي الثمن، وسيظل يدفع الثمن إلى أن يمل ويضطر إلى قبول األشياء التي ظل يرفضها

( )طويال، صاغرا مطأطئ الرأس: }الت} )، ] 13/6 الرعد: [وقد خلت من قبلهم المث وعادارنا تتبيرا، تب }ال ضربنا له} األمثال، وك }ال ونا بين ذلك كثيرا، وك وثم}ود وأصحاب الرس وق}ر}

}وا ال يرج}ون }وا يرونها، بل كان }ون وء، أفلم يك }مطرت مطر الس تي أ ولقد أتوا على القرية النا عن }ضل ه} رس}وال، إن كاد لي ذي بعث الل وا أهذا ال ه}ز} خذ}ونك إال ورا، وإذا رأوك إن يت }ش} ن آلهتنا لوال أن صبرنا عليها، وسوف يعلم}ون حين يرون العذاب من أضل سبيال، أرأيت

}ون، }ون} عليه وكيال، أم تحسب} أن أكثره}م يسمع}ون أو يعقل خذ إلهه} هواه} أفأنت تك من اتك كيف مد الظل ولو شاء لجعله} كاألنعام بل ه}م أضل سبيال، ألم ترى إلى رب إن ه}م إال

مس عليه دليال( }م جعلنا الش .] 45-25/38 الفرقان: [ساكنا ث لم يذكر القرآن أحكام المواريث إال مرة واحدة، ولكن كم مرة ذكر أحكام هالك

رنا تتبيرا(، وكم مرة ذكر فرعون ذي)األمم ونهوضها؟: تب }ال ضربنا له} األمثال، وك }ال وكلطان م}بين،)األوتاد؟ ذي األهرامات التي تتحدى األجيال: ولقد أرسلنا م}وسى بآياتنا وس}

بع}وا أمر فرعون، وما أمر} فرعون برشيد، يقد}م} قومه} يوم إلى فرعون وملئه، فات}تبع}وا في هذه لعنة ويوم القيامة، بئس ود}، وأ ار وبئس الورد} المور} القيامة فأورده}م الن

فد} المرف}ود}، ذلك من أنباء الق}رى نق}صه} عليك منها قائم وحصيد، وما ظلمناه}م ولكن الره من شيء لما جاء تي يدع}ون من د}ون الل }ه}م ال ظلم}وا أنف}سه}م فما أغنت عنه}م آلهت

ك إذا أخذ الق}رى وهي ظالمة إن أخذه} ك وما زاد}وه}م غير تتبيب، وكذلك أخذ} رب أمر} ربن). ] 102-11/96 هود: [أليم شديد( }م من مساكنهم، وزي ن لك وعادا وثم}ود وقد تبي

ون وفرعون }وا م}ستبصرين، وقار} بيل وكان يطان} أعماله}م فصده}م عن الس له}م الش }ال }وا سابقين، فك وا في األرض وما كان نات فاستكبر} وهامان، ولقد جاءه}م م}وسى بالبي

أخذنا بذنبه، فمنه}م من أرسلنا عليه حاصبا ومنه}م من أخذته} الصيحة} ومنه}م من خسفنا}وا أنف}سه}م يظلم}ون، …، ه} ليظلمه}م ولكن كان به األرض ومنه}م من أغرقنا، وما كان الل

العالم}ون( }ها إال اس، وما يعقل }ها للن .] 43-29/38 العنكبوت: [وتلك األمثال} نضربكيف نعيد الحياة إلى موات التاريخ واألحداث؟

Page 37: كـــن كابن آدم - Jawdat Said · Web viewكن كابن آدم المحتوى الموضوع الصفحة المحتوى المقدمة تمهيد: لغة الحروف ولغة

كم يبدئ القرآن ويعيد أمثلة التاريخ وأحداثه التي حدثت في الماضي، وكم يحثعلى انتظار المزيد ليتجلى القانون وسنة الله؟

كيف فرغنا هذه اآليات الكثيرة من المعنى؟ وكيف صرنا نمر عليها صما وعميانا؟ هل نستطيع إعادة االهتمام بأحداث التاريخ؟ وهل نستطيع أن نستخرج الحاالت النفسية التي كان عليها الناس من خالل القصص القرآنية؟ وهل نستطيع أن نعرف

المصائب التي حدثت لهم، والقوانين التي تربط األحوال النفسية بتلك العواقب؟ ما هو التاريخ؟ وما هو الحدث؟ ما أركان الحدث التاريخي، وكيف نحلله؟ وما هوأصغر جزء يتركب منه التاريخ بحيث نستطيع أن نعزله لنقول عنه إنه حدث تاريخي؟

كيف يبدأ الحدث التاريخي، وكيف يتطور، وما هو مصيره ومآله وعاقبته، وما عالقةوا ما بأنف}سهم( )ذلك كله بقانون التغيير؟ ر} }غي ى ي ر} ما بقوم حت }غي ه ال ي الرعد:[إن الل

، هذا هو قانون التاريخ، وهو يدل على أن ما باألنفس هو مصدر الهالك] 13/11والنجاة.

أخذنا)إن ما باألنفس هو من صنعهم، وما بهم من عواقب هو من صنع الله: }ال فك هدينا( )، و ] 29/40 العنكبوت: [بذنبه( }ال ، ومنهم من استحب العمى] 6/84 األنعام: [ك

على الهدى. والتاريخ كما يقول ابن خلدون: » في ظاهره ال يزيد على أخبار عن األيام والدول،

وفي باطنه نظر وتحقيق، وتعليل للكائنات ومبادئها دقيق، وعلم بكيفيات الوقائعوأسبابها عميق، فهو لذلك أصيل في الحكمة عريق «.

كيف نحلل التاريخ وأحداثه، وكيف نفهمها؟ كيف سنفهم أيام الله ونتذكرها؟ه( ) ام الل ره}م بأي .] 14/5 إبراهيم: [وذك

اإلله وتصوراتنا عنه: الحدث محكوم بخبايا النفس، فدعني أخبرك أن ما بنفسك هو إلهك ودينك، وأن

أفكارك هي إلهك ودينك، فإذا قلنا: إن أفكارك لن تغن عنك شيئا، فكأننا قلنا: إن إلهكه من شيء( )لم يغن عنك شيئا: تي يدع}ون من د}ون الل }ه}م ال [فما أغنت عنه}م آلهت

ه} رس}وال، إن كاد)، ] 11/101هود: ذي بعث الل وا: أهذا ال ه}ز} خذ}ونك إال وإذا رأوك إن يتنا عن آلهتنا لوال أن صبرنا عليها( }ضل .] 42-25/41 الفرقان: [لي

لو قلنا: ما أغنت عنهم أفكارهم شيئا، أو: إن كاد ليضلنا عن أفكارنا ؛ لما تغير منالموضوع شيء.

إن إلهك هو تصورك عن إلهك، وهو الكيفية التي تفهمه بها، وتصورك عن تصرفاتهومقاييسه وموازينه.

إننا نعظم الله كثيرا، ولكننا في واقع األمر نعظم أفكارنا عنه ونتمسك بها.نا)لقد كان الذين يناصبون النبي العداء ؛ يثقون بأفكارهم ويقولون: }ضل إن كاد لي

عن آلهتنا لوال أن صبرنا عليها، وسوف يعلم}ون حين يرون العذاب من أضل سبيال،}ون} عليه وكيال( خذ إلهه} هواه} أفأنت تك ، ولكنك حين] 43-42 الفرقان: [أرأيت من ات

تثق بأفكارك دون أن تربطها بالعواقب ؛ فإن إيمانك بالله يتساوى باإليمان بالصنم، وليست العبرة باألسماء ؛ بل بالمحتوى، وبالتصور الذي تحمله، سواء أكان عن الله أم

}م من الخاسرين( )الصنم: }م فأصبحت }م أرداك ك }م برب ذي ظننت }م ال ك }م ظن فصلت:[وذلكة( )، ] 41/23 ه غير الحق ظن الجاهلي ون بالل }ن .] 3/154 آل عمران: [يظ

إن ما بنفسك عن إلهك، وعن التاريخ هو الذي يضلك ويهديك، وإذا تعاملت مع سنن التاريخ وقوانين الله ؛ فستحصل على العواقب سواء أكنت تؤمن بالله أو بالصنم

}مد هؤالء وهؤالء( أي الذين يعملون للدنيا والذين يعملون)أو بقوانين الكون: ن }ال كلآلخرة، من كان يريد العاجلة، ومن كان يريد اآلخرة.

Page 38: كـــن كابن آدم - Jawdat Said · Web viewكن كابن آدم المحتوى الموضوع الصفحة المحتوى المقدمة تمهيد: لغة الحروف ولغة

والمجتمع الذي يعمل وفق سنن الله، فإن هذه السنن تنجيه في العاقبة، في اآلخرة، فعمله هو الذي ينجيه في الدنيا، ولكن الشرائع التي وضعها الله للنجاة في

اليوم اآلخر ؛ هي التي تبني الدنيا أيضا، وارجع إن شئت إلى األعمال التي ترفعدرجاتك في اآلخرة، وستجدها هي التي تبني دنياك على أحسن وجه.

الواقع وما باألنفس: إن الصور الذهنية التي نعطيها لألسماء والرموز واألفكار التي نحملها هي التي

تحكمنا وتشكل مفاهيمنا ومعتقداتنا، وبكلمة واحد مختصرة أقول: إن ما باألنفس هوالذي يصنع الوقائع.

ولكن ما هو الشيء الذي باألنفس؟ كيف يحل باألنفس، وكيف نتقبله؟وهل يحدثذلك تلقائيا؟

ما هي أركان التغيير؟ أين مكانه؟ من الذي يغير، وماذا يغير؟ ماذا يرفع، وماذايصنع؟ وعلى أي أساس يرفع ويضع؟

كيف يصلح اإلنسان، وكيف يفسد؟ كيف يزكي نفسه، وكيف يدسيها؟ كيف يصلإلى الهدى أو الضالل؟

ما هو المرجع في الفساد والصالح، في الخير والشر، في النافع والضار، فيالهداية والضالل؟

}نظر إلى العواقب: وما يستوي األعمى)إن الفساد والصالح يستويان إن لم ي ) ور} ، وال الظل وال الحر} ور} }مات} وال الن ، وال الظل .] 21-35/19 فاطر: [والبصير}

ما هي درجات الحرارة التي يتحملها اإلنسان، ويعيش فيها بارتياح؟ ما هي درجاتالحرارة التي يهلك ويتجمد فيها المجتمع أو يحترق؟

ما هي العالقات الصالحة والفاسدة في المجتمع؟ كيف نعمى عن هذه العالقات، وال نقدر على إبصارها؟ ما سبب هذا العجز، وما سبب تنزيه الذات، وكيف يتزين سوء

العمل فيتحول إلى ح}سن في نظرنا؟ لماذا إذا قام اإلنسان بالعمل بنفسه ؛ يراه حسنا ومعقوال ومقبوال وجميال، وإذا عمله اآلخر يصير ظلما ودنسا وحقارة وجنونا، وال يصلح

العالم إال بإزالته وتدميره؟ ما ميزان الحسن والقبح؟ هل صورنا الذهنية هي ميزان الحسن والقبح؟ وإذا كانت

صورنا هي الميزان، فإن لآلخر صوره الذهنية، ويعتبرها مرجعا له، وإذا استوى الميزانان، تساوى الوزن فيهما، وبمقدار ما أقدس نفسي وأدنس اآلخر، فإنه يصدق

أيضا أن أكون مدنسا في نظر اآلخر.هل نملك القدرة على أن نتأمل هذا الموضوع؟

األمر ليس بحسب أهوائنا أو أهواء اآلخرين، بل هو على حسب سنن الله التي ال تتبدل وال تتغير، والتي ال يتحول بموجبها الحسن إلى قبح، والقبح إلى حسن، ال تستوي

الحسنة وال السيئة في ميزان الله، بينما تستوي في موازيننا الحسنة والسيئة. بلوتتحول السيئة إلى حسنة )زين له سوء عمله فرآه حسنا( وكذلك العكس.

إن أهواءنا ليست معصومة، وكذلك أهواء اآلخرين، والبشر جميعا خطاؤن، وخيرالخطائين هم الذين ينظرون إلى عواقب أهوائهم، فيكشفون أخطاءهم ويغيرونها.

أيها اإلنسان! إنك ال تستطيع أن ترى وجهك بعينيك إال إذا استعنت بمرآة عاكسة،وال تستطيع أن ترى قفاك إال بمرآتين.

أيها اإلنسان ال تثق بفهمك، إذا طالما خدع هذا الفاسق الناس، بل ثق بالتاريخوعواقب األمور، ال تثق ببصرك، فإن بصرك ال يحول السراب ماء.

لقد ذكر القرآن في سورة الفرقان أحداثا تاريخية عديدة، فذكر موسى وهارون وفرعون، وتحدث عن عاد وثمود وأصحاب الرس، والقرون )األقوام( الكثيرة التي

Page 39: كـــن كابن آدم - Jawdat Said · Web viewكن كابن آدم المحتوى الموضوع الصفحة المحتوى المقدمة تمهيد: لغة الحروف ولغة

ه} رس}وال،)كانت بين ذلك، ثم قال: ذي بعث الل وا أهذا ال ه}ز} خذ}ونك إال وإذا رأوك إن يتنا عن آلهتنا لوال أن صبرنا عليها، وسوف يعلم}ون حين يرون العذاب من }ضل إن كاد لي}ون} عليه وكيال، أم تحسب} أن أكثره}م خذ إلهه} هواه} أفأنت تك أضل سبيال، أرأيت من ات

ك كيف مد كاألنعام بل ه}م أضل سبيال، ألم ترى إلى رب }ون، إن ه}م إال يسمع}ون أو يعقلمس عليه دليال( }م جعلنا الش .] 45-25/41 الفرقان: [الظل ولو شاء لجعله} ساكنا ث

في هذه القصص يذكر القرآن على أحوال الماضين، وكيف انه لم يكن بمقدورهم السماع واألبصار والتعقل، وكيف أن الذين يتصفون بهذه األوصاف هم كاألنعام ؛ بل

، ه} رس}وال( )هم أضل ذي بعث الل وا أهذا ال ه}ز} خذ}ونك إال الفرقان:[وإذا رأوك إن يت25/41 [.

إن هدفي من هذا السياق تلمس الحالة اإلنسانية وطبيعة اختالف الفهم في تفسير}فقد} الوجود، فتفسير الوجود قد يتناقض مع تفسير وفهم مجتمع آخر إلى درجة ت

الطرفين القدرة على التفاهم والتواصل، والمشكلة هي أن اإلنسان قد يزين له سوءعمله فيراه حسنا، ولكن كيف يفهم اإلنسان انه على خطأ أو على صواب؟؟!

مرجعية العواقب: إن النظر في العواقب الناتجة عن كل حدث هو الذي يؤدي باإلنسان إلى فهم ما

إذا كان على صواب وحق أو على خطأ وباطل، ولكل حدث طبيعته الخاصة ونوعه،}مة أجل( )فمنها المعجل ومنها المؤجل، واجل األفراد ليس كأجل األمم و }ل أ [لك

، والعواقب قد ال تظهر إال بعد مئات السنين، وقد يظهر بعضها بعد] 10/49يونس: عشرات السنين، ولذلك البد من فهم هذه المواضيع بأمثلة واضحة، والمثال الذي أريد

أن أضربه هو أن الناس كما يخطئون في تفسير حركة األفالك، كذلك يخطئون في تفسير أن أضربه هو أن الناس كما يخطئون في تفسير حركة األفالك، كذلك يخطئون

في تفسير حركة األفالك وسيرها في المجتمعات، ويصبحون غير قادرين على تمييز الخطأ من الصواب، ويتمسكون باألفكار الخاطئة، ويسخرون من األفكار الصحيحة،

أم تحسب} أن أكثره}م يسمع}ون أو)ويستهزئون بأفكار الرسل واألنبياء ؛ قال تعالى: كاألنعام بل ه}م أضل سبيال( }ون، إن ه}م إال ، وبعد هذه اآلية] 25/44 الفرقان: [يعقل

}م جعلنا)مباشرة قال: ك كيف مد الظل ولو شاء لجعله} ساكنا ث ألم ترى إلى ربمس عليه دليال( .] 25/45 الفرقان: [الش

إن حركة الظل وسكونه، وداللة الشمس على هذه الحركة موضوع جدير بالتأمل والتعمق. كيف يمكن فهم الحركة، وكيف يمكن حدوث االشتباه في حركة األجسام

وسكونها؟ كنت أضرب مثال لفهم هذا الموضوع الجلي والخفي بمثل آخر وهو أن اإلنسان

أحيانا يكون راكبا في حافلة أو قطار، وتأتيه لحظات يلتبس عليه فهم أي المركبين أو القطارين هو المتحرك، وكنت أسأل الناس العاديين عما إذا حدث معهم هذا األمر

أحيانا، فيجيبونني باإليجاب، فأسألهم كيف كنتم تميزون بين الساكن والمتحرك؟ فيقول بعضهم: أنظر إلى األرض، ويقول آخر: أنظر إلى العمود المغروس في األرض. الشاهد هنا هو أن اإلنسان حين يلتبس عليه أمر الحركة ويشك في أن المتحرك هو أو اآلخر ؛

يلجأ إلى ثالث خارج عنهما ليتمكن من تحديد الساكن من المتحرك، وكذلك حين يلتبس الحسن والقبيح، والصالح والفاسد، والصواب والخطأ ؛ في هذه الحالة يكون

التنازع قائما بين الفرقاء، ويظن كل منهم انه هو المصيب القابض على اليقين، ولكن من هو الثالث الذي يزيل االلتباس في هذا الموضوع؟ إنه العواقب والمآالت والنتائج

ومصير األمور، إنه التاريخ والهالك أو النجاح الذي يظهر كنتيجة ألفكار األمم وأعمالها.كم هو سهل وبسيط، وكم هو صعب ومعقد هذا الموضوع؟

Page 40: كـــن كابن آدم - Jawdat Said · Web viewكن كابن آدم المحتوى الموضوع الصفحة المحتوى المقدمة تمهيد: لغة الحروف ولغة

عن هذا الموضوع ليخفى على الفلسفة العالمية المعاصرة في نهاية القرن العشرين، وإن جولة سريعة على منتجات الفلسفة الحديثة تجعلنا ندرك أننا قد وصلنا

إلى جدار مسدود من العجز عن إدراك الحق والباطل والصواب والخطأ، والحسنوالقبيح.

العدمية في الفلسفة الحديثة: إن عدم فهم هذا الموضوع، موضوع المآالت والعواقب، هو الذي كان السبب في إعالنهم موت الله وموت الحقيقة وموت التعالي، ألن فالسفة القرن العشرين كشفوا

عن أن ما كانوا يعتقدون انه الحق واإللهي المتعالي ؛ ليس حقا وال إلهيا وال متعاليا، بلهو باطل وشيطاني وسافل.

استمع إلى فوكو الذي يلخص فلسفة نيتشة ويشرحها إذ يقول: » التاريخ بالنسبة إلى نيتشة … هو وقائع عداوات دنيئة، وتفسيرات مفروضة باإلكراه، ونيات منحرفة،

وروايات مجيدة تستر وراءها أحقر الغايات … التاريخ مصنوع من حوادث وشتات وأحداث عرضية وأكاذيب، ولست له أية عالقة بتفتح الحقيقة … إن تاريخ الحقيقة هو تاريخ خطأ وتعسف … وإذا كانت األشياء الوحيدة التي يمكن اعتبارها إلهية هي الخطأ

والضالل والكذب!!.. ماذا سيحصل إذا اتضح أن الله نفسه )الحقيقة( هي كذبتنا.] 100 ميشيل فوكو، مسيرة فلسفية، ص [اإلقدام عهدا؟ … «

حين كنت أقول للناس: إن التاريخ هو مصدر معرفة الحق، كانوا يواجهونني ويقولون: كيف تقول: إن التاريخ هو مصدر معرفة الحق، والتاريخ كله أكاذيب

وتشويهات وتحريفات؟ فأقول لهم: أيها األحبة! ليس التاريخ هو كا كتبه االتحاد السوفييتي عن نفسه، ولكن التاريخ هو مآل االتحاد السوفييتي ومصيره. عن هذا المآل

والمصير ال يمكن تكذيبه، إنه ينسف األكاذيب ويكشف الزيف، التاريخ ليس ما كتبه المحبون، وال ما كتبه المبغضون. التاريخ ال يضيع هدفه، وال يحيد عن مساره، وال يخطئ

اس ال يعلم}ون( )غايته، ه} غالب على أمره ولكن أكثر الن .] 12/21 يوسف: [والل إن تاريخ أمريكا ليس هو ما يكتبه األمريكيون عن أنفسهم، وال ما يكتبه الذين

يكرهونهم أو يحبونهم ؛ بل هو المصير الذي سيؤول حال أمريكا في التاريخ، والنظرة التي ينظر بها الذي سيأتون بعد خمسة مئة عام إلى النتيجة التي آل إليها وضع أمريكا

واألمريكيين. والحضارة الفرعونية مثل على ذلك، فماذا قال المؤرخون عن الفراعنة الذين

سخروا الناس لبناء األهرامات، لتكون مثوى لشخص واحد أو شخصين؟ وماذا قالوا عن بيت الله الحرام الذي بناه إبراهيم عليه السالم في تلك األيام، ليكون مثابة للناس

وأمنا؟أين بنو أمية؟ أين العباسيون؟ أين العثمانيون؟

إن التاريخ ليس كما فهمه نيتشة بأنه الكذبة األقدم عهدا، بل هو المكان والزمانالذي تجلت فيه عظمة الله بديع السماوات واألرض، الذي أحسن كل شيء خلقه.

إن الفالسفة الذين ال يرون في الخلق حكمة، وال يرون التاريخ إال لعينا يتبع لعينا، وبؤسا متتابعا ؛ ال يستطيعون أن يروا أي حسنة في العالم، إنهم ال يرون إال الفساد،

وال يبصرون إال لحظة آنية، وتعمى أعينهم عن كل شيء إال الفساد وسفك الدماء، ومن كان شانه أال يرى تطورا وزيادة وتحسنا في الخلق ؛ ال يمكن إال أن يكون متشائما،

ويستحيل أن يكون جادا في سعيه لإلصالح. إن اليأس مقرون بالكفر، ألنه محبط للعمل مانع من الحركة، فشوبنهور المتشائم

ال يمكنه أن يرى في الخلق جماال وحسنا وتقدما. وااللتباس في هذه المواضيع يجعل الناس حيارى يائسين غير جادين في التغلب على الفساد. إنهم ال يرون في اإلنسان إال

Page 41: كـــن كابن آدم - Jawdat Said · Web viewكن كابن آدم المحتوى الموضوع الصفحة المحتوى المقدمة تمهيد: لغة الحروف ولغة

السنتين األوليين من طفولته، اللتين يقذر فيهما نفسه، ويعجز عن أن يتخلص من أقذاره، إنهم ال يرون مستقبله وشبابه وسعيه، وال يعلمون أن تاريخه المستقبلي أكبر

لما يقض ما أمره}( )امتدادا من حياته الطفولية، واإلنسان الزال في عهد طفولته: [كال ، البد من فهم هذا، وقد يسأل سائل: ما طائل هذا الكالم؟ ال حرج في] 80/23عبس:

هذا الكالم، ولكني أرى أن له طائل، ولعل بعضنا ال يفهم في أول األمر أن لهذا الكالم ثمارا كبيرة، وقد مررت بهذه المراحل، واعلم صعوبات الطرق، وأعلم فوق ذلك أنه

من الممكن أن أكون مخطئا، فأرى السراب وأحسبه ماء، ولكن مع ذلك أشعر أن العالم في تقدم، وإذا تأخرت أنا، فإن العالم ال يتوقف، وإذا كنت زبدا فسأذهب جفاء وغير مأسوف علي، وإذا كان فيما أقوله نفع وفائدة فسيمكث حتى يأتي ما هو أكثر نفعا، وأكثر وضوحا، وأشد تألقا، وأسهل فهما، وأيسر تقبال، وأعتقد أنه لو كان لديعلم أكثر ؛ لكان كالمي أكثر إيجازا، وأمثلتي أكثر وضوحا وأكبر تأثيرا وأسرع تغييرا.

دراسة التاريخ في المدة الطويلة: لقد بدأ المؤرخون اآلن يتلمسون هذا االتجاه، ومدرسة الحوليات ابتكرت دراسة

التاريخ في المدة أو الفترة الطويلة، وقد شعر رواد هذه المدرسة أن األحكام ال تكون صائبة إال إذا كانت معتمدة على األزمنة الطويلة أي العواقب التي تستمر طويال أو تأتي متأخرة، ولهذا يشعرون أن حكمهم على األحداث يكون اكثر عمقا وموضوعية

كلما ابتعدنا عنها في الزمان، وهذا االتجاه في دراسة التاريخ يعد تقدما نحو األسلوب النبوي الديني، نحو أسلوب األنبياء الذين كانت لهم قدرة على الصبر على مبادئهم

حين كان الناس يسخرون منهم. لقد ضرب عيسى عليه السالم مثال على ذلك في اإلنجيل حين تحدث عن األنبياء الكذبة الذين يأتون بلباس الحمالن وهم في الداخل ذئاب خاطفة، فسألوه: يا معلم:

كيف نميزهم؟ فقال لهم بجملة واحدة قصيرة ولكنها طويلة المغزى وعميقة جدا، أجابهم قائال: » من ثمارهم تعرفونهم، هل يمكن أن تجني من الشوك عنبا، ومن

الحسك تينا «. إنه المنهج التاريخي، إنه الميزان الحساس الدقيق، وأيا كانت صعوبته ؛ فإنه هو

المرجع، وقد عبر القرآن الكريم عن هذا المعنى في سورة الرعد، فبعد أن ذكر قانون التغيير في التاريخ، وأنه يبدأ مما باألنفس، وما باألنفس يأتي من تأمل األحداث،

واألحداث بعواقبها وخواتيمها، بعد ذلك ذكر أن الماء الذي ينزل من السماء يحتويماء ماء)على الحياة والنماء كما يحتوي على الزبد والرغوة فقال: أنزل من الس

ار ابتغاء حلية }وقد}ون عليه في الن يل} زبدا رابيا، ومما ي فسالت أودية بقدرها فاحتمل الس( ثم ربط البيان اإللهي بين هذا الزبد وبين الحق والباطل، والصحيح }ه} أو متاع زبد مثل

ه} الحق والباطل،)والخاطئ، والضار والنافع في مسيرة التاريخ فقال: كذلك يضرب} الله} }ث} في األرض، كذلك يضرب} الل اس فيمك } فيذهب} ج}فاء، وأما ما ينفع} الن بد فأما الز

العالم}ون( )، ] 13/17 الرعد: [األمثال( }ها إال اس وما يعقل }ها للن [وتلك األمثال} نضرب.] 29/43العنكبوت:

وفي اإلنجيل أن عيسى عليه السالم كان يكلم الناس بأمثال، ولم يكن يكلمهم بغير أمثال، والتعلم كله يكون باألمثال، واألقدر على استحضار األمثال الواضحة هو

األقدر على التعليم، والمعلم القدير هو الذي يقدم العلم للناس في أمثلة تجعلهم يقتربون من الموضوع أكثر، وال يقل تبسيط العلم عن اكتشافه، وتبسيط العلم هو فن

من أعظم الفنون الجميلة، وال يقدره إال من يعانيه. ثم جعلنا الشمس عليه دليال

Page 42: كـــن كابن آدم - Jawdat Said · Web viewكن كابن آدم المحتوى الموضوع الصفحة المحتوى المقدمة تمهيد: لغة الحروف ولغة

}م)إن المثل الذي أتناوله مرارا، واكثر من اللف والدوران حوله هو مثل الشمس: ثمس عليه دليال( . الشمس دليل على إمكان حدوث] 25/45 الفرقان: [جعلنا الش

االشتباه في أوضح الواضحات، فإذا كان يشتبه علينا حركة حافلتين متجاورتين ؛ فإن االشتباه في حركة الشمس في التاريخ كان عجيبا، فالشمس التي يضرب بها المثل

في الوضوح والظهور ؛ كانت حركتها ملتبسة التباسا شديدا على جميع الناس من أيام بدء الخلق اإلنسان إلى أيام قريبة حين كشف الناس أن الشمس تدور حولهم، وأنهم

هم الذين يدورون حولها. كم كان ما اعتقده الناس من أن الشمس تدور حول األرض، وقد بلغ هذا الرسوخ

في االعتقاد بهذه الظاهرة درجة أنهم كانوا مستعدين ألن يموتوا وينزلوا الموت باآلخرين في سبيل بقاء هذه البدهية الواضحة الجلية، ولكنها في الحقيقة كانت خفية

أشد الخفاء. أليس عبرة عظيمة أن تكون الشمس الساطعة التي تمد األرض بالنور والضياء

والدفء موضع اشتباه وخطأ في التفسير من الناس جميعا؟ أليست الشمس الدليلاألسطع على الخطأ في تفسير الحركة؟

لقد سجل التاريخ أحداث كشف هذا الخطأ العظيم بأسلوب أحدث ضجة في العالم كله، وذلك منذ عهد ليس بالبعيد، فاألحداث كلها سجلت بدقة في محاكمات

ودفاعات وردود وتهجمات وإدانات وسخريات.مس عليه) }م جعلنا الش ك كيف مد الظل ولو شاء لجعله} ساكنا ث ألم ترى إلى رب

] 25/45 الفرقان: [دليال( ، لقد جعل الشمس دليال على هذا االمتداد والتقلص، دليالعلى خفاء حركة األفالك.

كم كان صعبا أن يقلب الناس تصوراتهم عن هذه الحركة ويغيروا ظنهم أو يقينهم إلى العكس تماما؟ فإذا كانت الشمس التي هي مضرب المثل في الوضوح والظهور

بهذه الدرجة من الخفاء واالشتباه ؛ فما هي األمور التي يمكن أن تكون أوضح منهاحتى ندعي أننا ال يمكن أن نقع في الخطأ في فهمها وتفسيرها؟

ال إكراه في)أال يمكن أن تعتبر من هذه الحادثة الكونية فنؤمن بقوله تعالى: الدين( )في التفسير( فال نبيح اإلكراه في فرض التفاسير واآلراء والفهوم مهما كانت

واضحة وجلية، ألنها مهما كانت واضحة وجلية ؛ فلن تكون في وضوح وجالء ظاهرةالشمس؟

إن من رحمة الله بالناس، ورحمتهم ببعض ؛ أن تفاهموا أو تفاهم بعضهم على أنه ال مانع من بقاء التفاسير المختلفة، وال يحمل البشر بالقوة واإلكراه على قبول تفسير

معين، ألن الشمس دليل على الوقوع في التفسير الخاطئ، واتفقوا على أن يكون للتفسير الخاطئ الحماية والحق في الحياة، ألن عدم حماية التفسير الخاطئ، يفقد

الحماية للتفسير الصحيح أيضا، فحين تقبل حماية الخطأ تكون جعلت لنفسك الحمايةوالحق في الحياة ؛ ألن اآلخر ينظر إليك على انك مخطئ أيضا.

كم من الزمن سنحتاج لفهم هذا الموضوع؟ وهو أنك لن تكون محميا إال إذا حميتاآلخر وأعطيت له نفس الحق الذي تعطيه لنفسك.

الواقع والصور الذهنية إن مشاعرنا وأهواءنا وصورنا الذهنية تصنع مواقفنا من األحداث واألشياء، ولكن

هذه الصور واألفكار واألهواء التي في نفوسنا ال تغير حقائق األشياء واألحداث، بل تبقى كما هي، ولو كانت األشياء تتغير بتغير أفكارنا لما أمكن للكون أن يبقى، نعم

( ) ماوات} واألرض} ومن فيهن بع الحق أهواءه}م لفسدت الس 23/71 المؤمنون: [ولو ات[.

Page 43: كـــن كابن آدم - Jawdat Said · Web viewكن كابن آدم المحتوى الموضوع الصفحة المحتوى المقدمة تمهيد: لغة الحروف ولغة

لو كان األمر كما ظن الناس لفسد نظام الكون، ولترتب على ذلك أن تدوراألجرام البعيدة بماليين السنين الضوئية حولنا خالل أبع وعشرين ساعة.

وكما كان أمر حركة األرض والشمس مشتبها على الناس ؛ فإن عالقة الحكام والسياسيين بأنظمة وقوانين سير المجتمعات تشتبه عليهم أيضا، فهم يظنون أن

حركة المجتمعات إنما يصنعها الحكام السياسيون، ويظنون أن الشعوب بمن فيها منالمفكرين وأهل العلم ال تأثير لهم على هذه الظاهرة.

ولكن الفرق بين فهمنا الخاطئ لتفسير حركة الشمس، وفهمنا الخاطئ لتفسير حركة التاريخ، هو أن الشمس ال تتأثر مطلقا بأفكارنا نحن، إذ ليس لديها مشاعر

وعواطف نحونا، فهي ال تغضب وال تفرح بأفكارنا نحوها، ولكن السياسيين يختلفون عن الشمس والكواكب، فهم يتأثرون بأفكارنا ويغصبون أو يفرحون بسببها، بل إن في

العالم سياسيين يتركون السياسة استجابة ألفكار وآراء شعوبهم، هذه األفكار واآلراء التي يمكن أن تتغير وتتبدل إما إلى أعلى أو إلى أسفل، وإما إلى األمام أو إلى الخلف، إنها قابلة للتغيير، والذي يفهم التاريخ وقانون سيره ؛ هو الذي يستطيع أن يمسك دفة توجيه العالم، فهل نستطيع أن نكشف قانون مذهب ابن آدم؟ وهل نستطيع أن ندرك

الصعوبات التي تواجه ابن آدم الذي يتحدى بالمسلم، يتحدى اآلخر الذي يتحداهبالحرب؟

إنه عالم مختلف جدا، مختلف بكل جزئياته وكلياته، إنه عالم يدور الصراع فيه بين الفهم والقهر، ولكن القهر في عالم الفهم ال يجدي. هل نستطيع أن نفهم أن عالم

القهر ليس كعالم الفهم؟ حين يعجز عالم الفهم يبدأ عالم القهر، عالم اإلكراه، فهما عالمان مختلفان تماما ؛

عالم الفهم عالم جديد جدا في دنيا الكائنات، وهم لم يتكيفوا معه بعد، إنه تطور، إنه خروج من عالم األنعام إلى عالم اإلنسان، إلى عالم حمل األمانة، إلى عالم الرقي،

إلى عالم اإلبداع، إلى عالم التفاهم بالرموز، إلى عالم يمكن فيه نقل العواقب بالرموز، ويستطيع الناس فيه أن يتفاهموا بالكلمات ال باللكمات، إلى عالم يلتزم فيه

قوى( )الناس بالكلمات: ، فالتزموا كلمة التقوى.] 48/26 الفتح: [وألزمه}م كلمة التبناء الحياة الراشدة

ما هي الحياة الراشدة؟ كيف نعثر عليها؟ كيف نكتشفها ونتعرف عليها؟ ما هي األرضية الصلبة لالنطالق نحو الرشد؟ هل يمكن أن أخدعك وأجرك إليها؟ هل يمكن أن

أسحرك ألدخلك إلى عالم قريب وبعيد جدا؟ كنت أبحث مع بنات أختي بعض المواضيع، فشعرت أنهن أدركن الفرق بين االقتناع

واإلقناع، وأن درجة اإلقناع درجة متقدمة جدا، وانك حين تطرح موضوعك الذي تظن انك فهمته تشعر أنك عاجز تماما عن نقله إلى اآلخرين، فما هي العوائق دون ذلك؟ ما

هي طبيعة فهم اإلنسان؟ وما هي العوائق التي تمنع الفهم؟ هل المشكلة في اآلخرالذي ال يفهم، أم هي عند األنا الذي ال يتمكن من اإلفهام؟ أين النقص، أين الخلل؟

من السهل علينا أن ندين اآلخر، ونعذر األنا، ولكن العودة إلى األنا، إلى الذات، إلى النفس هو منهج القرآن، وتغيير ما باألنفس هو وظيفة األقوام، وينبغي أال ننكر هذا

األمر، وعلينا أن نظل متمسكين بهذا المبدأ: التغيير من عندنا، وهو وظيفتنا، وإذا عجزنا ينبغي أن نتعرف بالعجز من غير أن ننكر الوظيفة المناطة بنا. لقد خلق الله

الكون مسخرا لإلنسان، وإذا لم يتسخر فهذا ال يعني انه غير قابل للتسخير، بل يعني أننا مقصرون. علينا أال نضيع هذه القاعدة ألن تضييعها يؤدي إلى فساد في الوجود

وسفك للدماء. علينا أال نشوه هذه العالقة، وما ينبغي أن يكون هناك حرج من االعتراف بالقصور والنقص شيئا فشيئا بدأب ويقين، وهذا هو الموقف السليم، ال

Page 44: كـــن كابن آدم - Jawdat Said · Web viewكن كابن آدم المحتوى الموضوع الصفحة المحتوى المقدمة تمهيد: لغة الحروف ولغة

وإن تدع}ه}م)موقف ذاك الذي يتهم الوجود بأنه غير قابل للتسخير. وحتى قوله تعالى: ، ينبغي أن نفهمه بظروفه، ال بأن ما] 18/57 الكهف: [إلى اله}دى فلن يهتد}وا إذا أبدا(

بأنفسهم غير قابل للتغيير، فتأمل هذا، وتمسك به، فإنه يجعلك على الموقف السليم الذي يحثنا على أنت نكمل النقص الذي يعترينا، ال أن نقعد ونقول: األمر مستحيل. قد يكون مستحيال ضمن إمكانياتنا الحالية، ولكن اإلمكانيات ليست معاقة وثابتة، بل هي

قابلة للنمو واالكتمال. هذا اإليمان الراسخ هو الذي يجعلني أسعى للوصول إلى ما هو أقرب للرشد،

ولتوفير إمكانيات الفهم، وال يساعد التشويه واالتهام على حل المشكالت، والبد منالعودة إلى االعتراف بالنقص الذي نعانيه، والذي هو قابل لإلتمام واإلكمال.

نعود إلى سؤالنا األول: ما هي الحياة الراشدة؟ وما هي األرضية التي سننطلقمنها لبناء الحياة الراشدة.

إنني أحاول أن أبين أن األرضية األساسية هي االعتراف بإمكان التقدم إلى الحياة الراشدة، والنظر إلى الكون على أنه قابل للترشيد نحو األفضل دائما، وقانون الزبد

يرشد إلى هذا.}خلق هذا الموقف هو موقف عقائدي ووجودي، إذ إنني أفهم الوجود على انه لم ي

وينته خلقه بعد، وهو ليس معرضا للحت والتعرية واالنقراض، بل هو ال يزال يخلق ويزاد فيه، ومستقبله خير من ماضيه، فالله سبحانه وتعالى الزال يزيد في الخلق،

والقانون في ذلك هو أن الزبد يذهب ويزول، والنافع يمكث ويترسخ. هذا هو القانون الذي سار عليه الكون منذ ماليين السنين، من عهد الكائنات

}م أنشأناه})البدائية التي لم تزل إمكاناتها تزداد إلى أن خ}لق اإلنسان العجيب المكرم: ثه} أحسن} الخالقين( الذي يزيد في خلقه،] 23/14 المؤمنون: [خلقا آخر فتبارك الل

وتزداد مخلوقاته كفاءة وتسخيرا وإرشادا، وال حرج في أن يلتبس هذا األمر على كثيره}م رشدا( )من الجن واألنس: }ريد بمن في األرض أم أراد بهم رب ا ال ندري أشر أ [وأن

، وإذا كان فينا من يتشكك في هذا األمر ؛ فإنه ال يوجد من ال يعتقد أن] 72/10الجن: ا به ولن)الله يريد بنا اليسر ال العسر: شد فآمن ا سمعنا ق}رآنا عجبا يهدي إلى الر إن

نا أحدا( }شرك برب ، وإذا كنت في شك من هذا فتوقف وتأمل الوجود] 2-72/1 الجن: [ن واكشف قانونه، وتأمل كيف بدأ الخلق، وتأمل تحسن الخلق خالل المدة الطويلة في

الزمن الماضي، وكيف أن اإلنسان كان يأكل لحم اإلنسان، وإذا لم يأتك خبر ذلك فارجع إلى التاريخ، ألنك إن فقدت هذا المبدأ األول واألساسي فإنك ستظل متشائما

يائسا، وسوف لن تنشط للعمل الجاد على تحسين الكون بنفسية فياضة متفائلة. تأمل منطلقاتك، فإذا أمكنك أن تعرف التقدم الذي حصل في الماضي، فإنك

تستطيع أن تتصور إمكانيات التحسن في المستقبل، ألنك تتمكن من تصور النشأة اآلخرة، ألن لهذه النشأة األولى نشأة آخرة متقدمة في المستقبل، في هذه الدنيا، نعم

في هذه الدنيا. إن االنتقال إلى بحوث أخرى دون التمكن من هذه المبادئ يجعل البناء خرابا أو

على شفا جرف هار. لقد تعلم الناس كيف يعطون الصحة لألجساد، وذلك بمعرفة قانون األجساد، وبدأ اإلنسان بتعلم قانون صحة األنفس، وهذه هي الوظيفة األساسية لإلنسان، فالقرآن ال

يعطي األولوية لعالج مرض القلب الجسدي، بل لعالج مرض القلب النفسي، وال يغرنك الحديث الذي ينتشر ويوحى به، وهو أن العالم يسير إلى أسوأ، وقد غرست بأقوال

أو لم تصح، فإننا نخطئ، وسواء صحت نسبتها إلى الرسول نسبت إلى الرسول في فهمها وتأويلها.

Page 45: كـــن كابن آدم - Jawdat Said · Web viewكن كابن آدم المحتوى الموضوع الصفحة المحتوى المقدمة تمهيد: لغة الحروف ولغة

إن مناخنا الفكري بمستوياته العليا والدنيا، مشبع بهذه المورثات، وهذا هو ما يوحى إلى الناس، باليأس والقنوط، والزال سادتنا وقادتنا الفكريون ينثرون مثل هذه

األفكار من غير حذر أو وجل.}نبت} كأل، }مسك ماء وال ت ، بل هي قيعان ال ت هذه األرضية التشاؤمية ال ينبت فيها حب فكيف نتوجه بوعي إلى هذه المتاهات المميتة؟ وكيف تستسلم األمم الفاشلة إلى مثل

}بعد عن نفسها اللوم والمسؤولية؟ هذه الدعاوى لتسوغ فشلها وعجزها، وت لقد مررت بهذا الموضوع في وقت مبكر من حياتي، قلت لنفسي: من الذي

سينذر نفسه ويجاهد في سبيل شيء مكتوب عليه الفشل وعدم النجاح؟ وهل لهذه الفكرة أساس في القرآن؟ رجعت إلى القرآن وقرأته كله، فلم أجد شيئا من هذا،

ة خيرا يره( )وغنما وجدت من كان يظ}ن أن)، و ] 99/7 الزلزلة: [فمن يعمل مثقال ذر}م ليقطع فلينظ}ر هل ماء ث ه} في الدنيا واآلخرة فليمد}د بسبب إلى الس لن ينص}ره} الل

}ذهبن كيد}ه} ما يغيظ}( ، تأمل في كلمة )الدنيا( وتأكد منها.] 22/15 الحج: [ي إن الموضوع أكبر من هذا واخطر، وإذا لم تكف األدلة التي سبقت في التاريخ

األدلة التي سيأتي بها التاريخ المستقبلي،] 6/158 االنعام: [ (انتظروا)الماضي ؛ فـ فإنه سوف يأتيكم بما ال تستطيعون دفعه أو التعامي عنه، وبحسب شعوري فإن ذلك

} ونراه} قريبا( )لم يعد بعيدا: ه}م يرونه} بعيدا ، فطوبى ألولئك] 7-70/6 المعارج: [إنالذين سيصلحون ما أفسده الناس.

إنني أبحث موضوع الحياة الراشدة ألفهم أركانها وشروطها وإمكان إعادتها وحمايتها، وحين أقول: الحياة الراشدة فإنني أريد أن أدخل عالما جديدا كما يقوال

إقبال: بدع المثال يروقه تصويرهتجلو له رؤياه كونا محدثا

شاد الذي في حلمه تعبيرهفإذا جلى صوت األذان منامه وللدخول إلى حياة الرشد دعني أحدثك بفكرة أخرى أيضا، أرجوا ا تساعد على

تنظيف الطريق وسبيل الرشاد. كانت الحياة األولى للبشرية مبنية على الخارقات الماحقات، ال على وضوح السنن

التي ال تتغير وال تتبدل، وبإيجاز أقول: لقد ف}سر القرآن على الطريقة القديمة، على أساس الخوارق، مع أن القرآن كان إيذانا بذهاب عهد الخوارق، مع أن القرآن كان

ننية، وهذا ما أدركه بوضوح إيذانا بذهاب عهد الخوارق، وإعالنا بمجيء الحياة الس الفيلسوف محمد إقبال، وبحثه بوعي وتعمد، ال بغموض وتلقائية، وهذه الفكرة أيضا

تقع عند مفترق طرق يضل فيها السالك، وهو أحوج ما يكون إلى تصحيح مساره، يضل اعتمدا على الخارق الذي بمجرد أن تستحضره ؛ تكون قد دخلت في الظالم والتيه،

ونحن سرعان ما ننقلب إلى الخوارق والتفسيرات الخارقة عند األزمات والمحن، وتظهر التفسيرات الخارقية في كل المستويات، ولو أن دارسا تتبع ظواهر العودة إلى

الخوارق في مجتمعنا، لوجدها في مختلف المستويات، لوجدها فيما تتناقله الصحف، وفيما يدونه الكتاب، وحتى العلمانيون لم يتخلصوا من الخوارق، وال قدرة لهم على

عرض المواضيع بعملية وإقناع، فهم يخترعون المعجزات والكرامات، ال لألنبياء واألولياء، ولكن للسياسيين أيضا، وكما يبحثون لهم عن نسب يهودي حين يكرهونهم ؛

فإنهم يبحثون لهم عن الخوارق حين يحبونهم، وما أسرع ما يتحول اإلعجاب إلى مقت،ويتحول معه الرجل الذي كان معقد األمل في الخالص، إلى عميل للعدو ومدع للرشد.

كيف سنتخلص من هذه البيئة الموبوءة الملوثة بكل األرجاس؟ لقد وصف الله الخمر والميسر بأنها رجس، وإذا كان الخمر توازن الجسد، والميسر طريقا لسرقة

Page 46: كـــن كابن آدم - Jawdat Said · Web viewكن كابن آدم المحتوى الموضوع الصفحة المحتوى المقدمة تمهيد: لغة الحروف ولغة

علنية، والنصاب ملجأ عند األزمات، وكانت هذه كلها رجسا، فكم هناك من أرجاس فيحياتنا تفسد علينا الفكر والحياة.

من هنا مهما أن ندخل حياة الرشد، وان نفهم ابن آدم، فقد كان من أرشد الراشدين الذين دشنوا الحياة اإلنسانية، وكان موقفه ردا عمليا على الذين اتهموا

اإلنسان بأنه يسفك الدماء ويفسد في األرض، وبأنه غير جدير باالستخالف، وكان ردي أعلم} ما ال تعلم}ون( )الله تعالى عليهم: ، أعلم في هذا الكائن] 2/30 البقرة: [إن

ها( )العجيب ما ال تعلمون: }ل م آدم األسماء ك ، ألن علم األسماء هو] 2/31 البقرة: [وعل السبيل إلى تراكم المعرفة، وهو ما سيمكن اإلنسان من سلوك سبيل الرشد، ومن

إقامة الحياة الراشدة والمجتمع الراشد، ولكننا إلى اآلن نقدس الجهل وال نقدسالعلم، ونخاف من العلم ألنه إن ظهر فسوف يزيل جهلنا وأوهامنا.

الخوف من المعرفة: دعني أقص عليك قصة تثبت لك أن جميع الذين ال يسلكون سبيل الرشد يخافون من العلم، وبتعبير آخر، جميع الذين ال يعرفون العلم يخافون منه، ألنه} سيزيل جهلهم،

وهم يظنون أن زوال جهلهم، زوال لوجودهم، ألن وجودهم مبني على الجهل، ولكن ماالذي نجهله؟ وما الذي نخاف أن نفقده؟ وما هذا الذي نخاف منه؟

لقد تقدم ميشيل فوكو إلى بحث هذا الموضع وكان يقول عن المعرفة )اللوغوس( أو الخطاب أو الثقافة: » أين هي الحضارة التي تبدو في الظاهرة أنها كانت اكثر

احتراما للخطاب من حضارتنا؟ أين تم تكريمه أحسن واكثر؟ أين تم تحريره جذريا فيما يبدو؟ وأين …؟ غير أنه يبدو لي أن نوعا من الخوف يختفي وراء هذا التقدير

الظاهري للخطاب وتحت هذا الحب الظاهري للوغوس … كل شيء يجري كما لو أنه أريد محو عالمات ظهوره نفسها ضمن أالعيب الفكر واللغة، يوجد في مجتمعنا وفي

كل المجتمعات األخرى كما أتصور - لكن حسب اوجه وتقطيعات مختلفة - خوف عميق من اللوغوس )المعرفة(، نوع من الخوف األصم ضد هذه األحداث، ضد..، ضد

هذا الدوي الضخم المتواصل والمختلط للخطاب. وإذا أردنا - ال أقول محو هذا الخوف - بل تحليله ضمن شروطه، ضمن لعبته

ميشيل[وآثاره، فإنه يلزم - على ما اعتقد - اتخاذ قرارات ثالثة يقاومها فكرنا اليوم « .] 34 - 33فوكو، نظام الخطاب، ص

الخوف من المعرفة مع التقدير الظاهري لها، لم هذا الخوف من المعرفة؟ لماذا هو عميق في كل المجتمعات؟ السبب في ذلك أن اإلنسان ال يزال يخضع للعبة السيد

والعبد، للعبة القاهر والمقهور، وال قدرة له على الخروج من هذه اللعبة التي انحصر فيها طويال، فبالمعرفة الظاهرية يصل اإلنسان إلى أن يقهر اآلخرين، فإذا عمت هذه

المعرفة فانه سيسخر الذي يقهر الناس بالمعرفة وربما يصير مقهورا، وهذا ما يخشاه. هذا هو الخوف من كشف الحقيقة، الخوف من قبول المساواة، ألن المقهور حين

يسعى للخروج مما هو فيه، ال يهدف إلى السواء، بل ال يهدف إلى أن يتحول إلى قاهر،ولهذا فإن الصراع مأساوي، وتكاد الحلقة تكون مفرغة، وهي ليست مفرغة.

إن السواء والعدل يزيل القاهر، ولكنه يزيل المقهور أيضا، ولهذا فإن االحتفاظ بالقهر، والخوف من زواله، أو السعي لجعل المقهور قاهرا، كل هذا يخدع الناس،

وكأن هذه اللعبة سرمدية، والتاريخ لم يعطنا نماذج قادرة على االستمرار في الخروجمن دائرة القاهر والمقهور، في الخروج من اللعبة القديمة.

هذا هو تحليل الخوف ضمن شروطه وضمن لعبته وآثاره، ولهذا يقاوم فكرنا اليوم اتخاذ قرار الخروج. إن قبول السواء م}غر، ولكن االستعالء الذي يسحر البشر ال يزال

يسيطر على الناس، واآلباء هم الذي خرجوا بإصرار من لعبة القاهر والمقهور، ومعهم

Page 47: كـــن كابن آدم - Jawdat Said · Web viewكن كابن آدم المحتوى الموضوع الصفحة المحتوى المقدمة تمهيد: لغة الحروف ولغة

خرج اآلمرون بالقسط من الناس، والزالت البشرية تتسلق هذا الجدار األملس الذي يمكن أن تحدث له نتوءات تساعد على تسلقه، هذا ما نسعى إليه، وهذه هي التعويذة

يا)التي نريد أن نفك بها السحر األكبر، السحر الذي خدع أعين الناس خالل التاريخ: }ون، ألم يروا كم أهلكنا }وا به يستهزئ كان ول إال حسرة على العباد ما يأتيهم من رس}

ون( .] 31-36/30 يس: [قبله}م من الق}ر} كيف نخرج من دوامة القاهر والمقهور إلى حياة الرشد والسواء؟ كيف نضيء

}خفي علينا بطؤه واختالطه ظلمات التاريخ الذي يتقدم ببطء شديد إلى الوعي؟ كيف يالسعي الحثيث، والتقدم الراسخ الثابت إلى الهدف، والخروج من وهم العبثية؟

الخروج من لعبة القاهر والمقهور المسألة قريبة وبعيدة في آن، فال يزال من الممكن فهم التاريخ على أنه لعين يتبع لعينا، وفساد يتبعه فساد اكبر، هذا الفهم للتاريخ هو اليأس وهو الكفر الناتج عن العجز

اس ال)عن رؤية هدف التاريخ وإرادة الله: ه} غالب على أمره ولكن أكثر الن والل} ونراه} قريبا( )، ] 12/21 يوسف: [يعلم}ون( ه}م يرونه} بعيدا ، إننا] 7-70/6 المعارج: [إن

نعرف سبب بعده، ونلمح سبب قربه أيضا، وهذا األمر ليس إعجازيا، بل هو تاريخ وتراكم للضحايا، ضحايا العجز عن التبصير والفهم، ولكن الله غالب على أمره،

وسيتعلم اإلنسان من األلم ومن الثمن الذي يدفعه في كل مرة تستهويه لعبة القاهروالمقهور، المكره )بكسر الراء( والمكره )بفتح الراء(.

والصعوبة األولى تكمن في خوف القاهر من أن يعود مقهورا، أما الثانية فهي في شهوة المقهور أن يصير قاهرا، وتبادل المواقع عبر التاريخ أعجز الناس عن رؤية حل

ثالث يعافي الطرفين، ولهذا البد من تأمل الصعوبتين تأمال كبيرا، ألنهما خافيتان، وسرعان ما يتحول الشيء إلى ضده. فكيف نستطيع أن نخرج من هذه الثنائية الوثنية

إلى التوحيد؟ هل يكون مجنونا أو ساحرا من قام يدعو إلى هذا؟ ولطالما وصف الناس األنبياء

بالسحر والجنون، وأقصى ما وصل إليه من تأملهم ال يتجاوز أن يكون وصفا لهم بأنهممثاليون، خياليون، غير واقعيين.

إن األثمان التي تتطلبها الواقعية التي تتبع األحالم والخياالت غالية وباهظة، وهذا ما فعله ابن آدم، فهل لدي من القدرة ما يمكنني من إبراز أن ابن آدم الذي خرج من

لعبة القاهر والمقهور ؛ خرج من الثنائية الوثنية إلى التوحيد، هل يمكن لنا أن نسلط عليه بعض األضواء إلخراجه من السحر والجنون والخسران؟ هل نستطيع أن نبطل

السحر ونرفع الجنون ونظهر الخسارة التي تترتب على الوثنية والخضوع للعبة القاهروالمقهور؟ متى سيشعر القاهر والقاتل بالخسارة، ومتى سيندم ويتوب؟

لقد وصف الله ابن آدم القاتل بأنه قتل أخاه فأصبح من الخاسرين، وحين اكتشف جهله أصبح من النادمين، وغن ما ينزل من حيف على ابن آدم الذي خرج من الوثنية

الثنائية، من لعبة القاهر والمقهور، سيكون سببا قريبا إلظهار الخسارة، وسيترتب علىذلك الندم والخروج من الوثنية إلى التوحيد.

هل لي أن أطمع في كشف السحر، وفي جعل ما يراه الناس مستحيال ؛ قريبالتناول معقوال؟

نعم إنني أطمع في ذلك، ألن العالم مندفع إليه، بل هو مدفوع رغما عنه، ألنهطريق توحيد االتجاه ال عودة عنه.

انظر ماذا حصل ويحصل للذين يريدون النكوص أو الخروج، وإن لم تكف األثمان التي دفعت حتى اآلن ؛ فهل جهنم تقول: هل من مزيد؟ ولن يمل الله حتى تملوا، ولن

يغير حتى تغيروا.

Page 48: كـــن كابن آدم - Jawdat Said · Web viewكن كابن آدم المحتوى الموضوع الصفحة المحتوى المقدمة تمهيد: لغة الحروف ولغة

لقد خرج ابن آدم من لعبة المكره والمكره، خرج من لعبة القاتل المستعلي، ومنلعبة المقتول الذي يظن أن حل المشكلة يتأتى بمقابلة القتل بإرادة القتل.

هل استطعت أن تقترب من فهم المشكلة، مشكلة أن القاتل والمقتول حينما يكونان من صنف واحد، وضمن لعبة واحدة هي لعبة القاهر والمقهور، فإن األمر ال

يتغير بإحالل أحدهما مكان اآلخر. هل لي أن اطمع في تجلية الموضوع؟ هل لي أن أضع المشكلة تحت المجهر؟

كيف يمكن أن يكون القاهر والمقهور ضمن لعبة واحدة ودين واحد ونظام واحد؟ يكونان كذلك حين يتبادال المواقع فقط، ول يخرجان من قانون لعبة القاهر والمقهور، عندها يكونان من نوع واحد. ولكن هناك قانون آخر ولعبة أخرى، وتستطيع أن تخرج

من لعبة القهر المتناوب، وهذا ما فعله ابن آدم واألنبياء جميعا واآلمرون بالقسط أيضا، وكذلك لن تحل وتنزل الديمقراطية ديار قوم إال إذا خرجوا من لعبة تبادل العنف،

فتأمل، تأمل مثيرا، لعلي أخدع نفسي حين أظن أنني صرت قريبا من الحل، فالعالم شوه ابن آدم، وشوه األنبياء واآلمرين بالقسط من الناس رغم أنهم خارج اللعبة ال

داخلها، ولذلك البد من الخروج من لعبة الرب والعبد، ومن التأله والتعبد للبشر. إنني سعيد، ألنني أشعر أنني أمشي على بينة، وماذا يهمني إن غمي عليكم فلم تتمكنوا من رؤية ما أراه؟ ال بل يهمني، ألن طمعي صار في أن أقنع اآلخر، ولم أعد

اكتفي بان يفهمني ويفهم مذهبي، ثم إن شاء فليعتبرني مجنونا كابن آدم القتيل، نعم صرت أبشر بما علم الله في اإلنسان من القدرة على ترك الفساد في األرض

والخروج من سفك الدماء. هل لي من حرج إن أطلت في البحث والدرس واللف والدوران لكشف السحر

}سيطر علينا؟ أليس جديرا بنا أن نبدئ ونعيد كي يبدأ ظهور مالمح الفكرة الذي يالجديدة القديمة؟

ليس لدينا نموذج قابل للفهم، ولو من قبل بعض الناس مهما قل عددهم، لكننيأطمع في إيصال هذا المفهوم إلى الناس، وصرت أراه قريبا.

فآفة الطالب أن يضجرااطلب وال تضجر من مطلبفي الصخرة الصماء قد أثراأما ترى الحبل بتكراره

ج} منه} الماء}) قق} فيخر} وإن من الحجارة لما يتفجر} منه} األنهار} … وإن منها لما يش}ون( ه} بغافل عما تعمل ه، وما الل .] 2/74 البقرة: [وإن منها لما يهبط} من خشية الل

أفتطمعون أن يؤمنوا لكم؟ نعم نطمع في ذلك، ونؤمن بان تغيير ما باألنفس وظيفة بشرية، وبأننا نستطيع أن نغير إذا أخذنا بشروط التغيير، وال يشترط أن يتم

التغيير في هذه اللحظة. حين كتبت مذهب ابن آدم األول، سخط علي بعض أصدقائي الخلص، واعتبروه تثبيطا لهمم المسلمين، ولكن بعد عشرين سنة جاءني أحد هؤالء األصدقاء واعترف

لي قائال: كنت عارضتك قبل عشرين سنة، ولكنني اآلن أشعر أنه ليس أمامنا منطريق غير هذا الطريق.

أليس من الواجب علينا أن نثبت ونبذل الجهد للبالغ حتى يكون مبنيا؟ أليس الزمنهو الذي يكشف حقيقة األفكار وقيمها؟

نعم إننا نؤمن، وعلينا أن نوضح إيماننا كي يتبين الرشد من الغي، ولنزيل االلتباس الذي حدث بين الرشد والغي، أليس من واجبنا أن نجتهد في إزالة االلتباس؟ نع، هيا نتابع السير، هيا نجتهد في البحث عن الطريق، هيا نبحث عما فقدناه خالل مسيرتنا

}لق ضوءا على بعض آيات القرآن، على الكيفية في التاريخ. لم يفت األوان بعد، هلم نالتي يتبين فيها الرشد من الغي.

Page 49: كـــن كابن آدم - Jawdat Said · Web viewكن كابن آدم المحتوى الموضوع الصفحة المحتوى المقدمة تمهيد: لغة الحروف ولغة

ال إكراه في الدين(:)القرآن و ه) }ؤمن بالل شد} من الغي، فمن يكف}ر بالطاغ}وت وي ن الر ال إكراه في الدين قد تبي

ه} سميع عليم( .] 2/256 البقرة: [فقد استمسك بالع}روة الو}ثقى ال انفصام لها والل كيف سأتبين الرشد من الغي من هذه اآلية؟ كيف أعيد إليها المعنى؟ كيف

سأحولها إلى آية ناسخة وقد جعلها المسلمون آية منسوخة؟ لقد جاءت هذه اآلية في سورة البقرة بعد آية الكرسي مباشرة، وآية الكرسي هي

اآلية التي جعلها المسلمون التعويذة التي تحفظ اإلنسان من الشرور، ونحن نجدها معلقة في بيوت المسلمين في كل أنحاء األرض، وفي سياراتهم لتحميها من العين

الحاسدة ومن الحوادث. وهي آية تعظيم الله وتقديسه وتنزيهه، » وقد قال رسول الله» وم} ال): (1) فيما صح عنه أنها أعظم آية في كتاب الله ه}و الحي القي ه} ال إله إال الل

، و )ال إله إال الله( هي أول ما يطلب من] 2/255 البقرة: [تأخ}ذ}ه} سنة وال نوم( اإلنسان النطق به ليدخل إلى اإلسالم، ومن قالها موقنا بها دخل الجنة، وكل ذنب قابل

ه ال يغفر} أن)للغفران إال ذنب الذي يشرك، أي الذي ينكر )ال اله إال الله(: إن الل}شرك به ويغفر} ما د}ون ذلك لمن يشاء}( ، ومن كانت آخر كالمه قبل] 4/48 النساء: [ي

أن يغادر الدنيا، كان دليال على أنه مات على اإليمان، كما أن دخوله إلى اإلسالم كانبالنطق بها.

ميزان الزبد والنافع ما معنى التوحيد؟ ما معنى الشرك؟ ما معنى الرشد؟ كيف نفهم األمور؟ ما معنى

الفهم، وكيف يحصل الفهم، وكيف نعلم أننا فهمنا، وكيف نثق بفهمنا؟ هنا أعود إلى القول للمرة األلف أن ادعاءك صحة الفهم ليس دليال على صحته فعال، وعليك أن تعرض فهمك على المسطرة لتقيسه بها، وعلى الميزان لتزينه بها،

فإن صح هناك كان صحيحا، وإال فهو زبد جفاء ال خير فيه. اعرض فهمك على ميزان الزبد والنافع، لتعرف هل هو صحيح حقا، فالصحيح هو

}م وال أماني أهل)الذي يمكث في األرض، والزبد هو الذي يذهب جفاء: ك ليس بأماني}جز به( ، ومن يفهم سوءا يجز به. كيف] 4/123 النساء: [الكتاب من يعمل س}وءا ي

نتبين الفهم الصحيح من الفهم السقيم؟ كيف نبين الذئب من الحمل؟ كيف نتبين الرشد من الغي؟ من ثمارهم تعرفونهم. كيف نعرف الثمار؟ نعرفها من التاريخ، من

حوادث الدهور، فالتاريخ ال يحول الخطأ إلى صواب، بل يفرزهما بميزان دقيق، فيذهب بالزبد جفاء، ويبقى النافع، ربما يشتبه علينا األمر مدة من الزمن، قد تطول وقد

تقصر، ولكن القانون ال يضيع أبدا، والتاريخ شاهد على ذلك، وحوادث التاريخ شاهدة أيضا، وإذا لم تكن كافية لغفلتنا عنها، فإن التاريخ مستعد ألن يعيد نفسه ويستوفي

}خضع رقابنا، فالتاريخ ال يمل من التكرار ولن يمل الله حتى تملوا. الثمن ويالقرآن ومبدأ التوحيد

إذن، فالتاريخ واألحداث هي التي ستكشف وتحدد معنى )ال إله إال الله(، ودعوة األنبياء جميعا هي )ال إله إال الله(، ولكن كيف فقدنا ثمرات التوحيد ومنافعه؟ كيف

فقدنا )ال إله إال الله(؟ هل قلنا على الله إنه اثنان أو ثالثة أو أربعة أو أنه متعدد الذات؟هل جاء األنبياء ليعلموا الناس توحيد الله وأنه ذات خالقة للكون والحياة؟

ال أعتقد أن هذا األمر مشكلة أساسية، ألن توحيد ذات الله أمر فطري في الناسماوات واألرض،)الذين يتأملون في خلق السماوات واألرض: ون في خلق الس ر} ويتفك

ار( بحانك فقنا عذاب الن نا ما خلقت هذا باطال س} .] 3/191 آل عمران: [رب

( .810 رواه مسلم في صالة للسافرين ، باب فضل سورة الكهف وآية الكرسي ، رقم ) (1)

Page 50: كـــن كابن آدم - Jawdat Said · Web viewكن كابن آدم المحتوى الموضوع الصفحة المحتوى المقدمة تمهيد: لغة الحروف ولغة

هذا النوع من التوحيد، توحيد الخالق، كان القرشيون الذين نسميهم كفارا، كانوابحانك)يؤمنون به: نا ما خلقت هذا باطال س} ماوات واألرض رب ون في خلق الس ر} ويتفك

ار( ى)، ] 43/9 الزخرف: [فقنا عذاب الن ه} فأن ولئن سألته}م من خلقه}م ليق}ول}ن الل}ون( }ؤفك .] 43/87 الزخرف:[ي

بعضهم يسمي هذا التوحيد توحيد الربوبية، ولكن هناك توحيدان غير هذا التوحيد، فتوحيد الربوبية الذي هو توحيد الخالق ال يدعيه أحد، وحتى فرعون لم يدع خلق

السماوات واألرض، بل ادعى ملك مصر، وال أظن أن أحدا من الخلق اآلن يستطيع أن يدعي انه خلق السماوات واألرض، والقرآن لم ينزل لغرس هذا التوحيد فقط، بل نزل

إلبطال أمرين آخرين هما الجبت والطاغوت، فما هو الجبت وما هو الطاغوت؟ الجبت هو دعوى الذين يزعمون أن لهم عند الله دالة أو قرابة أو انهم وسطاء أو

شفعاء، أو أن بإمكانهم أن يقربوا الناس إلى الله زلفى. وفي هذا الباب يدخل كل المشعوذين الذين يستغلون الناس ليوصلوهم إلى الله، ويهددونهم بأنهم سيسخرون

اآلخرة وستصيبهم المصائب في الدنيا إن لم يطيعوهم، وهذا النوع من الناس ال يسيطرون على الناس بسلطانهم الدنيوي، وال بقوتهم السياسية أو المادية، بل

يخوفونهم بقوى خفية غيبية، فيخاف الناس الذين لم يعرفوا التاريخ وتجارب البشر من هذا النوع، ويتخذ هذا الخوف مظاهر له في عبادة الرجال الصالحين أحياء وأمواتا، أو

الذين يظن فيهم الصالح والقربى والزلفى إلى الله، وهذه هي وثنية الشعوبالضعيفة.

أما الطاغوت فهو الذي يرهب الناس ويهددهم بالعذاب في الدنيا، وبالقتل وقطعنا أشد عذابا( )األرزاق، وبالضرب بيد من حديد خل ولتعلم}ن أي }م في ج}ذ}وع الن ك بن [وألصل

.] 20/71طه: لقد كان هذان الصنفان من الشرك مختلطين فيما سبق من األزمان التاريخية،

فكان الملك} مختلطا بالله، أو مقربا منه، أو إبنا له أو للسماء، ولكن ومع مرور التاريخ حصل االفتراق والتخصص، وغن بقي التعاون والتآزر. وربما برز بعد ذلك إله المال وهو

االقتصاد، ثم بدأ ينفصل ويتخصص، كما بدأ الجبت يظهر بصورة جديدة هي صورةاإلعالم واإلقناع.

ال إكراه في الدين()التوحيد و )كل هذا مهم، ولكن األهم هو أن نعرف: معنى آية الكرسي، معنى ه} ال إله إال الل

ه})ال إكراه في الدين( متصل بمبدأ )ال إكراه في الدين(. ألن مبدأ )ه}و الحي( ومعنى الل ه}و الحي(، وكثيرا ما يحدد القرآن معنى )ال إله إال الله( بالطاعة، باإلسالم، ال إله إال

بالخضوع، ولكن هذا ال يكفي إذا لم يكن عن اقتناع وتصدق وإيمان، ألن الطاعة ال)واإلسالم والخضوع الذي يأتي بدون اقتناع وتصديق ال يكون دينا، ومن هنا كان مبدأ

إكراه في الدين( تفسيرا آلية الكرسي، وتوضيحا لها، ألن االعتراف الذي يأتي باإلكراه ال إكراه في الدين( كذلك ال دين في اإلكراه، بل هو نفاق)ال يكون دينا، وكما انه

ورفض من األعماق، ولكن القناعة وحدها غير كافية أيضا، إذ إن كثيرا من المقتنعينوالمؤمنين ال يكونون مقتنعين بالصواب، ولذلك يكون إيمانهم على الخطأ وبالخطأ.

ليس كل إيمان صحيحا، فكما يمكن لإليمان أن يكون بالصواب، كذلك يمكن له أن ألم تر إلى)يكون بالخطأ، فهناك إيمان بالله الحق، وهناك إيمان بالجبت والطاغوت

}ون بالجبت والطاغ}وت( }ؤمن }وا نصيبا من الكتاب ي }وت ذين أ ذين)، ] 4/51 النساء: [ال واله( وا بالل }وا بالباطل وكفر} ه ه}م)، ] 29/52 العنكبوت: [آمن }ون وبنعمة الل }ؤمن أفبالباطل ي

ون( .] 16/72 النحل: [يكف}ر}

Page 51: كـــن كابن آدم - Jawdat Said · Web viewكن كابن آدم المحتوى الموضوع الصفحة المحتوى المقدمة تمهيد: لغة الحروف ولغة

إذن، ال يقتضي وجود اإليمان أن يكون هذا اإليمان إيمانا بالحق كما يظن كثير منالناس.

البد من الوقوف عند هذه النقطة، ألن المؤمنين بالصواب، والمؤمنون بالخطأ يشتركون في اإليمان، وقد يبذل كل واحد منهما نفسه في سبيل إيمانه، ويظن كل

واحد منهما أنه على الحق المبين، وال يعتبر بذل النفس والمال دليال على صحةاإليمان، ألن المؤمن بالخطأ يبذل نفسه وماله في سبيل اإليمان الخاطئ.

ميزان العواقب كيف نميز اإليمان الصحيح من اإليمان الخاطئ؟ كيف نميز الذئاب من الحمالن؟

كيف نميز الرشد من الغي؟ ينبغي أن نكرر كثيرا أنه ال يوجد ميزان لمعرفة هذه األمور وتمييزها غير عواقب

التاريخ ومصير األمور وقانون الزبد الذي ال يرحم أحدا، فحتى وغن طال بقاء الزبد فإن مآله إلى الزوال، وال يبقى إال األنفع، وللذي يكون خيرا وأبقى على مر الزمن، ولهذا

صار الزمن عنصرا هاما في معرفة الخطأ من الصواب، والضار من النافع، والغثاءوالزبد من األنفع واألبقى.

كل الكالم يمكن فهمه على الخطأ، ألن الكالم ليس هو عين الحقيقة، فكلمة نار ليست نارا محرقة للذي ينطق بها، وحقيقة النار موجودة في مكان آخر، في واقع

الحياة. وبهذا المعنى يظهر لنا أن الكلمات ليست حقائق الحقائق، بل هي مجازات ورموز للتذكير، وحتى كلمة )ال إله إال الله( لها معنى خارجي، ومن هناك نعرف صدق

المراد بها ال من داخلها. من هنا يأتي اهتمام القرآن بالتاريخ، وبما حدث لألمم خالله، ومن هنا تأتى أهمية

آيات اآلفاق واألنفس، وأهمية هذه اآليات تنبع من أنها هي التي ستشهد بالصدق آليات الكتاب، ستشهد بالصدق للرموز، وستحدد وتصحح معاني الرموز، ألن المرجع األخير هو آيات اآلفاق واألنفس في التاريخ، وكلما تقدم التاريخ وتراكم كلما برزت القوانين

والسنن، ومن هنا كانت أهمية األمر اإللهي بالنظر إلى الماضي والحاضر، واألمربانتظار المستقبل القريب والبعيد.

التاريخ مصدر أساسي لمعرفة الخطأ والصواب، وما لم يعترف المسلمون بهذا المصدر فإنهم سيظلون يثقون بصورهم الذهنية وبأهوائهم أكثر من ثقتهم بعواقب

األمور. إن المسلمين ال يعتبرون بعاد وثمود، واليابان واالتحاد السوفييتي، وبالسوق

األوروبية المشتركة، وكأن هذه األحداث ال داللة لها، وال تخضع لقوانين، وال يمكن أنيستفاد منها.

هل يمكن أن أبرز أهمية التاريخ ومصائر األمور؟بين الرشد والغي

ال إكراه في الدين(، مصير)هل يمكن أن نفهم مصير )ال إله إال الله(، ومصير الرشد والغي بعد آية الكرسي؟

( وكيف مفهم الرشد والغي في وقائع التاريخ؟)ما معنى شد} من الغي ن الر قد تبيال إكراه في الدين( الرشد من الغي؟)هل يمكن أن نجد في

ال)ينبغي أال نبتعد في فهم الرشد من الغي، فهو قريب جدا، الرشد من الغي في إكراه في الدين(، اإلكراه في الدين هو الغي، والالإكراه ف الدين هو الرشد.

ال إكراه في الدين(، ولنتأمل في معنى اإلكراه والكراهية، كيف ومتى)فلنتأمل في يتحقق اإلكراه وما طبيعته؟ ما هو الدين وما المراد به؟ هل هو خاص بدين معين أم

باألديان كلها؟ إن فهم ذلك يرجع إلى اإلنسان الذي هو موضوع اإلكراه، فاإلنسان هو

Page 52: كـــن كابن آدم - Jawdat Said · Web viewكن كابن آدم المحتوى الموضوع الصفحة المحتوى المقدمة تمهيد: لغة الحروف ولغة

الذي يقع منه اإلكراه، وهو الذي يقع عليه اإلكراه، وعليه يظهر مقدار هذا اإلكراهودرجته وأدواته.

هذا الموضوع جدير حقا بالبحث النفسي والتاريخي، ومن األهمية بمكان استحضار كل ما قيل في اإلكراه من قبل المسلمين وغير المسلمين، لمعرفة بذرة اإلكراه،

والكيفية التي تظهر فيها، والكيفية التي تبذر فيها، وكيفية نموها إلى أن تثمر، ولمعرفة ما تثمر، ومن الذي يزرع اإلكراه، ومن الذي يحصد ثماره، وما هي أحوال الفاعلين

لإلكراه والمفعول بهم والمفعولين له.أين الرشد من الغي؟!!

كم هو موضوع خصب وشيق؟! وكم هو مفيد أن يكون مثل هذا الموضوع محلدراسة موسعة وموثقة باآلراء والوقائع؟

ما هو سبب نزول آية الالإكراه؟ وما مقدار ارتباط القاعدة العامة بهذه الحادثة؟وهل القاعد ة أوسع من الحدث؟ وما عدد ونوع األحداث التي تتسع لها القاعدة؟

أريد أن أفتح شهية الشباب للدارسة، وال أريد أن أقدم لهم دراسة، وليس في استطاعتي أن أقدم ذلك، ويكفيني أن أبصر ما يمكن حال لمشكلة اإلنسان، ومشكلة

ما بنفسه، ومشكلة تغيير ما بهذه النفس. لقد ف}رغت هذه اآلية من أهدافها وأعماقها، وشاع لدى كثير من المسلمين أنها منسوخة بآية السيف، ومهما كانت أقوال هؤالء الناسخين، وأيا كانوا: فإن أقوالهم وتفسيراتهم ليس لها من القوة والفعالية ما يؤثر بشكل جدي في مسيرة وأحداث

التاريخ. عن ثقافتنا بحاجة إلى تجلية وتصفية، لتعود األمور إلى نصابها، ألن مشكالتنا

متراكمة، وكلما رفعنا طبقة ظهرت طبقات، وكلما أبرزنا مشكلة برزت مشكالتأخرى.

دعنا نبحث الرشد قليال!!.. ال إكراه في)دعنا نتبين الرشد وندقق فيه!!.. هل تبين الرشد من الغي في آية:

الدين(؟ إنني أرى أنه تبين، والذي يتمكن من تصديق هذا هو الذي عرف تاريخ اإلنسان

وطبيعته، وعرف الصالح والفساد في المجتمع البشري. ال إكراه في الدين( هو الصالح والرشد،)إن طبيعة اإلنسان هي التي ستكشف أن

وان اإلكراه في الدين هو الغي والفساد. والذي سيكشف طبيعة اإلنسان هو التاريخ، هو نمو اإلنسان، وما يحدث له من نمو وتقدم مع تقلب األيام، وصالح اإلنسان وفساده

مسجل في تاريخ األيام. ذاك هو المرجع، ومن خالل التأمل في التاريخ سنرى أسباب وسنن الصالح

والفساد. ال إكراه في الدين( أن أهل الكتاب ال يجبرون على)لقد فهم المسلمون من آية

الدخول في اإلسالم، وأن لهم الحق بأن يبقوا على دينهم، هذا ما فهمه جل المسلمين من هذه اآلية، ولكن هل يتوقف الرشد عند هذا الحد فقط، أم أن الرشد يعني أن

ال إكراه في الدين(، وأن أكثر صالح اإلنسان إنما)صالح اإلنسان وفساده متعلق بـ يكون حين يرفع اإلكراه عنه، سواء أكان هذا اإلكراه شعوريا أو الشعوريا.

ال إكراه في الدين()الجهاد و ال إكراه في الدين(،)إن وقائع الدهور هي التي ستشهد لألبعاد التي تأخذها آية

وعالمنا اليوم قدم لنا في هذا الموضوع ما لم يعلمه الناس، وما لم يفطنوا به.

Page 53: كـــن كابن آدم - Jawdat Said · Web viewكن كابن آدم المحتوى الموضوع الصفحة المحتوى المقدمة تمهيد: لغة الحروف ولغة

ال إكراه في الدين( على مستوى العالم كله هي مهمة األنبياء، وهي)إن حماية ه})وظيفة الجهاد في سبيل الله، سواء بالفكر أو باليد، وإذا ارتفع اإلكراه فما جعل الل

}م عليهم سبيال( .] 4/90 النساء: [لك هل نستطيع أن نكشف البون الشاسع واالختالف الكلي بين عالم اإلكراه وعالم

الالإكراه؟ إن عالم الالإكراه ليس له نقيض إال عالم اإلكراه، والذين ال يمارسون اإلكراه هم

الذين حموا أنفسهم وأموالهم، واستحقوا العدل واإلحسان. هل نستطيع أن نفهم ارتباط الإكراه في الدين بآية الرشد، وارتباط آية الرشد بآية:

وه}م) }م أن تبر }م من ديارك }خرج}وك }م في الدين ولم ي }وك }قاتل ذين لم ي ه} عن ال }م الل ال ينهاك}م في }وك ذين قاتل ه} عن ال }م الل ما ينهاك }حب الم}قسطين، إن ه ي }قسط}وا إليهم إن الل وت

}ولئك ه}م فأ وه}م ومن يتول }م أن تول وا على إخراجك }م وظاهر} }م من ديارك الدين وأخرج}وك؟] 9-60/8 الممتحنة: [ه}م الظالم}ون(

}م( إلى آية الرشد!)فلنسم آية الالإكراه، آية الرشد، ولننظر من خالل آية ال ينهاك}م( موجهة إلى مجتمع الغي، كما هي موجهة إلى مجتمع الرشد،)إن آية ال ينهاك

ومجتمع الرشد هو المجتمع الذي يحتوي كل اآلراء والمذاهب والرؤى، المختلفة في تفسيرها للوجود، ماعدا الذين يقتلون الناس ويخرجونهم من ديارهم من أجل أديانهم، والبد هنا من فهم الدين بالطريقة التي فهمنا بها مصطلح اإليمان، وأنه قد يكون إيمانا

}ون بالجبت)بالصواب، وقد يكون إيمانا بالخطأ أو بالباطل، ولذلك قال الله تعالى: }ؤمن ي . فالدين أيضا يمكن أن يكون دين الله، ويمكن أن يكون] 4/51 النساء: [والطاغ}وت(

}م( )دين فرعون أو المشركين أو الكافرين: }بدل دينك ي أخاف} أن ي : … إن [وقال فرعون}}م ولي دين( )، ] 40/26غافر: }ك }م دين ون.. لك ها الكافر} .] 6-109/1 الكافرون: [ق}ل يا أي

}م من))إذن، آية: }خرج}وك }م في الدين ولم ي }وك }قاتل ذين لم ي ه} عن ال }م الل ال ينهاك}قسط}وا إليهم(، هذه اآلية لم تحدد نوع دينه، ولكنها حددت وه}م وت }م أن تبر ديارك

السلوك الذي يتصف به، وهو االمتناع عن القتل والتهجير، والبد من تفهم كلمتي: المقاتلة في الدين، واإلخراج من الديار. فكل من يمارس القتل ألجل األديان واآلراء والمذاهب التي في الرؤوس، والتي لم تتحول إلى ممارسة للقتل واإلخراج من أجل الدين، أيا كان هذا الدين، كل من يمارس هذين السلوكين يقاطع وال يوالي، ومن لم

يمارسها فإنه يستحق البر والقسط.ه)بهذه المفاهيم جاء األنبياء: }د}وا الل ولقد أرسلنا إلى ثم}ود أخاه}م صالحا أن اعب

ئة قبل الحسنة( ي }ون بالس النمل:[فإذا ه}م فريقان يختصم}ون، قال: يا قوم لم تستعجل، ولكن من هما الفريقان؟ وما صفاتهما وكيف نتعرف عليهما ونميزهما؟] 27/45-46

الفريق األول: هو الرسل الذين يدعون إلى عبادة الله وحده، والفريق الثاني: هو أولئك الذين يرفضون دعوة الرسل، ونستطيع أن نقول: إنهما فريقان: فريق

الموحدين، وفريق المشركين، فريق المؤمنين وفريق الكافرين، فريق الراشدين وفريق الغاوين، فريق الالإكراه وفريق اإلكراه، فريق الذين ال ينهانا الله عن برهم

ه}( و )وفريق الذين بنهانا عن توليهم، كما حددتها آيتا: }م الل }م(.)ال ينهاك ما ينهاك إن ينبغي أن نذكر أيضا آيتي النساء اللتين تبيناه: الذين لم يجعل الله لنا عليهم سبيال،

لم فما)والذين لنا عليهم سلطانا مبينا: }م الس }م وألقوا إليك }وك }قاتل }م فلم ي }وك فإن اعتزل}م عليهم سبيال( ه} لك لم)، ] 4/90 النساء: [جعل الل }م الس }لق}وا إليك }م وي }وك فإن لم يعتزل

لطانا }م عليهم س} }م جعلنا لك }ولئك }م}وه}م وأ }وه}م حيث} ثقفت }ل }فوا أيديه}م فخ}ذ}وه}م واقت ويك.] 4/91 النساء: [م}بينا(

Page 54: كـــن كابن آدم - Jawdat Said · Web viewكن كابن آدم المحتوى الموضوع الصفحة المحتوى المقدمة تمهيد: لغة الحروف ولغة

شد} من الغي( ) ن الر ، الفريقان هما] 2/255 البقرة: [ال إكراه في الدين قد تبي فريق الرشد وفريق الغي، فريق الذين يقاتلون في الدين ويخرجون من الديار، وفريق

الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم.عواقب التباس الرشد بالغي

وإذا كنا نطيل في بحث هذا الموضوع، فإن ذلك يعود إلى أننا نريد أن نبين الرشد من الغي، ألن االلتباس الحاصل بين الرشد والغي يجعلنا نعيش الغي ونحن نظن أننا

نعيش الرشد، ونبذل أموالنا وأنفسنا في سبيل الغي، ونحن نظن أننا نبذلها في سبيل الرشد، وطالما بذلت دماء وأزهقت نفوس بين غي وغي، ال بين رشد وغي، وذلك ألن األمر يلتبس على الناس حين يرون نزاعا، فيظنون أن كل نزاع البد فيه من أن يكون

أحد الطرفين على الرشد واآلخر على الغي، وال يعلمون أن من النزاعات ما يكون بينغي وغي، بين إكراه وإكراه آخر.

هذا أحد مواطن االلتباس التي طال عليها األمد حتى فقد الناس معنى الرشد، فلميعد أحد منهم يريد أن يكون راشدا.

البد أن يتبين الرشد من الغي، ولكن من المفارقات الطريفة والجميلة أنه رغم التباس الرشد بالغي التباسا شديدا في العالم اإلسالمي، فقد بقيت عالمات واضحة

لمن أمكنه أن يتأمل ويتبين الرشد من الغي. إن الرشد هو الالإكراه، والغي هو اإلكراه، ولكي يكون الدين راشدا ينبغي أن يأتي بغير إكراه، ولكن ليس كل دين بغير إكراه هو دين راشد، فإن جاء الدين باإلكراه كان

نفاقا. الخلفاءالمفارقة الطريفة هي موضوع تسمية الخلفاء األربعة بعد النبي الراشدين، فلماذا سمي هؤالء راشدين، وكيف اختير لهم هذا االسم؟

لقد عم عند جمهور المسلمين أن الذين أطلق عليهم وصف الرشد من الخلفاء هم األربعة األولون، ولم يطلق هذا الوصف عل الذين جاؤوا من بعدهم، ولعل ما يعلل ذلك

هو أن هؤالء األربعة جاؤوا إلى الحكم بغير إكراه، وأما الذين جاؤوا بعدهم فقد وصلواإلى الحكم باإلكراه، ولذلك لم يطلق على أحد منهم اسم راشد.

لقد احتفظ المسلمون بهذا اللقب نقيا من التلوث والتشويه، فالذين جاؤوا بعد األربعة سموا خلفاء، ولكنهم لم يسموا راشدين بل سموا: أمويين وعباسين وعثمانيين

… وهكذا فكما ال يكون الدين باإلكراه ؛ كذلك ال تكون السياسة والملك باإلكراه، قديتسلم إنسان الملك والسلطان باإلكراه، ولكنه عندها ال يكون راشدا، بل يكون غاويا.

لكي يتبين الرشد من الغي ينبغي أن ننتبه إلى آيات اآلفاق واألنفس وعواقب األمور وسير أيام الله في األمم، وكيف يتم تداول اإليمان بين الناس، والتاريخ يتقدم

إلى الرشد مهما كان بطيئا، وما ينبغي أن يغيب هذا عن أذهاننا أبدا، وإال نكون قد أخذنا عن الوجود نظرا غير راشد وغير سوي، فالكون ليس جامدا، وليس متداعيا، بل هو متحرك إلى األمام، ولم يأت بعد ما علم الله مما سيزيد في الخلق، ولم يأت بعد

ما علم الله من القضاء على الفساد وسفك الدماء، ولم يأت بعد ما سيخلق الله مما ال 16/8 النحل: [ويخل}ق} ما ال تعلم}ون( )، ] 3/1 فاطر: [يزيد} في الخلق ما يشاء}( )نعلم:

}ث} في األرض( )، ] اس فيمك } فيذهب} ج}فاء وأما ما ينفع} الن بد .] 13/17 الرعد: [فأما الزتعميم مبدأ الالإكراه

فكرة )ما ينفع الناس( أساسية ألخذ تصور صحيح عن الوجود وطبيعته، ألن أيتصور آخر هو تصور تشاؤمي يأساوي قاطع لطريق العمل واالجتهاد، ومثبط للهمم.

شد} من الغي( ) ن الر .] 2/255 البقرة: [ال إكراه في الدين قد تبي

Page 55: كـــن كابن آدم - Jawdat Said · Web viewكن كابن آدم المحتوى الموضوع الصفحة المحتوى المقدمة تمهيد: لغة الحروف ولغة

ال إكراه في السياسة قد تبين الرشد من الغي. فإذا كان الالإكراه واجبا في الدين الذي هو أقدس المقدسات، فمن باب أولى أال يكون هناك إكراه فيما دون ذلك، فباستطاعتك أن تقول: الإكراه في السياسة، الإكراه في المذاهب، الإكراه في القناعات، وال يوجد: افهم هذا وإال قتلتك، ولكن يوجد: افهم

هذا الذي دليله كذا وكذا، وإن لم تفهم فإن على كل منا أن يجتهد في توضيح الفهمالذي يتبناه، وال يجوز له أن يتجاوز إلى: إن لم تفهم سأقتلك وسأخرجك من ديارك. ال يزال في العالم قتل ألجل الدين، وإخراج من الديار، ولكن هذه األعمال بدأت

ال إكراه في الدين( نظريا، وبدأ)تالقي االستنكار، وفي هذا توجه نحو قبول فكرة ال إكراه في الدين(، وإلى )ال إكراه في السياسة(، وهو)العالم بعمومه بالدخول إلى

ه}( )يتطور باضراط في هذا الموضوع وسيتطور حتى }ل }ون الدين} ك 8/39 األنفال: [ويك ، فالناس يدينون لله بقلوبهم ال بألسنتهم فقط، والدين الذي يأتي باإلكراه ليس دينا،]

}وبهم( )بل هو نفاق: }ون بألسنتهم ما ليس في ق}ل .] 48/11 الفتح: [يق}ول إن دساتير العالم اليوم كلها تحتوي في بنودها األولى على ما يقرر حرية االعتقاد،

الجميع يسجلون هذا، وإن كان تنفيذه يتفاوت تفاوتا كبيرا، وعلى الرغم من هذا فإن(، ومن لم يتبين له هذا)العالم يتقدم إلى الرشد رغما عنه: شد} من الغي ن الر قد تبي

حتى اآلن فسيتبين له هذا طوعا أو كرها، ألن اإلكراه زبد ال نفع، والزبد سيذهب جفاء،ولن يمكث في األرض إال ما ينفع الناس.

لقد سلط الله الذين يأخذون بالرشد أكثر من غيرهم، على الذين ال يأخذون به ويأخذون باإلكراه، وعلى قدر أخذ الناس بالرشد فإنهم موعودون بالنصر واالستخالف والتمكين في األرض حتى يأتي من هو أشد تمسكا بالرشد منهم، وعندها فإن األنفع

ينسخ األدنى منع نفعا، هذا هو قانون الله في الكتاب، قانون الله في اآلفاق واألنفس:}نسها نأت بخير منها أو مثلها( ) ، قانون الله ال] 2/106 البقرة: [ما ننسخ من آية أو ن

يقضي بأن ينسخ األدنى ما هو أعلى منه، بل يقضي بأن ينسخ األعلى ما هو أدنى منهفي النفع.

ال إكراه في الدين( مطلب آفاقي أنفسي)وكما أن آيات اآلفاق واألنفس تؤكد أن مهما حاول الكارهون للرشد، فإن البشر يتقدمون إلى الرشد، والتاريخ يقدم األدلة والمكافآت للذين يقتربون من الرشد، ويقدم الحساب والجزاء الذي ال يحابي لمن

ينتكب سبيل الرشد. إن العالم يدلف إلى األنفع واألصلح، مدفوعا بقانون الزبد، ألن األنفع هو الذي

سيمكث في األرض.العالم وعقيدة التشاؤم

إن عقيدة الشؤم والتشاؤم واليأس تستولي على العالم هذه اإليمان، وأصبحت ثقافة الناس مبنية على الرؤية الظالمية، ولم يعد في الناس من يتبين الرشد الذي

يتقدم شيئا فشيئا، والمنارات والعالمات التي تسطع في الليالي الحالكة، حتى ال ييأسالناس، وحتى يظلوا يحثون الخطأ سيرا نحو النور والرشاد.

لو قام قائم ووضع استبانة دقيقة لكشف مقدار من يعيش حالة اليأس والتشاؤم، ومقدار من يعيش حالة األمل وعقيدة اإليمان ورؤية أن الكون يسير نحو األنفع

واألصلح واألرشد، لكان هذا اإلحصاء دليال يوضح سبب عدم مشاركة كثير من الناس في السعي إلى اإلصالح، وسبب قعودهم حيارى يائسين متبلدين، يسخرون من الذين

يسعون إلى اإلصالح. كم هي مهمة هذه الدراسات في تسريع حركة التاريخ، وإيقاظ الناس ليكونوا من

بناة العالم األرشد بدأب ويقين.

Page 56: كـــن كابن آدم - Jawdat Said · Web viewكن كابن آدم المحتوى الموضوع الصفحة المحتوى المقدمة تمهيد: لغة الحروف ولغة

}نشد أناشيد التسبيح، ولنحقق ربنا أرنا مناسكنا، واهدنا سبلنا، وألهمنا رشدنا، لن بسعينا علمك فينا، ونكون كالبنيان المرصوص، ولنطلع على عالم نورك الذي أخذت

على نفسك عهد إتمامه، لنكون باعثي األمل في القلوب ومطلعي النور في النفوس،ولنكون من الذين يسعى نورهم بين أيديهم.

أال لنعد إلى بحث الرشاد.. من هو الكاتب الذي سيكتب عن الرشد والرشاد؟ من هو الذي سيزين في أعين الناس حال المجتمع والحكم الراشد؟ من ذا الذي سيكشف

من جديد أن العالم مدفوع إلى الرشد، وأنه يتلمس الرشد؟ هل نستطيع أن نحمل نور الرشد؟ هل نستطيع أن نرى مالمح رشد إبراهيم عليه

السالم؟ هل سيظهر سبيل الرشاد الذي دعا إليه ذلك الرجل الذي آمن ودعا قومه وقال

شاد( )لهم: }م سبيل الر بع}وني أهدك .] 40/38 غافر: [يا قوم ات}رى كيف ضاع الرشاد، وكيف نستعيده، وما الذي يصرفنا عن أن نتخذه سبيال. ت

لماذا وكيف ومتى ضيعنا الرشد، وكيف نستعيده، وكيف نرجع إليه؟ لقد سجل تاريخ العالم اإلسالمي ضياع الرشد بكل دقة ووضوح، إنهم فقدوه في الفتن، فقدوه حين استيقظ الغي وبدأ يتلبس بالرشد، حين بدأ اإلكراه في السياسة

والحكم، عندها انسحب الرشد مأسوفا عليه والقلوب تتسمر وتقول: مات الرشد، بلقتل واغتيل مأسوفا عليه، ثم دفنوه سرا، وودعوه حسرة.

ومع األسف الشديد فإن المسلمين لم يبحثوا هذا الموضوع بحثا سننيا ونفسيا بشريا، وبدال من ذلك بحثوه وفسروه غيبيا وخوارقيا، وجعلوه شانا إلهيا، ولم يفهموه

فهما وجهد من الناس، وحسبوه شانا فوقيا، فوق سعي البشر وجهدهم. كم هي كثيرة المشكالت التي نحن بحاجة إلى إصالحها وحلها وإيضاحها، ومن

المشكالت التي تراكمت رد األمور إلى الله وتحييد جهد البشر، هذه مشكلة إسالمية،وهي قبل ذلك مشكلة بشرية.

الفصل الثالثقراءتان للقرآن

هنا أطرح موضوعا متصال بمشكلة الرشد، وكنت قد عرضته مرات عدة، وبعناوينوا ما بأنف}سهم(، ولكنني اآلن أطرحه بشكل)مختلفة، لقد عرضته في كتاب ر} }غي ى ي حت

مختلف وبعنوان جديد هو: إمكان قراءة القرآن قراءتين مختلفتين. نقرؤه مرة على أن التاريخ ووقائع األيام من صنع الله تعالى، ومرة على أن

التاريخ واألحداث والتغيرات التي تحدث خالل التاريخ وبين الناس من صنع الناس أنفسهم. وعلينا أن نهتم بالتمييز بين هاتين القراءتين، ألنه يترتب عليهما مواقف

العرض الذي قدمه محمد أركون في تاريخية الفكر العربي اإلسالمي، حين قال: » إن التاريخ بحسب القرآن من صنع الله وليس من صنع البشر، بما فيهم األنبياء

والمصلحون « ثم يذكر آيات على ذلك. فإذا وصل االلتباس في هذا الموضوع إلى هذه الدرجة، فإنني أشعر بضرورة بحثه وتوضيحه. ولتوضيح هذا األمر أذكر هنا المثل الذي يقدمه القرآن حين يتحدث عن كل

من الزراعة والتناسل البشري، فيقول:ارع}ون؟( ) }م تزرع}ونه} أم نحن} الز }ون، أأنت ث }م ما تحر} .] 64-56/63 الواقعة: [أفرأيت}ق}ونه} أم نحن} الخالق}ون؟( ) }م تخل }ون، أأنت }من }م ما ت .] 59-56/58 الواقعة: [أفرأيت

في الواقع إن الله هو الذي خلق النباتات واألشجار، وهو الذي خلق التربة والماء، ولكن نحن من صنع البستان، نحن من وضع البذور في األرض وقلب التربة، إال أننا لم

Page 57: كـــن كابن آدم - Jawdat Said · Web viewكن كابن آدم المحتوى الموضوع الصفحة المحتوى المقدمة تمهيد: لغة الحروف ولغة

نصنع، ولم نضع، ولم نخلق سنن اإللقاح وتكون األجنة في األرحام، ولكن بدون تزاوجالناس سوف لن يخلق الله اإلنسان.

هكذا نستطيع أن نرى الجزء الذي يرجع إلى الله تعالى في حدوث األحداثالتاريخية، والجزء الذي يرجع إلى اإلنسان في حدوثها، فنقول:

إن الله هو الذي انبت الزروع، وخلق األجنة في بطون أمهاتها.ونقول أيضا:

عن الناس هم الذين يفلحون األرض ويضعون البذور، وهم الذين يتزوجونويضعون النطاف في األرحام.

فالفعل يرجع إلى الله من جانب، وإلى اإلنسان من جانب آخر، الخلق يرجع إلى الله، ووضع البذور في الحقل، والنطاف في األرحام ؛ يرجع إلى اإلنسان. وينبغي أن

نميز بين هذين العملين، بين السنن التي تعود إلى الله، وبين ما يعود لإلنسان من ممارسة هذه السنن، والله تعالى هو الذي خلق السنن والنتائج، والبشر هم الذين

مارسوا السنن وسخروها لتحقيق النتائج، وعلى هذا األساس نستطيع أن نقرأ القرآن قراءتين اثنتين، قراءة تشير إلى أن التاريخ والتغيير الذي يحدث في حياة الناس ؛

يخلقه الله تعالى، وقراءة تشير إلى أن أحداث التاريخ تنتج عن ممارسة سنن الله في}نسب الحدث إلى الله من جانب، وذلك بخلقه للسنن وجعلها قابلة التاريخ، هكذا ي

للتسخير من قبل البشر، وينسب إلى الناس الذين يتصرفون بهذه السنن ويمارسونها من جانب آخر، وممارسة الناس للسنن هي التي تكون سببا لحدوث هذه األحداث،

وبون هذه الممارسة ال يبرز الله تعالى األحداث إلى الوجود. ينبغي على المسلمين أن يتأملوا هاتين القراءتين، وأن يعلموها ألطفالهم، وأن

يدربوهم عليهما، كما يعلموهم ويدربوه على األحرف الهجائية، على تجويد القرآن، كي ال تلتبس عليهم هذه التفصيالت، وكي ال ينتج عن هذا االلتباس مذاهب وعقائد متضادة

ومتضاربة ومتقاتلة، وكي ال ينتج عن التباسها افتراء على الله وتكذيب آليات الله، أوتأليه للبشر، أو إضاعة لقيمة سعيهم وجهدهم.

إن إبراز هاتين القراءتين ضرورة كبرى، بل لعلنا، إن لم نوضح هاتين القراءتين وااللتباس الحاصل بينهما ؛ نضيع الفائدة من دراسة القرآن الكريم، ويتحول إلى عامل

إلغاء وحذف لجهود البشر كما فهمه محمد أركون اعتمادا على الصور الذهنية الموجودة عند أكثر المسلمين، أو في الثقافة اإلسالمية التي اختلط فيها أمور كثيرة،

والتبست التباسا شديدا. هاتان القراءتان: قراءة خلق الله للسنن، وقراءة ممارسة البشر لهذه السنن،

}ذكران أحيانا بوضوح وجالء، كما في قوله تعالى: را نعمة)ت ه لم يك} م}غي ذلك بأن اللوا ما بأنف}سهم( ر} }غي ى ي ه ال)، وقوله تعالى: ] 8/53 األنفال: [أنعمها على قوم حت إن الل

وا ما بأنف}سهم( ر} }غي ى ي ر} ما بقوم حت }غي .] 13/11 الرعد: [ي عن النعم التي يتمتع بها البشر، من الصحة في األبدان، والغنى في األموال،

والتعاون على البر والتقوى في الشدة والرخاء، هذه النعم لها قوانين وسنن، وينبغي على الناس أن يفهموها ويمارسوها، كي تبقى هذه النعم عليهم وال تزول عنهم، وإذا

زالت فإن الله لن يعيدها إلى الناس إال إذا غيروا بجهدهم وسعيهم وتبصرهم مابأنفسهم.

هنا في آيتي التغيير هاتين ؛ نسب الله إلى ذاته تغييرا، ونسب إلى الناس تغييرا، ولكنه جعل التغير الذي نسبه ألي ذاته متعلقا بالتغيير الذي نسبه إلى الناس، فعلى الناس أن يغيروا ما بأنفسهم أوال، كي يغير الله ما بهم ثانيا، وهذا واضح وجلي غاية

وا ما بأنف}سهم(،)الوضوح والجالء في قوله تعالى: ر} }غي ى ي ر} ما بقوم حت }غي ه ال ي إن الل

Page 58: كـــن كابن آدم - Jawdat Said · Web viewكن كابن آدم المحتوى الموضوع الصفحة المحتوى المقدمة تمهيد: لغة الحروف ولغة

ولكن ومع وضوحه وجالئه ال زال يشوبه الغموض في نفوس الناس، وال زالوا ينتظرونمن الله أن يغير ما بهم وما بأنفسهم.

ينبغي أن نتمسك بهذه اآلية، ونعض عليها بالنواجذ، ونجعلها آية مفتاحية لفهم القراءتين بوضوح وجالء، وينبغي أن نقوم باختبارات وتدريبات على هاتين القراءتين،

ألن عدم االنتباه إليهما يخلف إشكاالت كثيرة وكبيرة.االرتباط الوثيق بين القراءتين

إن الجهد والممارسة ومحاولة التعليم والتفهيم والتذكير يزيل االلتباس بإذنه تعالى. وبين هاتين القراءتين ارتباط شديد بحيث إذا ذكرت إحداهما، استلزم ذلك وجود

األخرى حتما، فإذا قلنا: أن الله أنعم على قوم بالغنى والصحة والحب واإليثار، فكأننا نقول: إن هؤالء القوم غيروا ما بأنفسهم من عوامل الفقر والمرض والبغضاء واألنانية. كذلك إذا قلنا: عن الله ابتلى قوما بالفقر والمرض والبغضاء والغدر، فإن ذلك يعني أن

هؤالء القوم يحملون في أنفسهم عقائد ومفاهيم ومذاهب تورث هذه العواقبوالثمرات، ويعني أن الله لن يغير ما بهم حتى يغيروا ما بأنفسهم.

ه}م)وللتدريب على ربط هاتين القراءتين، نقول: إذا قال الله تعالى مثال: ق}ل الل}ذل من }عز من تشاء}، وت }ؤتي الم}لك من تشاء} وتنزع} الم}لك ممن تشاء} وت مالك الم}لك ت

}ل شيء قدير ( ك على ك ، عند هذه اآلية نقول:] 3/26 آل عمران: [تشاء} بيدك الخير} إن إن الله تعالى لم يذكر إال العمل الذي يرجع إليه من خلق السنن وخلق العواقب

والثمرات من تطبيق السنن، وإذا كان الله تعالى لم يذكر العمل الذي يقوم به الناس للحصول على الملك والعز وتحصيل الخير ؛ فهذا ال يعني أن الله يؤتي الملك من يشاء

جزافا، وينزعه ممن يشاء جزافا، بل إنه تعالى ال ينزع الملك إال من الذين غيروا ما بأنفسهم، فالذين يعرفون السنن ويمارسونها يحصلون ثمراتها، ويتمتعون بالصحة

والغنى والحكم الراشد، والذين يجهلون السنن، وال يمارسونها ؛ تزول عنهم النعم،}وا أنف}سه}م يظلم}ون( )وتحل بهم النقم، وصدق الله القائل: ه} ولكن كان [وما ظلمه}م الل

.] 16/33النحل: }وبهم، لو)وحين نقرأ قوله تعالى: ف بين ق}ل دك بنصره وبالم}ؤمنين، وأل ذي أي ه}و ال

ه} عزيز ف بينه}م إن ه أل }وبهم، ولكن الل فت بين ق}ل أنفقت ما في األرض جميعا ما أل ، نقول: نعم لقد ألف الله بين قلوبهم، ولكنه لم يؤلف] 63-8/62 األنفال: [حكيم (

ه)بينها بخوارق بل بسنن، وعدم فهم هذا يجعل حياة الناس مظلمة: فبما رحمة من الل}نت فظا غليظ القلب النفضوا من حولك( فالذين، ] 3/159[آل عمران: لنت له}م ولو ك

يمارسون سنن تأليف القلوب ال يحصل االنفضاض من حولهم. ومهما كان الجهد الذي يبذله البشر تافها وسهال وقليل المؤونة، فإن النتائج الباهرة

وني ماذا خلق)ال تتحقق إال ببذله، فالخلق الذي يقول عنه الله تعالى: ه فأر} هذا خلق} اللذين من د}ونه( ، هذا الخلق البديع المكرم ال يخلقه الله إال إذا] 31/11 لقمان: [ال

مارس الناس التزاوج.موقف القرآن من الذين ينسبون أخطاءهم إلى الله

وإذا أردت أن تتدرب على فهم هذا الموضوع، فانظر إلى ما يقوله الله تعالى عن}وا)الذين أعلنوا أنهم يحذفون جهد اإلنسان وال يرون إال عمل الله: ذين أشرك سيق}ول} ال

منا من شيء( ه} ما أشركنا وال آباؤ}نا وال حر .] 6/148 األنعام: [لو شاء الل لقد حذف هؤالء القوم ما يرجع إليهم في حدوث هذه العقائد والممارسات، ونسبوا

كل شيء إلى الله، ولكن ماذا أجابهم الله على أقوالهم هذه؟}م من)أجابهم بقوله: ى ذاق}وا بأسنا، ق}ل: هل عندك ذين من قبلهم، حت كذلك كذب ال

ص}ون( تخر} }م إال ، وإن أنت الظن بع}ون إال }خرج}وه} لنا؟ إن تت .] 6/148 األنعام: [علم فت

Page 59: كـــن كابن آدم - Jawdat Said · Web viewكن كابن آدم المحتوى الموضوع الصفحة المحتوى المقدمة تمهيد: لغة الحروف ولغة

انظر إلى هذه الردود الخمسة التي رد بها الله على الذين ينسبون أخطاءهم التيارتكبوها إلى الله، ويبرئون أنفسهم منها ويدفعون المسؤولية عنها.

إن هذا األسلوب في االحتجاج ليس جديدا في التاريخ، ألن الذين من قبلهم كذبواهذا التكذيب.

}نتج نتائج الخراب التي سوف يذوق وبالها أولئك هذا الفهم، وهذا النظر، يى ذاق}وا بأسنا(.)المكذبون، وسيصابون بالمصائب، وهذا معنى قوله تعالى: حت

}خرج}وه} لنا؟(، إن هذه الدعوى ليست مبنية على علم) }م من علم فت ق}ل: هل عندكيمكن إخراجه إلى الوضوح والجالء، كي تصير علما.

هذه الدعوى ظن واتباع لألهواء فقط.وهذه الدعوى ليست سوى حرص وأماني يخدعون بها أنفسهم.

}م أجمعين( )ثم قال تعالى بعد ذلك: ه الح}جة} البالغة} فلو شاء لهداك [ق}ل: فلل.] 6/149األنعام:

ال تظنوا أنكم حين ضللتم كان ضاللكم رغما عن الله، إنه قادر على أن يسيركم تسيير األجرام العظام كالشمس والقمر، فال تحيدون عن المسار الذي رسمه لكم،

ولكنه تعالى أعطاكم األمانة فخنتموها وضيعتموها. لقد أفردت لهذا الموضع مؤلفا خاصا بعنوان )حتى يغيروا ما بأنفسهم(، ولكنني ال ازعم، إال هنا وال هناك، أنني قلت أو فهمت عن هذا الموضوع ما يكفي ؛ بل إن على العقول والقلوب المؤمنة الفتية في العالم اإلسالمي وفي العالم كله أن يتفهموا هذا

الموضوع ليحملوا األمانة ويحققوا ما علم الله في اإلنسان، ألن ذلك لن يتحقق إال بجهد البشر وتغييرهم لما بأنفسهم، ولن يغير الله العواقب حتى يغير الناس ما

بأنفسهم، وسيظل الناس يذوقون بأس ما بأنفسهم حتى يغيروه، ولن يمل الله حتى، وإذا لم تكف المثالت التي خلت في التاريخ ؛ فستكرر أمثالها، وفي هذا المعنى نمل

ى)يأتي قوله تعالى: }ل آية حت }ون، ولو جاءته}م ك }ؤمن ك ال ي ذين حقت عليهم كلمة} رب إن الى يروا)، وقوله تعالى: ] 97-10/96 يونس: [يروا العذاب األليم( }ون به حت }ؤمن ال ي

.] 26/210 الشعراء: [العذاب األليم( إن اإليمان ال يحصل لهؤالء حتى يروا العذاب األليم، وقد ال تكفي رؤية العذاب

األليم، بحيث يحتاج األمر إلى أن يذوقوا العذاب، ولكن بعض الناس ال يرجعون حتىحين يذوقون العذاب، إال حين يتكرر العذاب في األجيال المتعاقبة.

أيها الشباب أيها المسلمون! أيها المؤمنون! اجتهدوا وتنافسوا في إبراز الحقائقوتوضيحها، وفي اكتساب العلوم والمعارف ونشرها، وال تكتموها.

كيف ومن سيبسط هذه المفاهيم؟ من الذي سيجلو ويمحو الظلمات، ويضع أبناءالمسلمين على سبيل العلم الذي ينبغي أن يسلكوه.

كيف ومن الذي سيقيم الدورات التدريبية لتدريب أبناء المسلمين على هذه القراءات، ولتصحيح المفاهيم المغلوطة والغامضة؟ كيف سنحول المساجد إلى أماكن

تشع بالعلم والنور إلزالة ما بالنفس من مفاهيم أورثت المسلمين الذل والحرمان، وجعلتهم يذيقون بعضهم بأس بعض؟ كيف نحول حياتنا إلى األمن والهدى، ونكون من

}ولئك له}م األمن} وه}م م}هتد}ون( )الذين قال الله عنهم: ؟ ] 6/82 األنعام: [أ إنني أرى المستقبل الذي تتحقق فيه هذه اآلمال بعين البصيرة، وحين نفهم طريق

الهدى لن يتمكن أحد من أن يقف في وجهنا، وسيشع النور، وسيحل األمن والهدى. فأي الفريقين)لقد ذكر الله تساؤل إبراهيم عليه السالم بعد محاجته قومه، قال:

}ولئك له}م األمن} }لم، أ وا إيمانه}م بظ }وا ولم يلبس} ذين آمن }م تعلم}ون؟ ال }نت أحق باألمن إن ك.] 82-6/81 األنعام: [وه}م م}هتد}ون(

Page 60: كـــن كابن آدم - Jawdat Said · Web viewكن كابن آدم المحتوى الموضوع الصفحة المحتوى المقدمة تمهيد: لغة الحروف ولغة

عن المر لقريب، وسيتعجب الناس بعد أن يستيقظوا ويفهموا! كيف كان يغيب عنا، وكيف بقينا في الظلمات، وكيف علينا هذا األمر خالل كل هذا التاريخ الطويل

المضني؟!.نعم لقد كنا غائبين عن رؤية ما يحدث، وال زلنا غائبين.

لنعد إلى الرشد، ولنبحث كيف وبماذا يتبين الرشد من الغي، وكيف التبس الرشد بالغي، وكيف قبلنا الدخول إلى صراع الغي بالغي مع الغي، وكيف سجلنا في التاريخ

لحظة ضياع الرشد والدخول في الغي..ينبغي أن نكثر من العودة إلى المكان الذي فقدناه فيه.

حدثني صديقي فاروق األدهمي بقصة فلسفية قال: كان هناك يبحث في األرض عن شيء أضاعه، فجاء إليه رجل وسأله، عم تبحث؟ قال: أبحث عن مفاتيح فقدتها، فسأله: أين فقدتها؟ فقال: هناك، وأشار إلى مكان آخر غير المكان الذي يبحث فيه،

فقال له: إذا كنت أضعت مفاتيحك هناك، فلم تبحث عنها هنا، وال تبحث هناك؟ فقال: هنا يوجد ضوء، وهناك ال يوجد ضوء. هذا الرجل لم يخطر في باله أن يأخذ الضياء إلى

حيث فقد مفاتيحه. دعنا نبحث عن الرشد حيث فقدناه، دعنا نحمل معنا الضياء إلى حيث كان عهد

الظالم، وهل من ضوء ابيض لنبحث عما فقدناه، لنبحث عن الرشد؟ ولكن ما هو الرشد؟ الرشد هو االهتداء إلى الحل األرشد )سبيل الرشاد(، إلى الحل المثل، إلى

الحل األقل كلفة واألعم نفعا، الرشد هو الحل بدون معاناة، هو الحل بطريقة اللعبالمغري.

كم هو مهم اكتشاف الطرق الراشدة لتعليم األطفال واستغالل حب االستطالع غير القابل لإلطفاء لديهم، ال شك أن حب االستطالع الذي ال ينضب عند األطفال يمكن

استخدامه حين نكون ماهرين في إبداع الوسائل الجديدة والحلول المبتكرة.توينبي ونظام سير الحضارة

وتحضرني هنا مالحظة المؤرخ توينبي عن نظام سير الحضارة، كيف بدأ وكيف تموت، قال ما معناه: » إن الحضارة تبدأ من األقلية المبدعة التي تهتدي إلى الحلول

السهلة التي تختزل الجهد والوقت وتصل إلى أفضل النتائج بأقل الجهود، فهذا المبدع، أو هذه األقلية المبدعة، تقود القافلة بأناشيد اإلعجاب التي تهتدي إلى اعظم الثروات

الكامنة في اإلنسان الستخدامها على الوجه األمثل، وحين يفتح هذا الطريق ؛ فإن البشر واألطفال ليدهم استعداد لالستمرار في بذل الجهود وعدم التوقف عن الكد

والكدح مادامت العالقة بين الجهد والمردود لصالح المردود، ولكن الحضارة تبدأ باالنهيار حين تبدأ العالقة بين الجهد والمردود باالضطراب، وذلك حين يبدأ سهم الجهود

باالرتفاع، وسهم المردودات باالنخفاض، هنا تبدأ النفوس باالنطفاء والتراخي، والهمم بالتقاعس والتقاعد عن بذل الجهود غير المثمرة، وهنا يتغير الوضع من اإلبداع إلى

التكرار الممل، ألنه لم يعد هناك وقوف كاف من العواقب والمردودات المغرية، فتتباطأ الحركة، وعند ذلك يتحول الذي كان يقود الناس بإبداعه وبأناشيد اإلعجاب،

ويستبدل بموسيقى أناشيد الفرح موسيقى الكرابيج والسياط التي تهوي على األجساد كي تستمر في اإلنتاج الذي ال يعود بما يغني عن المنتج شيئا، فانهيار الحضارة يبدأ عند تحول األقلية المبدعة الموقظة لشهية الناس إلى السعي الحثيث والتعاون على زيادة

الثواب على جهودهم، عندما تتحول هذه األقلية المبدعة إلى أقلية متسلطة تسوقالناس بالقهر واإلكراه «.

تأمل هذه العالقة اإلنسانية، وما فيها من وقود محرك لجهود البشر، بدل إبداع طرق الثواب، وتأمل العواقب التي يحصلها الناس من هذه العالقة، وستراها أضعافا

Page 61: كـــن كابن آدم - Jawdat Said · Web viewكن كابن آدم المحتوى الموضوع الصفحة المحتوى المقدمة تمهيد: لغة الحروف ولغة

مضاعفة، كمثل حبة أنبتت سبع سنابل، في كل سنبلة مئة حبة، والله يضاعف لمنيشاء.

استثمار طاقات األطفال: تأمل شان من يبدع طريقا ليحصد من الحبة سبع مئة حبة، بدل ذاك الذي يعود بحبة واحدة ال تسد النفقات، أو ال تأتي بأي حبة فيكون إنتاجه أقل من الجهد الذي

بذله. إن نظام الكون مبني على التسخير، واإلبداع األفضل دوما، والتسخير الذي يعطي

مردودا أعلى ينسخ التسخير األدنى مردودا، وإن االستثمار األعظم هو استثمارإمكانات األطفال على االستيعاب، ويتحقق ذلك بابتكار الطرق التعليمية المشوقة.

تأمل شوق األطفال للعب والحركة والتأمل واالبتكار إذا كنت ممن يستفيد بحذق مما قدمه التاريخ. ال يوجد اعظم من هذا االستثمار الذي يعمل على إبداع وابتكار

النفوس الطليقة الفتية التي ال تمل من االستمرار واإلصرار العنيد على السير فيطريق اإلبداع، وذلك حين يتم وضعهم على الطريق.

هذا العمل هو اعظم األعمال قاطبة على مستوى العالم كله، وقد ضرب عيسى عليه السالم مثال غاضبا، حين قال عن الذين يكونون قدوة سيئة لهؤالء األطفال،

ويعيقونهم عن التزكية، ويقومون بدال من ذلك بتدسيتهم، وقال عنهم إنهم جديرون بأنتوضع أحجار الرحى في أعناقهم ثم يقذف بهم في البحر.

اها( )تأمل في معنى قوله تعالى: اها، وقد خاب من دس الشمس:[قد أفلح من زك91/9-10 [.

كيف نغفل عن هذه اآليات؟ كيف نضل عن التنبه والتأمل في هذه العبر؟ كيفنكسل ونتلبد ويتملكنا اليأس؟

إن الطاقة الكهربائية مبثوثة في كل مكان من العالم، ولكن كيف سينتبه اإلنسان إليها؟ كيف سنكشف سبيل الرشاد لنسلكه؟ كيف نخرج من حياة الفساد والغي

والقهر والكراهية واإلكراه إلى حياة الرشد والرشاد؟الرشاد!!.. الرشاد!!.. الرشاد!!..

ليس كشف الرشاد ككشف الكهرباء والتفنن في تسخيرها، لكنه يعتمد على االهتداء إلى كشف اإلنسان، إلى كشف القوى الكامنة في هذا المخلوق األمثل، القابل

ألن يكون في احسن تقويم وأعلى عليين، والقابل ألن يرد إلى أسفل سافلين. إنهقابل ألن يعاق عن النمو واالكتمال، وان يحال بينه وبين سعيه إلى اإلبداع.

لقد عاش الناس طويال قبل أن تدخل الزراعة وتربية الحيوان حياتهم، وعاشوا طويال وليس في حياتهم القراءة، عاشوا طويال وليس في حياتهم الكهرباء، واآلن

يعيشون وليس في حياتهم الرشد، وال يزالون معاقين عن أن يصيروا أو يبلغوا حياةالرشد، وأن يستأنسوا بالرشد والرشاد.

كيف فقدنا الرشد في أنفسنا، وكيف فقدناه في مجتمعنا؟ كيف فقدنا الرشد فيتربيتنا، وفي سياستنا؟

كيف دخل إلى ظننا إمكان أن يكون كل من السوط والعصا أساسا في تربيتناالمدرسية والبيتية، وفي التعامل مع الناس في مجتمعاتنا؟

الزلنا نردد مقولة: )عن العصا من الجنة(، وكانت قبل ذلك الكلمة التي يقولها األبللمعلم حين يأخذ طفله إليه هي: )اللحم لك، والعظم لنا(.

كيف لم ننتبه إلى أننا نمسخ حياة هذا الطفل المسكين؟ كيف نوحي إليه بان المعرفة ال تأتى إال بالعصا والسوط؟ كيف نشوه استعداداتنا؟ كيف نؤسس الكراهية

واإلكراه في حياتنا من أول لحظة، ونقمع الحب، حب العلم، حب االستطالع، حب

Page 62: كـــن كابن آدم - Jawdat Said · Web viewكن كابن آدم المحتوى الموضوع الصفحة المحتوى المقدمة تمهيد: لغة الحروف ولغة

اكتشاف المجهول، حب الغوص في األسرار واألعماق، حب الدخول واالهتداء إلىأعماق األشياء المخبأة.

إننا لم نصل إلى أعظم وأقدس ما وصل إليه إبداع الخلق، ولم نستطع أن نزرع في النفوس حب التطلع والمعرفة، هذا الحب الذي يتجدد مع كل مولود، وإذا كان ثمة

فطرة فهي فطرة حب تعرف المجهول. هل يمكن لي أن أقول: إن كل الوسائل التي نتعامل بها مع هذا الخلق المبدع

)الطفل(، إنما هي وسائل تعيقه وتحرمه من إمكاناته، وتقطع عليه الطريق، وتستلبه، وتشعره بالحرمان، وتمنعه من النمو، وتقتل حبه وتوجهه لالستطالع.. إننا بذلك نوحي

إلى اإلنسان انه ال سبيل لإلصالح واإلبداع، وانه ال مناص له من التحول إلى الفسادوالتخريب والتحدي.

إن البشر يفكرون في استغالل التراب والنبات والحيوان، ولكنهم يفكرون أيضا في إعاقة اإلنسان وابتكار الوسائل التي تجعله يائسا، وتضعه على طريق الفساد الذي

يؤدي إلى الهدم ال إلى البناء. إن الرشاد هو االهتداء إلى السبيل التي تجعل األطفال يستمرون في كشف

المجهول بطرق متجددة في اإلبداع، ال تجعل لهم سبيال للملل والتبرم والشعور بان طرق اإلبداع والمعرفة قد سدت في وجوههم، فإذا أبدعنا الخبرات الجديدة المتالصقة

فإنهم سيتعلمون بدون علل. إننا بحاجة إلى أن نقدم للمتعلمين وسائل مشوقة ومحرضة لمساعدتهم على

تقبل العلوم والمعارف الحديثة. إن هذا ممكن، وهو يتحدى ذكاء البشر القائمين على التربية، والتاريخ يعلمنا أن التبذير في اإلمكانات يكون في البدء كبيرا، وكلما تقدم

الناس، كلما زاد توجههم إلى االقتصاد.أثر المعرفة التاريخية في اإلنسان:

إن الناس يكبرون ويهرمون ويموتون دون أن تتوافر لهم الظروف التي توقظ شوقهم إلى التكامل، ولعلهم يقضون حياتهم كلها دون أن يشعروا ولو مرة واحدة بالسعادة الغامرة التي يتمتع بها اإلنسان حين يتعرف على التاريخ الماضي، وعلى

كيفية حدوث ما حدث ومعاناة الناس لما عانوه. إن هذا الفهم يولد حالة من الخشوع واالحترام والقداسة للحياة، حالة من السكر الذي يتحدث عنه الصوفية الذين قالوا: » لو يعلم الملوك ما نحن عليه لجالدونا عليه

بالسيوف «. كيف نصنع هذه البضاعة؟ كيف نذيقهم طعم هذه الحاالت والمقاالت؟ إنها ليست سحرا وال خوارق، بل هي أمور لها طرقها وسننها التي يمكن كشفها وإيصالها

إلى الناس. إن إيصال اإلنسان إلى تعرف الماضي واألمور التي كانت خافية عليهم جميعا،

وعلى كيفية إبداع األشياء الجديدة، وإيصالها إلى الناس، عن فتح عين اإلنسان وقلبه على هذا التاريخ ؛ يجعله يعيش في نور غامر، ورؤية واضحة للعالم بشكل جديد}مارسها على أنفسنا، وعلى أطفالنا، ومبدع، ومن تمكن من رؤية اإلعاقة التي ن

سيصاب بالدهشة من الكيفية التي نصد بها عن سبيل الله، وسيندهش أكثر إذا علم أن كل ما نريد الوصول إليه هو أن نقطع الطريق على الذين يريدون الوصول إلى الرشاد

والسواء. إننا ال نعرف معنى سواء السبيل، وال صراط المغضوب عليهم، وال نعلم الكيفية

التي خلق الله بها عباده حنفاء.

Page 63: كـــن كابن آدم - Jawdat Said · Web viewكن كابن آدم المحتوى الموضوع الصفحة المحتوى المقدمة تمهيد: لغة الحروف ولغة

إننا ضد التاريخ، وضد أعظم ما أبدعه الله بسننه خالل التاريخ، لقد نبذنا التاريخ بسهولة، ولم نقم له وزنا، ولم نر فيه إال أكاذيب وحماقات تبعث النفوس على التقزز

والغثيان إلى درجة اإلغماء. إننا لم نر كيف يصحح التاريخ نفسه، وكيف يذهب بالزبد جفاء، ويحفظ ما ينفع

الناس بكل دقة وأمانة.احتفال القرآن بالمواقف التاريخية الصحيحة

إن القرآن يهتم بالمواقف الصحيحة ويبرزها ولو كانت فكرة شخص واحد في حضارة ضخمة، وإن أصحاب هذه الحضارة ال يسجلونها، انظر كيف سجل موقف

}م} إيمانه}( )مؤمن آل فرعون: ،] 40/28 غافر: [وقال رج}ل م}ؤمن من آل فرعون يكتلقد ألغى القرآن فرعون وعمله وأتباعه، وزكى رجال واحدا من كل هذا التاريخ.

نعم إن في التاريخ فسادا، وسفكا للدماء يتبع سفكا، ولكن فيه أيضا النظر إلى ماحل بهؤالء الغافلين المفسدين السافكين للدماء.

وجاء من أقصى المدينة)انظر إلى مؤمن آخر تحدث عنه الله في سورة )يس(: }م أجرا وه}م م}هتد}ون( }ك بع}وا من ال يسأل بع}وا الم}رسلين، ات [رج}ل يسعى، قال: يا قوم ات

.] 21-36/20يس: لقد سجل الله تعالى موقف هذا الرجل، وهو بهذا ينتقي مواقف محددة، أو موقف

شخص واحد في حضارة بأكملها ليزكيه، ولكن التاريخ المسجل ال يذكر موقف مثل هذا الرجل الذي أبدع موقفا صالحا وقابال ألن يكون بذرة لتطور جديد في الحياة

القادمة.بين النظر واالنتظار

قد يكون التاريخ سجال لمراكز الشرطة التي ال تسجل إال األعمال القبيحة، ولكن التاريخ هو الذي يفرز الزبد من النافع، التاريخ هو الذي يحفظ النافع ويلغي الضار،

التاريخ هو الذي يفصل بين الحق والباطل، التاريخ هو الزمان والمكان الذي تتجلى فيه سنة الله في اإلبداع والتقدم إلى األفضل، التاريخ هو معرفة البدء، هو معرفة األول، هو معرفة النماء والتحول والتغير، إنه معرفة الكيف، والكيف هو التحول والصيرورة،

وكيف بدأ الخلق، التاريخ هو الماضي والحاضر والمستقبل، التاريخ هو الذي يجعلك تصل إلى معرفة الغيب )القبل والبعد(، فمعرفة القبل تفرض عليك التدبر والتفكر في

البعد، في الكيفية التي ولد بها علم المستقبل، والكيفية التي يولد فيها التفكير فيالغيب، فكيف يبرز التفكر في المستقبل؟ إنه يبرز من

انظروا إلى الحاضر الذي هو أمامكم واربطوه بالماضي الذي هو خلفكم، اربطوا)انظ}روا( بـ )انتظروا(.

كيف نتعلم الوصل والقطع؟ كيف نتعلم أن ال نقطع ما أمر الله به أن يوصل؟ كيف نفهم المرجعية؟ كيف نفهم معنى العلم والعقل؟ كيف نكشف أن الحق مرجعه إلى

التاريخ، إلى عواقب األمور؟التاريخ وفرز الحق من الباطل

الحق ليس هو ما في ذهنك وتصورك، الحق هو المصير، هو المنقلب، هو العاقبة،هو الموجود في الواقع..

الحق ليس تابعا لتصوراتك الذهنية، وال عبرة بما في ذهنك إذا م يستند إلى أدلة في الواقع، والناس قد يصلون إلى درجة إنكار الحق، وقد يصابون بالحيرة وااللتباس

من كثرة االختالف في التفاسير والمذاهب والرؤى، وقد يصل بهم األمر إلى اليأس من وجود الحق، ولكن ال يخطر في بالهم أنه ال معول على ما في األذهان من تصورات،

وأن المعول عليه إنما هو المصير والعواقب، فإن لم يكن لك علم بالعواقب، فال علم

Page 64: كـــن كابن آدم - Jawdat Said · Web viewكن كابن آدم المحتوى الموضوع الصفحة المحتوى المقدمة تمهيد: لغة الحروف ولغة

[وال تقف} ما ليس لك به علم( )لديك، وإذا كنت ال تعلم العواقب فال تدع امتالك العلم: .] 17/36اإلسراء:

إنك إن لم تملك معرفة بالعواقب ؛ فما عندك ال يعدو أن يكون أهواء وظنوناوتخرصات.

العواقب إنما تظهر في التاريخ، والقرآن يرجع إلى التاريخ، والمرجعية بحسبالقرآن هي للتاريخ وعواقب األمور.

ما في ذهنك ليس من الضروري أن يكون علما، إذ قد يكون وهما، ولذلك ال يكون ذهنك حكما في التمييز بين الخطأ والصواب من األمور التي في ذهنك أو في نفسك،

فالذهن يجمع الحقائق واألوهام، ويخلط الحق بالباطل، وأما الذي يفرز الحق من الباطل، ويغربل األوهام من الحقائق هو غربال التاريخ، والقانون فيه هو أن الزبد

يذهب جفاء وأن ما ينفع الناس يمكث في األرض، وليس غير التاريخ شيء يمكنه أن يفرز الحق من الباطل، ولهذا فإن الله تعالى في كتابه قد جعل التاريخ مرجعا. لكن

بعض الناس يظنون أن التاريخ هو ما يكتبه الناس مما في أذهانهم، إال أن التاريخ ليس كذلك، ليس التاريخ هو الكتب، ألن الكتب قد تكون مليئة بالخرافات، والتاريخ هو ما

}بقي ما ينفع الناس. يذهب بالخرافات جفاء، وهو ما ي كم مرة ينبغي أن نكرر أن مرجعية القرآن هي التاريخ، هي عواقب النزاعات

ومصيرها؟ بدون التاريخ ال يوجد علم وال عقل، وكل علم أو عقل ال يعتمد على التاريخ ؛ ال يعد

علما أو عقال، بل هو وهم مهما كثر أتباعه وطال بقاؤه.إن مصيره إلى الزوال والفناء، والبقاء هو للنافع الذي سيمكث في األرض.

كم هو ملتبس هذا الموضوع؟ كم هو صعب وسهل في آن واحد؟ كم هو قابلللغموض، وكم هو بحاجة إلى تجلية وتوضيح؟

لن تكون هناك مرجعية ما لم يكن هناك ميزان أو مكيال، وحيث ال يوجد مقياس اليمكن أن يكون هناك حق أو باطل، وما تراه حقا مبينا، قد يراه اآلخر باطال مبينا.

لقد اخضع الله ذاته وأنبيائه وكتبه، للقانون الذي يتجلى في الواقع، وبدون الواقع والعواقب فإن الله الحق ال يتميز من الله الباطل، والنبي الحق ال يميز من النبي

الباطل، وال يميز الكتاب الحق من الكتاب الباطل. كل هذه األمور من ثمارها تعرفونها. وإننا حين نجعل العواقب والثمرات هي المرجع للحكم والتمييز، نكون قد بدأنا

باإلمساك بشيء يمكن أن يخضع للتمييز، للميزان، للقسطاس، للمكيال، لإلحصاء،للعد، للكيف.

القرآن والتاريخ: لنظ}روا( إليهم وإلى الذين سيأتون من)لماذا يهتم القرآن بتاريخ األولين ويقول لنا:

بعد؟ة، لن تضيع ال في الماضي وال في إن الحق والقانون، )الميزان والقسطاس(، السن

الحاضر وال في المستقبل. المناخ الذي يتمتع فيه جسدك باالستقرار محصور ضمن درجات حرارة معينة، وال

بقاء لجسدك خارجها، سواء كان ذلك ارتفاعا أو انخفاضا، بردا أو حرا. المناخ الذي يتمتع فيه جسدك باالستقرار محصور ضمن درجات حرارة معينة، وال

بقاء لجسدك خارجها، سواء كان ذلك ارتفاعا أو انخفاضا، بردا أو حرا. القانون، السنة، الميزان، القسطاس، اإلحصاء، كلها وسائل لتمييز النافع من

الضار، والذين ال يعرفون التاريخ ال يمكنهم أن يقدسوا لله، وال أن يقدروه حق قدره، وال أن يعزروه وال أن يوقروه، ألن عظمة الله تتجلى في خلقه وإبداعاته في خلقه ال

Page 65: كـــن كابن آدم - Jawdat Said · Web viewكن كابن آدم المحتوى الموضوع الصفحة المحتوى المقدمة تمهيد: لغة الحروف ولغة

في مكان آخر، والقرآن يردنا إلى النظر إلى الخلق وعواقب األمور، واكبر األخطاءوالخطايا التي ارتكبها المسلمون ويرتكبونها، أنهم ال ينظرون إلى العواقب.

والمسلمون بشر، وقد يكون ظنهم صحيحا، وقد يكون خاطئا، وقد يفهمون الحق وقد يخطئون في فهمه، إذا لم ينظروا إلى خلق الله، والكتب ال يمكن أن تكون مصدر هداية إن ألغى الناس النظر إلى عواقب األمور وسنن الخلق، والكتاب يمكن أن يضل

وأن يهدي، فمن ال يعرف التاريخ يضل فيه وبه، ومن يعرف التاريخ وعواقب األمورذين ينق}ض}ون)يهتدي به: الفاسقين، ال }ضل به إال }ضل به كثيرا ويهدي به كثيرا، وما ي ي

}فسد}ون في األرض، }وصل وي ه} به أن ي ه من بعد ميثاقه، ويقطع}ون ما أمر الل عهد اللون( }ولئك ه}م الخاسر} .] 27-2/26 البقرة: [أ

كيف نقطع القرآن عن العواقب؟ كيف قطعنا ما أمر الله به أن يوصل؟ كم مرة أشرت إلى أهمية التاريخ في كتاباتي وأحاديثي، وكم وجدت أن الناس ال يعرفون

التاريخ، وال يفهمون إال أنه األشياء التي يكتبها الناس في مدح حكامهم، وفي تزيينالباطل؟

المسلمون والتاريخ: إنني أندهش كثير ا حين أكتشف أن التاريخ )أيام الله( يفهم فهما خاطئا ومبهجا

من قبل المسلمين، الذين يتصورون أنه مجرد أكاذيب وفواحش ودجل وخداع، وال يعرفون أنه مختبر سلوك البشر، ومجال فرز الحق من الباطل، وميزان الفوز من

الخسران. إنهم يندهشون أيضا حين أقول لهم: إن التاريخ ليس هو الكذب والدجل، وإنما هو

المصير الذي يؤول إليه الكذب أو الصدق. في الحقيقة هم ال يعرفون التاريخ، وال يدركون النور الذي ينبثق من الظلمات، ولذلك فهم يعيشون في الكذب من أدنى المستويات إلى أعالها، ويشعرون باليأس

والشك والمقت والحرمان. هذا الطغيان والدجل والكذب يحمل بعضنا على مقابلته باالنفجار والتفجير أو

الكذب المقابل، ويسجل بهذا األسلوب االنتحاري احتجاجه على الكذب. التاريخ ليس أكاذيب ودجال، التاريخ هو معبد ذي الجالل واإلكرام، هو محكمة الخالق العظيم التي تحاسب الناس، ال تحاسبهم على ما في أذهانهم من األهواء

والظنون، وال على ما تخيلوه من السراب ن وعاقبة السراب ال يمكن أن تكون ماء أوه} سريع})ظال: ه عنده} فوفاه} حسابه}، والل ى إذا جاءه} لم يجده} شيئا، ووجد الل حت

، التاريخ محكمة الحساب السريع، نعم الحساب السريع] 24/39 النور: [الحساب( في الدنيا قبل اآلخرة.

إن من ال يعرف التاريخ، وال يحدق فيه، يظن ويتوهم أنه ال يوجد حساب، ولذلك فهو بطيء محبط، أما الذي يعرف التاريخ، فإنه يشعر بمعنى سرعة الحساب،

الحساب الذي نعيشه نحن في عصرنا هذا، يشعر بهذا من درس األزمان التاريخية، واألحقاب الجيولوجية، وكيف كان سيرها بطيئا ممال، وكيف صار التاريخ اآلن بتسارع

مستمر. كيف نأخذ بأيدي الناس إلى معبد التاريخ، إلى الخشوع، إلى الجالل والجمال، إلى

إبداع الخالق العظيم، إلى نبضات القلوب، وإلى خفقات النفوس، إلى األجنحة التيتهفو للطيران، إلى ما في جوانحنا من شوق وتوق للعلو والصعود؟

كيف نقترب من لحظة التجلي؟ كيف تقترب من لحظة ابن خلدون الذي قال: » التاريخ في ظاهره ال يزيد على أخبار عن األيام والدول.. وفي باطنه نظر وتحقيق،

Page 66: كـــن كابن آدم - Jawdat Said · Web viewكن كابن آدم المحتوى الموضوع الصفحة المحتوى المقدمة تمهيد: لغة الحروف ولغة

وتعليل للكائنات ومبادئها دقيق،.. وعلم بكيفيات الوقائع وأسبابها عميق، فهو لذلكأصيل في الحكمة.. «.

ماذا أكتب هنا؟ عن أي مفتاح أبحث؟ أين هو الضوء؟ ما هي األرضية التي أحاول أن امهد عليها؟ ما هذا التاريخ؟ أي شيء هي هذه المرجعية التي أريد أن أستبدل بها

المرجعية الحديثة؟ ما معنى المرجعية؟ عن أي شيء أبحث؟ كيف سأجعل للتاريخ معنى مقدسا؟ ألي شيء كنت أسعى حين ذكرت سابقا أنه علينا أن نتعلم أن نقرأ القرآن قراءتين اثنتين، قراءة أساسها أن التاريخ من صنع الله، وقراءة أساسها أن

التاريخ من صنع البشر؟ ما هي األشياء التي أريد أن أعرف بها، وما هي أدوات المعرفة التي امتلكها؟ أي قرون استشعار علي أن استخدم للدخول إلى معنى

التاريخ؟ ما ثمن الدخول إلى معنى التاريخ؟ هل الدخول إلى هذا المعبد ميسور؟ ما هي الطرقات التي ينبغي علينا أن نسلكها كي يسمح لنا بالدخول إلى حرمه؟ لماذا

كانت مكة بواد غير ذي زرع، ولماذا وضعت حولها المواقيت التي ال يجوز لقاصد الحج أن يعبرها إال م}حرما ينشد نشيد الحج؟ أال يمكن لإلنسان أن يزور حرم التاريخ إال بشق

األنفس؟ ما هي الهدايا التي اعتاد عليها في حياته كلها؟ هل عليه أن يخرج من المحيط؟ هل عليه أن يرجع إلى الوراء وينزع عن نفسه األوزار من زينة القوم التي

يحملها على ظهره، هل عليه أن يخرج من الرفث والفسوق والعصيان؟التاريخ والحجة اإلبراهيمية

كيف ندخل معبد التاريخ، ما هي شروط الطهارة؟ ما هي طقوس هذا المعبد؟ متى وضع مخطط هذا المعبد؟ من الذي شيد أسسه، ومن الذي سيفرش أرضه؟ كيف سنطهر هذا المعبد الذي صار مركزا لألوثان واألرجاس والغوايات؟ متى سيحل الرشاد

فيه؟ متى سنعرف كيف وضعت أسسه، وما هو تاريخه؟ متى سنفهم أذان إبراهيم}بنى في مصر على يد الفراعنة حين بنى إبراهيم عليه السالم عليه السالم؟ ماذا كان ي

البيت الحرام؟ إبراهيم الذي وضع المرجعة التي يمكن من معرفة الحق والباطل،}م لها عاكف}ون( )والنافع من الضار، وذلك حين قال لقومه: تي أنت ماثيل} ال [ما هذه الت

}وا:)، ] 21/52األنبياء: }د}ون؟ قال واتل} عليهم نبأ إبراهيم، إذ قال ألبيه وقومه: ما تعب}م أو }م إذ تدع}ون، أو ينفع}ونك }د} أصناما فنظل لها عاكفين، قال: هل يسمع}ونك نعب

}ون( }وا: بل وجدنا آباءنا كذلك يفعل ون؟ قال .] 74-69 الشعراء: [يض}ر كأنهم يقولون: نحن ال نبحث الموضوع على أساس النفع والضرر، نحن نبحثه على

أساس ما وجدنا عليه آباءنا. لماذا اآلباء مصدر المعرفة؟ لماذا كان االقتصار على أعمالهم دون النظر إلى عواقب أفعالهم؟ لماذا ال زال اآلباء مصدر معرفتنا؟ كيف نستطيع أن نجعل اآلباء

مصدرا للمعرفة الصحيحة؟ حين نحاكم أعمالهم إلى ميزان التاريخ الذي يذهب الزبد فيه جفاء، ويمكث في

األرض ما ينفع الناس. حين قال الصوفية قوله المشهور: » من ال شيخ له فشيخه الشيطان «، فإن هذا

القول ليس باطال كله، بل إن نصفه صحيح، إذ ال يمكن ألحد أن يتعلم الحروف الهجائية بدون شيخ، بدون أستاذ، بدون أب، فاألب واألستاذ ضروريان، وإال كان علينا أن نعود

بالتاريخ إلى ما قبل كشف اآلباء للحروف الهجائية. ولكن، في الوقت نفسه، ال يجوز لنا أن نقف عندما وصل إليه اآلباء، وإال بقينا على سفك الدماء وذبح األبناء، ولم ندخل إلى ملة إبراهيم الذي أبطل القربان البشري، أو

فتح باب إلغاء القربان البشري.

Page 67: كـــن كابن آدم - Jawdat Said · Web viewكن كابن آدم المحتوى الموضوع الصفحة المحتوى المقدمة تمهيد: لغة الحروف ولغة

المقصود هو: كيف نستفيد من اآلباء دون أن يتحولوا إلى أغالل في أعناقنا وآصار على ظهورنا. وكما قال مالك بن بني نبي،: » ليت األثقال التي على ظهورهم ندفنها

معهم حين موتهم، ولكننا نحولها إلى ظهورنا «.مي الطفل مع ماء غسيله « يذكرنا بضرورة تمييز وعلى كل فإن المثل القائل: » ر}

الحق من الباطل، فإن لم نميز نحن، فإن الله سيفعل ذلك، وهذا قانونه الذي يذهب}بقي في األرض ما ينفع الناس، ونحن إذا تعلمنا نستطيع أن نتعلم من الزبد جفاء، وي

النصيحة، فيكفينا بطل وضحية واحدة، بدل آالف الضحايا التي نحصدها دون أن نعتبربها.

}نا آتيناها إبراهيم( )يقول الله تعالى عن إبراهيم: ت ،] 6/83 األنعام: [وتلك ح}جشده}( )ويقول: .] 21/51 األنبياء: [ولقد آتينا إبراهيم ر}

هل)لقد وضعت حجة إبراهيم على قومه في هذه اآلية السهلة البسيطة القريبة: ون؟( إن الحجة اإلبراهيمية هي النفع والضرر. }م أو يض}ر ينفع}ونك

المقدس النافع سئلت مرة عن المقدس، ما هو المقدس؟ فقلت: المقدس هو النافع.فقيل لي:أليس القرآن هو المقدس؟ فأجبت: أليس القرآن هو انفع النافعين، وأهدى الهادين؟

ه} الحق)إن حجة إبراهيم هي التي تفرق بين الحق والباطل: كذلك يضرب} الل}ث} في األرض، كذلك اس فيمك فاء، وأما ما ينفع} الن بد} فيذهب} ج} والباطل، فأما الز

ه} األمثال( .] 13/17 الرعد: [يضرب} الل كيف نرسم خريطة معالم التاريخ؟ كيف نتبين الرشد من الغي؟ كيف نميز الحق من الباطل؟ كيف نميز النبي الصادق من المتنبئ الكاذب؟ كيف نعرف الدين الحق

من الدين الباطل؟ كيف يلتبس هذا بذاك؟ من الذي يفصل هذا عن ذاك؟ متى يكون}وا على)يوم الفصل؟ إنني أبحث يوم الفصل الدنيوي، والذي يأمرنا الله بانتظاره: اعمل

ون( ا م}نتظر} وا إن }ون، وانتظر} ا عامل }م إن . ] 122-11/121 هود: [مكانتك إنني أكتب كالغشيم الذي يضرب في خضم هذا العالم المضطرب الناطق

الصامت، وليس عندي برشامة أو كبسولة تجعلك بمجرد ابتالعها عالما بالتاريخ، والامسك بميزان الحرارة ألقول لك: أنت في درجة حرارة كذا.

إنني أسعى ألضع اتجاها جديدا في التفكير، ومرجعية للعلم والمعرفة، وأريد أنأحدق في كتاب الله الذي أنزله، وفي العالم الذي خلقه، وال يغني أحدهما عن اآلخر.

العواقب المعجلة والعواقب المؤجلة لوال الكتاب ما بدأ التاريخ، وال خرج الناس من التوحش، ولوال أحداث العالم ما

أمكن فهم الكتاب، فعين على الكتاب وعين على أحداث التاريخ، والعواقب هي التي تميز النافع من الضار، والصواب من الخطأ، والحق من الباطل، وإذا كان هذا صعبا،

فإن الثمن الذي يطلبه اإلعراض عن هذا الطريق هو الذي سيلوي أعناقنا، وسيضطرنا لقبول النافع طوعا أو رغما عنا، وإذا لم تصدقوا فما عليكم إال أن تعيدوا التجربة

السابقة ثالث مرات أو أربعا أو عشرا، ولن يمل الله حتى تملوا، ولن يغير قانونه حتىتغيروا ما بأنفسكم عن الله وسننه.

الناس جميعا يدركون العواقب السريعة، فالطفل الذي يمد يده إلى النار يتعلم أال يفعل هذا مرة أخرى، هذا األمر سهل الرؤية لدرجة أنه من السخف أن نذكره ونسوقه

لالستشهاد به. ولكن بعض العواقب ال تظهر مباشرة، بل تحتاج إلى انتظار، وتحتاج دورة ظهور نتائجها إلى مدة تتفاوت كثيرا، وحتى إذا ما برزت وظهرت، فإنها قد تخفى

على الذين ال يجمعون أحداث التاريخ، وال يصلون ما انقطع منها،

Page 68: كـــن كابن آدم - Jawdat Said · Web viewكن كابن آدم المحتوى الموضوع الصفحة المحتوى المقدمة تمهيد: لغة الحروف ولغة

إن انقطاع الصلة، ال ليس حسنا أن نقول: انقطاع الصلة، بل األقرب إلى الصواب أن نقول: إن عدم رؤيتنا الرتباط األسباب بالنتائج يجعلنا ننفي السننية وننكر القانون

والميزان. لقد تنبه إلى هذا سكينر حين بحث موضوع النتائج المؤجلة أو المعززات المؤجلة، وكذلك تنبه إلى ذلك توينبي حين بحث دورة الحضارة، يشعر بذلك عندما درس نماذج

عديدة بغية الوصول إلى قانون انهيار الحضارات وتحللها. إن عمر الحضارة ليس كعمر األفراد أو الدول واإلمبراطوريات، وإن دورة الحضارة

ليست كدورة اإللكترون، ولكن هل نقول: إنها مثل دورة المجرة؟ إن المجرة لتحتاجإلى آالف السنين لتكمل الدورة الواحدة.

هل ال أزال أبحث مذهب ابن آدم؟ هل يحتاج فهم مذهب ابن آدم إلى كل هذه « وكفى؟ أو أن أقول: أناكن كابن آدمالمفاهيم التي أبحثها؟ أال يكفي أن نقول: »

على مذهب ابن آدم؟ كان التاريخ يسير ببطء شديد، وقد اقتضى وضع اآلباء واألبناء في الميزان وقتا طويال، وكان النبي يأتي ويذهب دون أن يتمكن من إقناع رجل واحد، وقد ورد عن

قوله: » يأتي النبي يوم القيامة وليس معه أحد، ويأتي النبي ومعه رجلرسول الله واحد، ويأتي ومعه الرجالن، ويأتي ومعه} ما يسد األفق، وارجوا أن أكون أكثرهم تابعا

.(1)يوم القيامة « التاريخ يتسارع اآلن بوتيرة عالية، فقديما كانت الحضارة الصينية تعيش وليس لدى

أهل مصر شيء من أخبارها، وحضارات أمريكا لم تكن معروفة البتة، وحين وصلالناس إليها أزالوها بدل أن يتعرفوا عليها!!..

الدخول إلى معبد التاريخ كيف سندخل معبد التاريخ؟ ما هو مقدار الخشوع الذي نحتاج إليه للوقوف في

صفوف المتعبدين فيه؟ هل في هذا المعبد صفوف، أم فيه أفراد قالئل، رجلورجالن؟!..

هل يمكن لنا أن نعرف مقدار هذا المعبد، ومقدار قداسته؟؟.. أريد أن أقول لك: عن هذا المعبد هو المرجع الذي يرجع إليه القرآن، ويجعله

مصدرا للمعرفة، وحين جعل القرآن التاريخ مصدرا ومرجعا ؛ لم يعد الناس بحاجة إلى}ولي األبصار( )أن ينزل عليهم كتاب آخر، وال أن يأتيهم نبي آخر وا يا أ الحشر:[فاعتبر}

، ومن ال] 12/111 يوسف: [لقد كان في قصصهم عبرة ألولي األلباب( )، ] 59/2 يقدس هذا المرجع، وال يبالي به، فلن تبكي لهالكه األرض وال السماء، وإن لم تصدقوا

فانظروا إلى الذين يدفعون األثمان الباهظة من الدموع والدماء وحسرات اآلباء واألمهات، على أبناءهم المقتولين أو المفقودين أو المعوقين، وحسرات األبناء والبنات

على آبائهم وإخوانهم، وحسرات النساء على أزواجهم. انظروا إلى األموال التي يخسرونها في سبيل طريق ال يأتي منه نفع، وكان

بإمكانهم أن ينفقوها على المعرفة، وعلى العلم، وعلى الفقه في الدين، وعلى معرفةيوم الدين في الدنيا واآلخرة، وعلى معرفة يوم الدينونة، يوم يدفع الناس الديون.

إن الذين ال يعتبرون يغرقون في الديون، وكذلك الجاهلون الخاملون. اكشفوا قانون الديون، اكشفوا سنة الله في الديون والدينونة، اكشفوا االرتباط

من غلبة الدين وقهرالكائن بين األسباب والنتائج، اكشفوا معنى استعاذة رسول الله الرجال.

( عن ابي سعيد الخدري4284 ، رقم ) ( وابن ماجة في الزهد ، باب : صفة امة محمد 3/158 نحوه أخرجه احمد ) (1)رضي الله عنه .

Page 69: كـــن كابن آدم - Jawdat Said · Web viewكن كابن آدم المحتوى الموضوع الصفحة المحتوى المقدمة تمهيد: لغة الحروف ولغة

من أين ينشأ الدين؟ ما هي نفسية كل من الدائن والمدين؟ ما معنى قهر الرجال،وقهر األمم والشعوب؟ أين نعيش نحن؟

إننا ال نعرف قيمة المعرفة، وال معنى التفقه في الدين، وال مشكلة الديون فيالعالم الفقير، وال ندري من أين ينشأ الفقر.

الفقر ليس هو اإلفالس من الدرهم والدينار، الفقر الحقيقي هو اإلفالس من تزكيةاها( )النفوس التي: اها، وقد خاب من دس .] 10-91/9 الشمس: [قد أفلح من زك

الفقر واإلفالس الحقيقي هو الجهل بالتاريخ وسننه وآيات الله في خراب األمم وهالك القرون والشعوب، ونحن بانفصال شديد عن المعرفة، وال يكفي أننا ال نعرف،

بل إننا ال نعرف أننا ال نعرف، وحتى حين يسألني بعضهم: ماذا تقرأ؟ أصاب بالعجز، وال}رشد إلى أستطيع أن أقول: اقرأ كذا وكذا، ألن األشياء المكتوبة والتي ينبغي أن ن

قراءتها الزالت كسحر فرعون، الذين كانوا يرهبون الناس. كان محمد إقبال حين يصل إلى هذه النقطة يقول مخاطبا به: أنت تغلي السعر

}نفق للحصول على المعرفة، كان يرى واأليدي خواء. وكأني به ينظر إلى ما ينبغي أن ي أن الثمن األول غاليا، وأول من يحصل على المعرفة ؛ يحصل عليها بالصدفة، ولكن

الذي يأخذها بعد ذلك ال يأخذها بالصدفة، بل يأخذها بالجهد الواعي. كيف سنعرف مشكلة المعرفة، مشكلة الوعي، مشكلة الفقه األكبر، الفقه في

الدين، الفقه في الدينونة، فقه الجزاء والعواقب؟؟!.. أين فقهاء العواقب؟ حين أتذكر العقبات التي تقف أمامنا، والعقد المتراكمة حولنا، والسدود واألسوار

التي تمنعنا من الدخول إلى المعرفة والفقه، وتحجزنا عن التأمل والتدبر والتذكر، وتحول بيننا وبين أن نصل ما أمر الله به أن يوصل، حين أتذكر كل هذا أشعر بأننا لم

نعد نستطيع أن ندفع مراكبنا إلى األمام، وأننا فقدنا النور الذي ينبغي أن نرى فيه طريقنا، وأشعر أن علينا أن ندفع ثمنا غاليا للحصول على المعرفة، أو للشعور بان

طريق المعرفة ليست مفتوحة أمامنا. إننا ال نقبع في الجهل فقط، بل نخاف من المعرفة، ألننا نحمل وهما عن الفقه

والفهم واإلدراك، ونسيء الظن بالله، ونجعل أصابعنا ف آذاننا، ونستغشي ثيابنا، ونصرونستكبر استكبارا.

كيف نكشف هذا الوهم الكبير؟ إننا نظن أن الثمن الذي تتطلبه المعرفة كبيرا جدا، هذا الوهم هو الذي يشعرنا

بالفقر، ونحن فقراء بالمعرفة فعال. كأنني أالمس المشكلة من بعيد، ولكن كيف أكون قريبا منها؟ كيف أوصل إليك ما

غ األفكار عن رسول. رأيت؟ أنت معذور، إذا لم يأتك رسول ولم تبلمذهب بالل ومذهب ابن آدم

أين أنت يا بالل؟؟ أخبر الناس بأحوالك، هل أنت مثل سكر الصوفية؟ ما نوع سكرك؟ هل أنت مسحور؟ هل أنت أسطورة؟ هل أنت خارق، هل أنت ممكن أم مستحيل؟ متى سنتعلم منك سرك وسر من صنعك؟ ولكن من الذي صنعك، الله أم محمد؟ هل

؟ هل أنت مثلأستطيع أن أفهم شيئا ما فيك صنعه الله، وشيئا آخر صنعه محمد ونفس وما سواها،)سائر الناس وسائر النفوس؟ هل أنت داخل في قوله تعالى:

اها( اها، وقد خاب من دس -91/7 الشمس: [فألهمها ف}ج}ورها وتقواها، قد أفلح من زك10 [.

هل أنت خارق يا بالل؟؟ هل أنت معجزة؟؟

Page 70: كـــن كابن آدم - Jawdat Said · Web viewكن كابن آدم المحتوى الموضوع الصفحة المحتوى المقدمة تمهيد: لغة الحروف ولغة

أريد أن أعرفك، أريد أن أحللك، أريد أن أفككك، أريد أن اكشف سرك، أريد أنأنشر مذهبك.

ي أم شيعي ن كيف أدخل إلى مذهبك يا بالل؟ ما هي خصائص مذهبك؟ هل أنت س}أم معتزلي أم تنويري أم أرثوذكسي؟ هل أنت آدمي؟

دعوني والهوى يغتال عقلي فعقلي أن اجن بكم جنوناأنت سر الله، فيك سر آدم وحواء، أنت حامل األسرار، أنت مستودع النبوات.هل أنت من المبشرين بالجنة؟ هل سمع رسول الله صوت نعالك في الجنة؟

أخبرني يا بالل عن مذهبك، عن دينك، عن سرك، عن عرقك، ما الذي جعلك تجن جنونك بمجرد أن آمنت بمحمد؟ ماذا رأيت فيه؟ هل أستطيع أن أرى ما رأيت؟ أال

تحسب حساباتنا؟ ما هي حساباتك؟ مع أي )كمبيوتر( كنت تتعامل حين اتخذت القرار الصعب؟ كيف حسبت إمكاناتك؟ كيف تجاوزت العزوة العشائرية وأنت ال عشيرة لك

وال مال وال عيال، وأنت الغريب المملوك، هل يكمن سرك في فقرك؟ اعذرني يا بالل ألنني أتحدث عنك، بما أسأت إليك، ولكنني أشعر أن سرك ينبغي

أن يكشف ويذاع ويعلن بين كل السود والفقراء والمحرومين، وأشعر انه ينبغي أنيفهمك كل البيض واألغنياء والمترفين.

أنت يا بالل بحاجة إلى اكتشاف، أظن أم جالل الدين الرومي كان يبحث عنك حين كتب المثنوي، في كل أناته، وفي كل ما أخرجه نايه من حنين وأنين، واعتقد أن إقباال

كان يريد أن يقترب منك، حين جعل موالنا جالل الدين الرومي أستاذا وشيخا له. حين خرج الرومي هائما على وجهه، يبحث عن شمس الدين التبريزي، هتف قائال:

أنا لم أكن ابحث عن شمس، أنا كنت ابحث عن ذاتي. لقد كان يبحث عنك دون أن شعر، وآنا أبحث عن شيخ، عن صوفي، عن صاحب قلب، ولكن سعيي وقف عندك في

النهاية. من ذا الذي سيتابع سعيي في التعرف عليك؟ أنت تحمي نفسك بالجهل، بالظالم.

إن العالم اليوم يعيش في الظالم، فكيف نتعلم النفخ في الصور؟ كيف نتعلم إحياءاألموات.

ليست المعجزة الحقة في أحياء األجساد التي فقدت الحياة، وليس هذا ما نسعىإليه، ولكننا نسعى إلى أحياء موتى األفكار، موتى العلم والفقه والفهم، موتى اإلدراك. كيف نخلع} األوثان؟ كيف نزيل الرعب؟ كيف نبعث األمن؟ كيف نقترب من )مملكة بالل(؟ كيف نفهم بالال وكيف نحلله؟ كيف نخرج بالال من عالم األسطورة والغيب، إلى

عالم الحضور والشهادة؟.يا بالل! هال علمت الناس ما حل بك، وما حصل لك!!..

ما السر الذي احتوى عليك صدرك؟ من أنت يا بالل؟ هل أنت فيلسوف؟ هل أنت عالم تاريخ؟ بماذا آمنت؟ ما نوع إيمانك؟ ما الشيء الذي رأيته وغاب عن الناس؟ هل

خرجت من بطن أمك حامال العلم والمعرفة؟ هل أنت معجزة؟ ألست مثل سائر}م ال تعلم}ون شيئا( )الناس؟ ألست داخال في قوله تعالى: }مهاتك }ط}ون أ }م من ب [أخرجك

.؟] 78/ 16النحل: ممن تعلمت وماذا تعلمت؟ هل يكن أن تخبرنا بسرك؟ هل لديك سر؟ هل يمكن

أن تكشفه؟ هل ذهب هذا السر بذهابك أم أبقيته للعالم من بعدك؟ كيف اختزلت فيكسل؟ كيف تحديت فلسفات الفالسفة؟ من أنت يا بالل؟! ومن الذي رساالت الر

يستطيع أن يخبر عن سرك؟ هل أستطيع أن ادعي أنني اطمع في أن أكشف سرك للعالم الذي غابت عنه فلسفتك ورؤيتك؟ هل أنا مجنون حتى ازعم لنفسي أنني

Page 71: كـــن كابن آدم - Jawdat Said · Web viewكن كابن آدم المحتوى الموضوع الصفحة المحتوى المقدمة تمهيد: لغة الحروف ولغة

أدركت سرك، وأنني أطمع في أن انشره وأذيعه بين الناس؟ هل أنت كأبي الهول اليكشف سرك؟

لست سرا يا بالل، بل أنت عالنية، وستصير بضاعتك قابلة للتداول. أنت عينة منة، لست مستحيال، أنت ن مصنع معين، أنت لست معجزة، أنت تخضع للقانون والس

ممكن يا بالل. إنهم ال يفهمونك، إنهم يظنون موقفك عجزا عن الدفاع عن النفس، وضعفا، واستكانة، يظنوك مسكينا ال تفهم الصواب، ويعتقدون أمك لو سلكت طريقا آخر كان أفضل، يظنون انك لو لم تعلن إيمانك لكان أفضل، ولكن هل فهموا إيمانك؟

هل فهموا بماذا آمن؟}سيء إلى من الكاتب الذي سيكتب عنك يا بالل، يا سيدنا، يا بن باح؟ إنني أ

اسمك، وإلى إيمانك بمحاولتي تناولك وتحليلك وتفسيرك وتأويلك، وإذاعة سرك. كيف ستعلم العالم األسود المضطهد دروسك؟ كيف ستعلم األحرار معنى

عبوديتك؟ كيف نقتبس من نورك؟ كيف استطعت أن تفهم ما غاب عن الناس؟ كيفاستطعت أن تصير أعظم اقتصاديي العالم؟ كيف ميزت الربح من الخسارة؟

عن العالم اليوم يهتم باالقتصاد، ولكن ما معنى االقتصاد؟ االقتصاد هو اختزالالجهد والوقت، وتكثير المردود.

لقد ضربت يا بالل المثل في االقتصاد، وتجاوزت كل نماذج االقتصاد في العالم، ضربت المثل االقتصادي األعلى في صناعة اإلنسان، في تحويله، في تغيير ما بنفسه،

فماذا حل بنفسك، وما الذي تغير فيها؟ هل أستطيع أن أفهمك وأن أبلغ عنك؟ لقد وقف الرومي وتحادث مع شمس الدين، وقال بعد ذلك متعجبا مما عند

شمس:أحرقت ما عندنا وقدتهاهذه النار فما قصتها

}ختزل اإليقاظ والتحويل؟ كيف تختزل }حول} اإلنسان؟ كيف يوقظ؟ كيف ي كيف يالتربية؟ كيف يختصر الزمن؟ كيف يضاعف اإلنتاج في مجال التربية والتغيير؟

}م زمن الخير النافع، وكيف يختصر إن هدف الكون إبراز الخير واألبقى، فكيف يزمن العناء؟

بالل وتغيير كا باألنفس أيكون اكتشاف األسلوب الذي به تم تحويل بالل وتغييره ؛ سبيها إلى باكتشاف

النار؟ كيف اكتشف الناس النار؟ كانت النار توقد تلقائيا في الطبيعة، ثم بدأ اإلنسان ينتبه إلى اشتعال النار، ثم تعلموا إشعالها، ولكن كم استغرق اإلنسان من الوقت حتى تعلم إيقاد النار؟ هل

نستطيع أن نتأمل هذا األمر؟ هل كان ظهور بالل، كاالشتعال التلقائي للنار، أم أنه كان تحوال من اإليقاد التلقائي إلى اإليقاد الصناعي؟ما شان الكهرباء؟ كيف كانت ظواهر الكهرباء في الطبيعة؟ كيف

كان اإلمساك بها صعبا؟ كم من الوقت الطويل احتاج اكتشاف الكهرباء وتسخيرها؟ هل نستطيع أن نقلص زمن التحويل والتغير والتربية؟ ما هي الجهود التي ينبغي

أن نبذلها لتحويل اإلنسان؟ أمامنا تعرض نماذج من التحويل واالختزال التلقائيين، فالطفل الذي كان يولد قبل

عشرة آالف عام، مثل الطفل الذي يولد اآلن، وما يتعلمه خالل السنوات الخمس األولى من حياته تلقائيا، هو اختزال لجهود الناس خالل عشرة آالف عام، إنه يمتص

خبرات ومعلومات السابقين خالل خمسة أعوام. هذا من ناحية اختزال التربية التلقائية، وتحويل الطفل في الصغر بحيث يحتوي تجربة عشرة آالف عام. ولكن قصة

Page 72: كـــن كابن آدم - Jawdat Said · Web viewكن كابن آدم المحتوى الموضوع الصفحة المحتوى المقدمة تمهيد: لغة الحروف ولغة

بالل لم تبدأ من الطفولة، بل هي عملية تحويلية أعقد وأصعب، ومع ذلك فهي عمليةليست خارقة.

هذا ما ينبغي أن نراقبه ونكشف سنته وآليته، إنه تغيير لما باألنفس، وباستطاعتنا أن نضيئه ونضيء احتماالته، ونزيد أو نخفض هذه االحتماالت، وهذا معنى قوله تعالى:

( ماوات وما في األرض جميعا منه}، إن في ذلك آليات لقوم }م ما في الس وسخر لكون( ر} .] 45/13 الجاثية: [يتفك

هل لي أن أدعي كشفت أمورا، واقتربت خطوات، وتقدمت مسافات في هذاالطريق؟

يقول إقبال:لم يثقب ناظم مثلي الدررما فشى ذا السر غيري في البشر

كانت النار قديما تشتعل تلقائيا، دون أن يعرف البشر سنتها، ولكن للنار سنةيمكن اإلمساك بها، وإذا أمسكناها استطعنا تكرارها كلما أردنا.

كيف سأنقل إليك ما يداعب خيالي؟ كيف سأجعلك تصاب بالعدوى، عدوى العافية، عدوى الصحة؟ إن العدوى إنما تكون من طرف واحد، ولكن حيث ال يمكن أن يصاب

المريض بعدوى الصحيح ؛ ال يمكن جعل الصحة عدوى في األمراض الجسدية، أما قانون الصحة النفسية ؛ فهو قابل لتحقيق العدوى، ألن قانون األنفس ساري المفعول في االتجاهين: فالصحة النفسية تعدي، والمرض النفسي يعدي أيضا. القانون الجسدي

يسير باتجاه واحد والقانون النفسي الفكري يسير باتجاهين.اليأس والكفر

هذا من الزيادة في الخلق، والخلق يزداد، والزيادة إلى األنفع، ومن هنا يمكن أن ق}ل جاء الحق)يقال: إن طاقة البناء تغلب طاقة الهدم، وإذا جاء الحق زهق الباطل:

}بدئ})، ] 17/18 اإلسراء: [وزهق الباطل} إن الباطل كان زه}وقا ق}ل جاء الحق وما ي}عيد}( .] 34/49 سبأ: [الباطل} وما ي

ليس القانون أن يجيء الباطل فيزهق الحق، وال أن يجيء الباطل فال يبدئ الحقوال يعيد.

كم هي المسافة التي تفصل بين االعتقادين، وبين الفكرتين، وبين الفهمين؟ كم هو جميل ورائع وبديع أن نصل إلى يقين بأن مجيء الحق يزيل الباطل، بدل أن نعتقد العكس، وبدل أن تعتقد أن الباطل أبدي وسرمدي، وال يزول بمجيء الحق. عند هذه

النقطة يحصل االفتراق بين الكفر واإليمان، بين الحق والباطل، بين التفاؤل والتشاؤم.ون( )لماذا اليأس قرين الكفر؟ القوم} الكافر} ه إال ه} ال ييئس} من روح الل يوسف:[إن

الضالون( )، ] 12/87 ه إال .] 15/56 الحجر: [ومن يقنط} من رحمة رب صحيح أن الدخول إلى عقيدة التفاؤل في فهم الكون ليس سهال، لكن الكون مبني

على التفاؤل في التقدم إلى األنفع من يوم أن خلق الله أول الكائنات الحية إلىه} أحسن} الخالقين( )اإلنسان الذي قال الله عنه: }م أنشأناه} خلقا آخر فتبارك الل [ث

.] 23/14المؤمنون: قف عند هذه النقطة وحرر موضوعها، ال يكفي أن أقول لك: اعتقد بهذا الرأي إن

لم تر ذلك في الواقع، إن لم تر التاريخ على هذا الوضع. إن االعتقادات الصغيرة المتشائمة تصور الكون لعنة وفسادا وخرابا، ولكنه إبداع

مستمر.}لد انظر إلى الكون وحدق فيه جيدا، لترى كيف يتسارع التاريخ باطراد، وكيف ي

النجاح} النجاح، واألمل} األمل، األمل ليس نابعا من األهواء، بل هو نابع من التاريخ، منالواقع، من الخلق.

Page 73: كـــن كابن آدم - Jawdat Said · Web viewكن كابن آدم المحتوى الموضوع الصفحة المحتوى المقدمة تمهيد: لغة الحروف ولغة

كم نعيش في حيرة وظالم ويأس وضالل وقنوط؟!!.. اختبر الناس، وسوف تجد أن ضياع االعتقاد الصحيح بنظام الكون يجعل الموقف

سما بالعجز والكسل والكآبة. مأساويا، ومت انظر إلى وجه اليائس كم هو بئيس، وانظر إلى وجه الفاشل كم هو تعيس، وانظر

إلى وجه الناجح كم هو براق العينين م}شرق. اليائس يرى إمكان التغيير بعيدا أو مستحيال، فكيف تستطيع أن تفهمه أن التغيير ليس بالخوارق أو المعجزات، وأن مجرد ظهور إمكان الحل، حتى قبل ظهور الحل،

سيبعث الحياة في نفس اإلنسان، وسيوجهه لحل المشكالت بعزيمة ال يمكن إيقافها،}حدث بينما ال يمكن وضع اليائس على طريق العمل، ألن اليائس يولد القنوط، وقد ي

اليأس االنفجار عند اليائس، نعم اليائس ينفجر، وبدل أن ينقذ نفسه وينقذ اآلخر، فإنهة ن يدمر نفسه ويدمر اآلخر، وقد يشتبه عمل اليائس بعمل اإلنسان الذي يعرف الس

ويتقدم على بصيرة.كم تلتبس علينا هذه األمور، وكم تغيب عن أبصارنا وعقولنا؟؟!!..

هذا األمر هو ما جاء به األنبياء، ألن التغيير ينبغي أن يكون بوعي وبصيرة، والتغيير الذي يكون على بصيرة يتصف بالهدوء واإلصرار واالستمرار، أما اليائس الغامض

فيتصف باالنفجار، ويسعى إلى االختباء في الظالم، واالنقطاع عن اآلخر. إن هذا الموضوع ملتبس ومحير، وحتى حين نبدأ بإبصار الضياء، ونشعر بقدوم

الفجر، فإن الغموض يظل مختلطا بالوضوح، ألن الفجر ال يولد فجأة. ربما يكون سعيي كله متجها نحو جعل العمل اإلسالمي على بصيرة، وألكشف

طريقا قليل النفقات، كثير المرود، يختصر الزمن والجهد ويحسن النتائج، فكيف نكتشف هذا الطريق، وكيف نمشي عليه؟ أيكون كل ذلك مستحيال؟ إن هذا األمر

بحاجة إلى سعي ودأب، وإلى تمرين متواصل. محمد إقبال أصابني بالعدوى، وكذلك مالك بن نبي، وكل منهما كان يرى رؤيا

مختلفة عن الناس، ولكن كيف ننتبه إلى هذه الرؤى المختلفة؟ كيف سأشرح ما أحسبه؟ لماذا يصعب علينا نقل العدوى بالصحة الفكرية والنفسية؟

رحمك الله يا إقبال حين قلت: لو كان جنوني قويا ألصبتك بالعدوى، وماذا يفعلالجنون البارد:

قت} الجيوب وأنت خالي جنوني ال ألومك في قصوريومز سيأتي الحق، وسيزهق الباطل، سيجيء الحق، ولن يتمكن الباطل من الحركة،

وسيتجمد، ولن يستطيع أن يبدئ أو يعيد. هل نستطيع أن نمهد السبيل لمجيء الحقب؟ هل يمكن أن نصف الجمال

والجالل؟ هل أستطيع أن أبين أن ما أتحدث عنه ممكن وقريب، وأن الوهم المتراكم هو

الذي يحول بيننا وبين الفهم؟ هل سأصل إلى درجة انفجار اليائس؟ ال، أريد انفجارا آخر ـ، ال أريد انفجارا ملوثا، فهل نستطيع أن نصنع انفجارا نظيفا؟ أليست مشكلة

العالم اآلن انهم ال يتمكنون من إنتاج طاقة وظيفة؟ وحتى مخلفات الطاقات القذرةيصعب التخلص منها، وال نعود نعرف أين علينا أن نلقيها.

الجنون والسحر والرحمة والعذاب كان جالل الدين الرومي في كتابه المثنوي يناجي نفسه، وكذلك كان محمد إقبال

بن نبي، حين كانوا يبحثون قضية ما، وأنا أيضا أناجي نفسي. هل أجرؤ على مناجاة الذات؟ هل يمكن أن أرفع صوتي؟ هل أجرؤ على الجهر بالجنون؟ متى نصير واثقين

بحيث ال نخاف وال نستحي من إعالن الجنون؟ متى نفهم الجنون؟ متى نفهم بأينا

Page 74: كـــن كابن آدم - Jawdat Said · Web viewكن كابن آدم المحتوى الموضوع الصفحة المحتوى المقدمة تمهيد: لغة الحروف ولغة

الجنون وبأينا المفتون؟ كيف سنحول الجنون إلى سحر؟ لماذا كان األنبياء يوصفون بالجنون والسحر، وما العالقة بين الجنون والسحر، وما هو الشيء الخارج عن الجنون والسحر؟ ما معنى الجنون، وما معنى السحر؟ وإذا لم يكن األنبياء مجانين أو سحرة،

فماذا يكونون؟!. أقصى الجنون يصل إلى التدمير، وأقصى السحر يصل إلى االستالب الكامل

: » أنا رحمةوالسيطرة، والنبوة ليست تدميرا، وليست استالبا، بل هي رحمة، قال رحمة للعالمين( )، (1)مهداة « ، رحمة حتى للذين ال] 21/107 األنبياء: [وما أرسلناك إال

يؤمنون بك، ولكن ما هي الرحمة؟ إنها التنمية، إنها توفير الجهد والزمن، وزيادة المردود، هذه هي الرحمة، والكون كله مخلوق على قانون الرحمة، وكلما عرفنا قانون

الكون اقتربنا من الرحمة، من هدف النبوة التي دعت إلى اإليمان بالله الرحمنالرحيم، الذي سبقت رحمته غضبه.

هل نستطيع أن نرى الرحمة في الكون، أم أن علينا نرى العذاب دائما؟؟!. أليس من الجنون أن ترى الرحمة في الكون عذابا، أو أن نعمى عن طريق

الرجمة وال نبصر إال طريق العذاب؟ إن قانون الكون مخلوق على الرحمة، وقانون الحياة يسير على الرحمة أيضا،

وحتى الحيوانات فإن نموها وتناسلها يسير على الرحمة، األمومة رحمة وحنانوشفافية، ال فظاظة وغلظة.

كيف يمكن لنا أن نفهم أن النبوة رحمة؟ كيف كشف األنبياء؟ كيف نكون ورثة األنبياء، وكيف نكون رحماء؟ كيف نعرف الشقاء والعذاب عن الناس، وكيف نرحمهم

ونزيل عنهم اآلصار واألغالل؟ لم يأت األنبياء باآلصار واألغالل، بل جاؤوا بالرحمة، جاؤوا ليرفعوا اآلصار

)األثقال(، واألغالل، والسالسل التي تقيد أعناق الناس وأيديهم وأرجلهم، جاؤوا لتعمالرحمة الجميع، وليرفع العذاب عن الجميع، وليكسب الجميع دون أن يخسر أحد شيئا.

األنبياء والرحمةكيف خفي علينا ما جاء به األنبياء؟ كيف حولنا الرحمة إلى عذاب؟

إنني أقول كلمة وأكررها، وهي: إن عهد األنبياء لم يأت بعد إلى حياة البشر، ألنهم جاؤوا وبشروا بحياة لم تكن موجودة، ثم ذهبوا، ولكن ما بشروا به سيأتي، والعالم

مندفع إليه رغما عنه، والقرآن دائما يبشر بأن الحق سيأتي وسيظهر، وانه رغم الفساد الذي يعيش عليه الناس، إال أن الصالح قادم، وإذا لم تقبلوا أنتم ؛ فإن الله سيأتي

بقوم يقبلونه. كنت أقول، وال أزال أقول، وسوف أظل أقول: إن ما دعا إليه األنبياء لم يتحقق

بعد في واقع البشر، ولكنه سيتحقق وسيظهره الله على الدين كله. لقد جاء األنبياء ليتنافس الناس على فعل الخير، ولكننا حولنا دعوة األنبياء إلى

تنافس على فعل الشر، فمن أشد منا قوة في قهر العباد؟ من أشد منا قوة فياالحتفاظ باالمتيازات؟ من اكثر من استالبا، وأشد قهرا؟

كيف حولنا الرحمة إلى عذاب؟ كيف قطعنا أرحام البشر، كيف مزقنا بني آدم؟ إن الذي يمزق رحمة األقرب، ال يمكن له أن يرحم اآلخر األبعد، أليس بأسنا - نحن

المسلمين - بيننا أشد؟ أسنا نخاف من بعضنا أكثر من خوفنا من أي عدو آخر علىوجه األرض؟ ماذا حل بنا في حرب الخليج؟

من دالالت حرب الخليج

( وإسناده حسن1/95 ( والطبراني في الصغير ) 1160 ( والقضاعي في مسند الشهاب ، رقم ) 1/35 رواه الحاكم ) (1).

Page 75: كـــن كابن آدم - Jawdat Said · Web viewكن كابن آدم المحتوى الموضوع الصفحة المحتوى المقدمة تمهيد: لغة الحروف ولغة

إن حرب الخليج، تلك المأساة العظيمة، من أكبر األدلة والبراهين والحجج، وإذا كان لألدلة معنى، وللبراهين قيمة، وللحجج سلطان، فإن حرب الخليج هي الفاضحة الواضحة، إن حرب الخليج من أيام الله الكبرى والعظمى، إنها عذاب ومأساة حيرت

النفوس، وصدمت العقول واأللباب، إنها الصادمة، إنها القارعة، إنها الحاقة، لقد أخرست األسنة، وحيرت األفئدة، ولم يستفق الناس منها بعد، إنها أعظم حدث، ألنها

أبرزت المرض الذي كان خافيا، بشكل فاضح، المرض الذي اختمر خالل التاريخ الطويل فكان انفجاره عظيما، لقد كان مرضا كامنا متوطنا، وكان مرضا خطيرا،

والزالت بذوره كامنة. لقد كان مرضا ضخما وعنيفا، ولكن بروزه بعنفوانه وسطوته، أتاح ظهور العالج

الكئيب الكالح على أعظم ما يكون الظهور. بئس المرض وبئس العالج، فقد كان العالج كئيبا، بقدر ما كان المرض فادحا، وقد كان الدافع إليهما حقدا وبغضاء وكراهية وتوحشا، ولم يكن فيه شفقة، وال صلة لرحم

العشيرة، وال فائدة لرحم بني آدم، بل كان تقطيعا لكل األرحام القريبة والبعيدة. لقد جاء األنبياء بالرحمة، جاؤوا ليخففوا العذاب، وليضيعوا األثقال، ولكننا نسلك

سبيل العذاب واألثقال وإهالك الحرث والنسل. هل هذا هو سبيل من أرسل رحمة للعالمين؟ هل هذا هو سبيل الرشد؟ هل هذا

سبيل للرحمة أم للحقد والكراهية؟}ل آية ال) ون في األرض بغير الحق، وإن يروا ك ر} ذين يتكب سأصرف} عن آياتي ال

خذ}وه} سبيال، خذ}وه} سبيال، وإن يروا سبيل الغي يت شد ال يت }وا بها، وإن يروا سبيل الر }ؤمن ي}وا عنها غافلين( }وا بآياتنا وكان ه}م كذب .] 7/146 األعراف: [ذلك بأن

}م رج}ل رشيد( ) ، أليس في المثالت اعتبار؟ أين من] 11/78 هود: [أليس منك يكشف الغطاء؟ أين يبرز الصواب؟ أين الرشاد؟ هل تبين الرشد من الغي؟ هل هناك

رشد، وهل هناك شيء قريب إلى الرشد؟ ما هو الرشد؟القراءتان وصرف اإلنسان عن اآليات

ون في األرض بغير الحق(، ما معنى سأصرف؟) ر} ذين يتكب سأصرف} عن آياتي ال وكيف يكون الصرف؟ هل نستطيع أن نمسك بقانون الصرف، وهل للصرف قانون؟

}صرف اإلنسان عن الرؤية؟ متى ي كيف يضحك اإلنسان، كيف يقهقه ويهتز؟ متى يضحك اإلنسان، وما قانون

ه} ه}و أمات)الضحك؟ متى يبكي اإلنسان وما قانون البكاء؟ ه} ه}و أضحك وأبكى وأن وأن.] 44-53/43 النجم: [وأحيا(

سأصرف} عن آياتي(؟)هل نتذكر القراءتين؟ كيف نقرأ لماذا صرف الله} عن آياته؟ وماذا عمل اإلنسان حتى حدث الصرف؟

ما أرى، وماذا سمع اإلنسان حتى ضحك أو بكى، وماذا صنع الله حتى أضحكوأبكى؟

ما هو الحدث الفكري الذي يؤثر في الحدث الحيوي، وما الرابط الذي يصلبينهما؟

}حدث الصرف عن اآليات ما هو الحدث الفكري، وما هي الصورة الذهنية التي تواالستهزاء بها والضحك منها؟

أمراض الفكر وجراثيمه}حدث اإلقبال واإلصغاء والسمع والخشوع والبكاء؟ ما هو الحدث الفكري، الذي ي هل هذه خوارق وفوضى، أم هي نظام دقيق؟ كيف نكشف الجرثوم، وكيف نعتقله

ونحجمه ونسيطر عليه ونحمي أنفسنا منه؟

Page 76: كـــن كابن آدم - Jawdat Said · Web viewكن كابن آدم المحتوى الموضوع الصفحة المحتوى المقدمة تمهيد: لغة الحروف ولغة

لقد عالجنا مرضنا القديم بمرض أشد بأسا وأشد تنكيال منه، فكيف نتخلص منالمرض القديم والمرض الجديد؟ متى نكف عن عالج المريض بقتله بدل قتل المرض؟ إننا حريصون على المرض، نقدسه، ونحرص على قتل المريض بدل عالجه، فمتى

نكف عن قتل المريض المصاب بالمرض الذي نحمله جميعا؟ إننا بقتلنا له نصدر على أنفسنا جميعا حكم القتل، مهما بدا لنا هذا المريض بغيضا، فإننا ال نميز بين المرض والمريض، المرض مستوطن وجرثومته عند الجميع، ونحن ال

نفكر في المرض أبدا، بل نفكر كيف نقتل المريض. إننا نقدس المرض ونحافظ عليه، ونخاف من زواله، ونحمي عوامله وندافع عنها

إلى درجة الموت في سبيلها. نعم، إننا ندافع عن المريض ونحميه، إلى درجة أننا على استعداد للدفاع عنه حتى

الموت. كيف نكشف هذا الجرثوم المتلوث الخبيث؟ الذي يغتال الفهم، ويحمي نفسه بقوة

الخفاء والتمويه والتلوث، وإذا كانت الجراثيم الكائنات الحية تحتفي عن األبصار، فإن الجراثيم الفكرية أشد خفاء وتلونا وتمويها وتقلبا، هذه الجراثيم تتحدى المناظير،

وتتحدى أهل البيان والمصلحين، وتضحك منهم. لقد وصف ميشيل فوكو هذا الجرثوم، فقال على لسانه: » أنا لست حيث

ترصدني، أنا هنا حيث أضحك منك وعليك «، وهذا الكالم يصف الحقيقة ألنها خفيةأيضا.

كأن الجرثومة تلعب معنا لعبة )الطميمة(، تختبئ عنا، وتجعلنا نتوه ونطاردها مطاردة األشباح، إنها كالشيطان الذي يستطيع أن يختفي اختفاء كامال، وقد تحدانا

نحن البشر، إنه يرانا ونحن ال نراه، ال نراه ولكننا نرى تخريبه وفساده واألشالء التي}ه} من حيث} ال ترونه}م( )يتركها: }م ه}و وقبيل ه} يراك .] 7/27 األعراف: [إن

إن الشيطان يتلبس علينا، ويضحك منا، ويغرينا ويغوينا. نعم لدينا أناس يخرجون الشياطين، ويعالجون المرض التعساء الذين أصيبوا

باألمراض النفسية، وهم مبثوثون في كل البالد اإلسالمية، في طولها وعرضها، إنهم}فرزون تلقائيا وطبيعيا، ال يتخرجون من الجامعات، بل يتخرجون من جامعة الثقافة ي

العامة التي تعمل ذاتيا. ولكننا، نحن المثقفين الذين يقال عنا إننا من إنتاج الثقافة الحديثة المتطورة ؛ لسنا أفضل وال أقرب إلى الرشد في عالج شيطان التخلف الذي يضحك منا ويقهقه، حين نظن أننا تخلصنا منه بالحداثة والفهم، وفي الحقيقة نحن لم

نتخلص إال من اسمه، أما وظيفته وفعاليته فقد زادت وقويت، وكما يقول محمد إقبال: » إن الشيطان أخذ إجازة طويلة حيث مثقفو العصر الحديث يقومون بدوره في

معالجة الذين يتخبطهم الشيطان من المس «. أين باستور الجراثيم الفكرية؟ هل توجه منا أحد لسلوك سبيل يؤدي إلى المعرفة،

وإلى الكشف في هذا المجال؟!.. يقول سكينر: » لو جاء أرسطو وأفالطون وجالينوس، وحاولوا أن يقرؤوا صفحة واحدة في الرياضيات والبيولوجيا واألمراض الجسدية، ألصيبوا بالدهشة، ولما تمكنوا

من تفهمها إال بعد وقد طويل من التأمل، ولكن لو جاء سقراط وديوجين، وحاوال قراءة كتب السياسة واألخالق والقانون الدولي، فإنهما لن يجدا صعوبة في فهم هذه الكتب،

ولما وجدا تقدما عنهما في فهم المشكالت القديمة، ولوجدا أن الناس ال زالوا في}ركوا فيه «. المكان الذي ت

لماذا لم نستطع تجاوزهم في موضوع األخالق والقانون الدولي؟ أألن هذهالمواضيع غي قابلة للفهم؟

Page 77: كـــن كابن آدم - Jawdat Said · Web viewكن كابن آدم المحتوى الموضوع الصفحة المحتوى المقدمة تمهيد: لغة الحروف ولغة

ال، ليس األمر هكذا، بل ألن المنطق الذي ننطلق منه في بحث المشكلة هو منطق خاطئ، وسكينر تقدم فعال في هذا المجال، وبدأت قرون االستشعار لدى

الفالسفة تتلمس مجاالت جديدة، وإن كانوا لم يقتربوا من منهج األنبياء أبدا، وحتى حين يقودهم التأمل والتتبع إلى ما هو قريب من منهج األنبياء، فإنهم يقولون: إنه

الجنون، هل يمكن لنا أن نفكر في الجنون.الفصل الرابع

الغيرية والجنون األعظم انظر إلى كلمات فوكو، تأمله وهو يقول: » إن قدرة المحلل النفسي على فهم

المرض العقلي لمريضه محدودة فالتحليل النفسي يستطيع أن يفك عقدة بعض أشكال الجنون، لكنه يظل بعيدا عن )عمل الجنون األعظم( « وينهي كالمه عن الجنون

بعدد معين من اإلشارات إلى شكل أساس من الغيرية، يخرج عن متناول العقل والعلم، ويبدو خفية أنه سبب إمكانيتهما، فهو يلمح إلى لمعان شعراء مثل: أرثو،

هولدرلين، نيرفال، الذين نجوا بطريقة ما من هذا السجن المعنوي الهائل، واستشفواتلك التجربة األصلية للغبارة التي تستجوبنا أبعد من حدود المجتمع.

يتساءل فوكو عما إذا كانت هذه الغيرية بداية معارضة جذرية للثقافة الغربية، وتتضح هذه اإلشارة إلى غيرية عميقة تفتح التاريخ وتتجنبه، تتضح} بالنسبة إلى التحليل

الذي يجريه الحقا، فهو يتصور هذا البحث عن تجربة أصلية تقع خارج التاريخ. إن هذه المحاولة الفلسفية مميزة ألكثر أشكال الفكر الحديث تقدما، ولكن هذا

الفكر محكوم عليه بالفشل، لذلك فهو يسعى إلى اكتشاف طرائق أخرى غير اللجوء إلى تخوم أنطولوجية ال يمكننا حتما بلوغها ولو كانت تحدونا، من أجل تبيان حدود

معرفة اإلنسان بشان وجوده، وبالتالي حدود العلوم اإلنسانية ومهامها. وينضم فوكو إلى تلك القلة من المفكرين النادرين الذين استشفوا )عمل الجنون األعظم(، إلى أن يقول: » وليس تحريفا كبيرا للنص أن نستبدل عبارة )جنون( بعبارة

.] 18-17 ميشيل فوكو مسيرة فلسفية / [)كلمة الله( « ما معنى هذه الكلمات؟

بحسب مدى خياالتي، فإن هذه الكلمات تحتوي تلخيصا كبيرا لسير الفكراإلنساني:

أوال: حديثه عن المرض الفكري والمرض العقلي ؛ ليس حديثا عن مرض عضوي، وكلمة )مرض( قد تجعلنا نتيه، ألننا نحملها على الحالة التي تجعل صاحبها مصابا بالهذيان وإنه لصعب حقا أن نفهم أن العالم كله مريض، ولهذا فهو يطلق كلمة

)المرض( أو )الجنون( ؛ )الجنون الكبر( أو )الجنون األعظم(. ألبي ذر: » اكسر قوسك واقطع وتره واضرب سيفكفمثال: حين يقول الرسول

، هذا الحديث صحيح من ناحية آليات النقل التي وضعها المسلمون،(1)بالحجارة « ولكنه من الناحية الفكرية اإلسالمية والبشرية عامة جنون، وجنون أكبر أيضا، ولهذا

كان على الناس أن يحكموا على هذا الحديث بالموت، وفعال حكموا عليه بالموت، ظنامنهم أنه ال يليق برسول أن يقول مثل هذا القول.

، وشروط قبولها عند المحدثين،أنا هنا أتحدث عن آلية التقبل ألحاديث الرسول وال أتحدث عن آلية األمانة، وعن آلية الرفض الموجهة إلى الذي ال يعجبنا، إن هذه

اآللية صعبة وخفية صعبة الكشف واإلحاطة والتتبع، والثقافة تقوم بأدوار عجيبة في ( وأبو داود في الفتن ، باب النهي عن السعي في2205 ( رقم الحديث ) 33 رواه الترمذي في الفتن ، باب رقم ) (1)

( وهو حديث صحيح .4259الفتنة ، رقم )

Page 78: كـــن كابن آدم - Jawdat Said · Web viewكن كابن آدم المحتوى الموضوع الصفحة المحتوى المقدمة تمهيد: لغة الحروف ولغة

السماح أو المنع، في القبول أو الرفض لألحاديث واألفكار والمفاهيم، وتتحكم الثقافةحتى في معاني القرآن.

ثانيا: حديثه عن الغيرية التي تخرج عن متناول العقل والعلم. ما معنى الغيرية التي يتحدث عنها فوكو هنا، ويقول: إنها خارجة عن متناول العقل والعلم، ما هو العقل، وما هو العلم؟ ما هي الغيرية وما هو اإلنسان؟ ما هو المرض، ما هو مرض القلب، وما هو

الشيء الذي يكون خارجا عن العقل والعلم؟ شغلتني هذه األسئلة كثيرا، ومن اجلها كتبت كتاب )اقرأ(، وفيه قلت: إن العقل

والعلم الشائعين عند المسلمين وعند الغربيين، ليسا العقل والعلم اللذين في القرآن،وكان هاجسي أن أضع تعريفين جديدين لكل من العقل والعلم.

ننه، عرفت أنه هو الذي يفرز النافع عن الضار، وحين فهمت التاريخ، وأدركت س}}مكث في األرض ما ينفع الناس. ويذهب بالزبد جفاء، وي

هذا األسلوب في الحكم على أحداث التاريخ عبر إحصاء العواقب، سهل التجاهل،وطالما تجاهله الناس، وال يزالون يتجاهلونه:

ون( ) }م أو يض}ر }م إذ تدع}ون، أو ينفع}ونك .] 73-26/72 الشعراء: [قال هل يسمع}ونكالنتائج المعجلة والنتائج المؤجلة

إن ظهور نظرية التعزيز في علم النفس كان تطبيقا لنظرية العواقب، والعواقب المعززة، ولكن العواقب الفورية تختلف عن العواقب المؤجلة والتعزيزات المعجلة ليست مثل التعزيزات المؤجلة وكلما كان التأجيل طويال ؛ كان االنتباه صعبا، ولهذا فإن المستعجلين ال يصبرون على العمل للوصول إلى العواقب المؤجلة التي تحتاج

إلى مدى زمني بعيد، وحب العاجلة أمر مسيطر على البشر، والصبر على النتائج البعيدة المؤجلة يحتاج إلى نوع من الوعي يختلف عن الوعي النوعي الذي لم ينتبه

إليه الذين ال يراقبون األحداث إال قليال، وقد انتبه إلى هذا ابن المقفع، وجعل من أمارة صحة العقل درك األمور بعواقبها، والناس يتساوون في حب ما يوافقهم ويعززهم إيجابيا، وكراهية ما يضرهم ويعززهم سلبيا، ولنهم يتفاوتون في الصبر على النتائج

المؤجلة، وهذا هو الفرق بين العجز والكيس.فوكو والتاريخ

وفوكو يتجه اتجاها براغماتيا باستيحاء، حث إنه متأكدا من الموضوع تماما، ولكنه بدأ يضعه في الحسبان، وقد قال عنه الذين كتبوا كتاب مسيرة فلسفية أنه: » إلى حد كبير، يمكننا أن نعتبر أن عدمية فوكو معتدلة دوما … إن فوكو كفرد عادي ليس أكثر

فوكو، تورطه في التاريخ، وبإعالنه[وال أقل عدمية من أي شخص آخر في ثقافتنا « الطابع البراغماتي لمشروعه، يتنصل فوكو مما كان يشكل بالنسبة إليه جزءا من

، ثم يقولون: » هكذا] 110 فوكو، مسيرة فلسفية / [المشكلة، أي التاريخ التقليدي « إذ يستعيد فوكو كل الطرائق األخرى، يستخدم الطريقة الوحيدة التي ال يزال بوسعه

فوكو، مسيرة[اللجوء إليها، التفسير التاريخي المتجه نحو التحليل البراغماتي « شخص عن إال التفسير يصدر أن يمكن عنه: » ال يقولون وكذلك ،] 111فلسفية /

أن الشخص هذا وعلى عنها، يبتعد نفسه الوقت في لكنه ممارسته، الفاعل يشارك تنظيم وعلى وتحليله، التاريخ تشخيص على يشتمل صعب، تاريخي بعمل يقوم

تفسير إلى براغماتي، توجه بفضل العمل، هذا ويفضي الثقافية، عصره ممارسات عنه: » يقولن ثم ،] 114 فوكو، مسيرة فلسفية / [ « االجتماعية الممارسات لترابط طريقة يطور ، نسابية تحليلية فيبر( إلى إلى )نسبة الفيبري العلم بتحويله فوكو … لكن تولي دقيقة تحليل الممارسات أن فوكو البراغماتية.. ويؤكد للدراسة األهمية من قدرا

تشكل أن يمكن ال ممكنا، الموضوعي االجتماعي العلم تجعل التي الخلفية التاريخية

Page 79: كـــن كابن آدم - Jawdat Said · Web viewكن كابن آدم المحتوى الموضوع الصفحة المحتوى المقدمة تمهيد: لغة الحروف ولغة

فوكو، مسيرة[ « قيمة كل ومن سياق كل من متحررة تكون موضوعية نظرية مادة.] 150فلسفية /

عنه نقلنا الذي نيتشة نسابية في انخرط ألنه معتدل، عدمي بأنه فوكو عن قالوا لقد تستتر باإلكراه، مفروضة وتفسيرات دنيئة عداوات وقائع إال التاريخ: » ليس أن سابقا«. األقدم كذبتنا )الحقيقة( هي نفسه الله وان الغايات، أحقر وراءها

ما ترداد خالل من إال الواقع مع التعامل على لهم قدرة ال الذين الدارسون يقرأ حين يقرؤون حين هؤالء أمثال عن مستقل، ببحث يقوموا أن يستطيعون وال الباحثون، قاله حقيقة، توجد وال له هدف ال العالم وان علما، ليس وانه أكاذيب، عن عبارة التاريخ أن

يملكون ال هؤالء الطراز، هذا من األكثرية تكون حين وخاصة وهم، في وهم كله والوجود نقلناها التي الكلمات وحتى الضار، من النافع وال الصواب، من الخطأ تمييز على قدرة

أو الحقيقة على للحكم الوحيد المرجع بأنه تفيد وال التاريخ، بأهمية توحي ال فوكو عن االتجاه يكون يقول: ربما الخوف بكل إنه بل منها، االقتراب اتجاها وإن براغماتيا، تاريخيا

باإلدانة مثقلة كلمة براغماتي كلمة الحقيقة في النفعية، باالنتهازية توحي ألنها ، سلفا}فهم أن يمكن العاجلة، المنافع أو القريبة، الدوافع تسيره كانت التاريخ ألن الفهم، هذا ي األخالق ألن مدانة والنفعية اآلجلة، المنافع ويكشف يفكر أن يستطيع كان من وقل

النفعية، تحكمه أن ينبغي ما المقدس والتاريخ نفعيا، يكون ال أن ينبغي والمقدس يكون أن ينبغي لله واإلخالص يبقى، الذي هو والنفع النافع يكون أن ال النفعية، من خاليا

عن ذهنك في تجده الذي تصورك ألن سيبقى، الذي هو الله عن األنفع التصور وحتى}م)والعواقب: النتائج حصاد إلى بك سيؤدي الذي هو الله }م وذلك ك }م الذي ظن }م ظننت ك برب

}م }م أرداك ون) ،] 41/23 فصلت: [الخاسرين( من فأصبحت }ن ه يظ ظن الحق غير باللة( .] 3/154عمران: آل[الجاهلي

النفع مقدار على مبنية األمور هذه كل الثقافة، الحضارة، الدين النبي، الكتاب، اللهعنها. ينتج الذي

واألبقى: الخير قانون وال دنس، أنها على النفعية إلى ننظر وكيف بالدنس، المقدس يختلط كيف انظر

واألقل سيبقى، الذي هو النفع أن نتذكر }نسخ الذي هو نفعا قانون إنه جفاء، ويذهب سي القلم مستوى في حتى الحياة، واقع يحكم القانون هذا نفعا، األقل ينسخ النفع الله،}نسخ فإنه به، أكتب الذي النفع في متماثلين كانا فإذا وانفع، منه خير هو ما جاء إذا سي

اآلخر. المتماثلين أحد ينسخ وال هنا، ناسخ فال والجهد، القانون العام الحاكم على كل الجهود واآلراء والمعتقدات واألديان هو قانون الخــيرواألبقى، هو قانون الزبد، القانون الذي ال يرحم الزبد ويذهبه جفاء في كل المستويات.

أو القانون، موضوع في الديني، التفكير تجديد كتابه في إقبال، محمد بحث حين إنما الميزان أن أوضح دين، أو حضارة أو ما ثقافة قيمة على به يحكم الذي الميزان

الخير ومقدار الدين، أو الثقافة أو الحضارة تنتجه الذي اإلنسان نموذج إلى بالنظر يكونعليها. يحكم الثقافة إنسان عن ينتج الذي

سيضطر الذي وهو األنبياء، به جاء ما وهو وأكشفه، إليه أنبه أن أريد الذي هو هذا واألبقى(، )الخير األنفع قبول إلى سيضطرون التاريخ، خالل قبوله إلى راغمين الناس الذي النفع أساس على يكون أن ينبغي ؛ وأهميته الله توحيد موضوع على الحكم وحتى

التوحيد. من ينتج األنفع أساس على واإلحصاء والعواقب التاريخ موضوع هو اآلن حتى بحثناه ما إن

االمتداد هو بحثناه فما المكاني، االمتداد أساس على النافع نبحث لم ولكننا واألبقى،بقاء. األطول أو الدائمة المؤجلة، والعواقب الزماني

Page 80: كـــن كابن آدم - Jawdat Said · Web viewكن كابن آدم المحتوى الموضوع الصفحة المحتوى المقدمة تمهيد: لغة الحروف ولغة

أو أسرة أو لشخص النافع هو ليس نبحثه الذي النافع أن إلى اآلن ننبه أن ينبغي يكون أن بدل فإنه األساس، هذا على مقتصر النافع امتداد يصير وحين معينة، جماعة النافع هذا يكون للصالح، القانون هو النافع بعضهم ينفع فهو الناس، بعض لتفوق قانونا يكون للنفع الفهم الناس. هذا أغلب ويضر والحضارات واألديان العالم لفساد سببا

الوجود أساسه على قام الذي النفع ويكون والثقافات، الوجود. لفساد سببا القانون في والمساواة العدل

يكون ال وتوضيحها، والقوانين القواعد هذه تفصيل من بد ال لم إن وقاعدة قانونا فيه، الكائن العدل مقدار أساس على يقوم ال للقانون الناس وقبول الجميع، على يطبق

يتحملونه ال ولكنهم القانون، قسوة يتحملون قد فالناس الناس، يعم ما مقدار على بل كانوا أنهم قبلكم كان من هلك القانون: » إنما فوق هو من هناك دام ما يحترمونه وال هو هذا ،(1)« الحد عليه أقاموا الضعيف فيهم سرق وإذا تركوه، الشريف فيهم سرق إذا

والتي اآلن، الموجودة الحضارات هالك سبب وهو السابقة، الحضارات هالك سببالسماء. وال األرض لهالكهم تبكي ولن المستقبل، في ستوجدقض حق إن سيكون عالمية مؤسسة أكبر )الفيتو( في الن هذه لهالك سببا

التي الحضارات أهلك وما جرف، شفا على مبنية تكون باعتماده ألنها المؤسسة، والتي باالمتيازات، االحتفاظ على المبنية والدول األمم سيهلك االمتيازات، على حافظت

}م وإذا)الناس: بين العدل تقيم ال اس بين حكمت }م}وا أن الن بالعدل( ] النساء: تحكجميعا. الناس بين بالعدل تحكموا أن [،4/58

الناس بين العدل تطبيق يخشون الذين إن بنيانهم وسيسقط سيسقطون، جميعافوقهم. من السقف عليهم وسيخر القواعد، من

أن: » إلى فوكو تنبه وكما الناس، بين المساواة عدم هو والشرك الكفر إن نحو المتجه التاريخي التفسير هي إليها اللجوء بوسعه يزال ال التي الوحيدة الطريقة تبقى العادلة الدولة أن إلى تنبهوا المسلمين الفقهاء بعض فإن « ؛ البراغماتي التحليل

طاقات واستخدام الوجود، وهدف التاريخ، واتجاه األنبياء، دعوة يالمسون كانوا وإنوالعاقبة. والمردود الكفاءة في وجه أفضل على اإلنسانومدانة. مقتية كلمة والنفعية متهمة، كلمة البراغماتية إن

الواحد األمر يكون كيف واحد؟ آن في والشر للخير مصدرا هذا توضح الموضوع هذا في اإلنجيل كلمة ولعل ملتبسا، األمر يجعل الذي هو هذا

«. الزاوية حجر صار البناؤون رفضه الذي قال: » الحجر حين أيضااألدوم والخير اللحظي الخير يعمل الذي واألبقى الخير ولكن واألبقى، الخير لنفسه يبغي فإنه اللص يسرق حين

األبعد النتائج يحسب أن يستطيع ال وهو القريبة، والمتعة اللحظي الخير يتجاوز ال له األفراد وكل ويتناساها، البعيدة العواقب حساباته من يستبعد إنه المؤجلة، والعواقب

عنه، تفتش وال واألبقى، الخير في تفكر ال التي واألديان والحضارات والجماعات من النجاة بظن محكومة وتعيشه، عاشته الذي تاريخها في البشرية زالت وال ستهلك،

طريقة على زال ال تفكيرهم أن أو التاريخ، حساب يحسبون ال الناس زال وال العواقب،الطوفان. فليكن وبعدي بقيت، ما الملك القائل: ليبق

الموازين ويضع الناس بها يصرع التي الكيفية ندرس ولم بالتاريخ، نهتم لم إنناالعقاب. ليوم القسط التاريخ على يلح حين والقرآن منه، واالستفادة التاريخ تأمل أصعب وما أسهل، ما

والتي البعيدة، المؤجلة المعززات على ليصبروا الناس، يبصر أن يريد فإنه والعواقب، إلى ينظر القرآن ولكن المجتمعات، تهلك قد الواحد، الفرد عمر خالل تكشف ال ربما

Page 81: كـــن كابن آدم - Jawdat Said · Web viewكن كابن آدم المحتوى الموضوع الصفحة المحتوى المقدمة تمهيد: لغة الحروف ولغة

إلى ينتبهون ال الناس أن إال والثواب، العقوبة في واحد كفرد القرون تعيش التي األمة من األبناء يحصدها التي العواقب يتأملون وال األمة، مستوى في المؤجلة العقوبات

ال خلدون، ابن حسب ظاهره، في التاريخ فإن ولهذا الخاطئة، واألجداد اآلباء نظرات للكائنات وتعليل وتحقيق، نظر باطنه وفي … والدول األديان عن أخبار على يزيد

عريق. بينما الحكمة في أصيل لذلك فهو وأسبابها، الوقائع بكيفيات وعلم ومبادئها، وفهمه خلدون ابن عن توينبي يقول وقبيحة. ولهذا دنيئة أكاذيب نيتشة عند التاريخ من عصر أي في العقول من عقل يبتكره أن أمكن نوعه من عمل أنه: » أعظم للتاريخ

«. األرض أرجاء من ناحية في العصور، مرجع هو الذي المعبد هذا عتبة على خاشعين يسجدون التاريخ يتذوقون الذين إن حدثت سنة، ومنذ هذه، أيامنا وفي اإلنسان، مستوى رفع ووسيلة األنبياء وحجة القرآن نيويورك، في التجاري المركز في حصل الذي العالم: االنفجار في متعددة أحداث

في وضع الذي السام والغاز وأمريكا، العالم وأفزع أوكالهوما في حدث الذي واالنفجار في حدث وما مشهد، الرضافي اإلمام مسجد في حصل الذي واالنفجار طوكيو، أنفاق

والقاهرة الجزائر في اآلن، اإلسالمية البالد في يحدث وأكثره العالم، من أخرى عواصم وليس أخرى، ومدن عواصم إلى ينتقل وقد والبحرين، وبيروت الذي الحدث عنا بعيدا

مكة. في الحرام المسجد في الهجري عشر الخامس القرن به د}شنالفساد ضد والتطعيم التاريخية المعرفة

فنحن مختلف، بمنظار األحداث هذه إلى أنظر إنني المتخلفة الدول أن نسمع جميعا األطفال شلل ضد أطفالها تطعم أصبحت والمعرفة، العلم تحصيل من تمكن لم التي أو

الجراثيم تراجع إلى هذا ويؤدي وإعاقتهم، األطفال موت تسبب أخرى وأمراض يعد لم الجدري جرثوم أن درجة إلى واألمراض أعلنوا أنهم حتى المخابر، في إال موجودا

طويل غير زمن ومنذ أنه حين في بالجدري؟، واحدة إصابة حالة يقدم لمن جائزة عنفارقة. كعالمة بالجدري، مصاب غير أه للفرد الشخصية البطاقة في يسجل كان

أو أمريكيين أكانوا سواء وينفذونها، االنفجارات نفذوا الذين هؤالء أقول: إن وأنا تاريخية بمعرفة مطعمين كانوا لو هؤالء أخرى، جنسية أي من أو مسلمين أو يابانييناألعمال. بهذه قاموا لما نظيفة، معقمة متسلسلة واضحة

وسفك األرض في الفساد على ستقضي التي هي التاريخية المعرفة أن أعتقد إنني المطلقة الحقيقة وجماعة أوكالهوما، فجرت التي قورش جماعة ذلك في سواء الدماء،

المسجد اقتحموا والذين األنفاق، في السامة الغازات قنابل فجروا الذين اليابان في واحتلوه الحرام فجروا الذين وكذلك الهجري، عشر الخامس القرن مطلع في أياما

تزودوا لو األعمال بهذه ليقوموا يكونوا لم هؤالء كل مشهد، مدينة في الرضا مزار من الواقي المصل ستكون اإلنسان لمسيرة التاريخية التاريخية. والمعرفة بالمعرفة

القنابل يفجرون الذين للشباب بالنسبة هذا أقول ال الدماء، وسفك واإلفساد الفساد العالميين والزعماء الرؤساء عن أقوله بل العالمية، العواصم في المفخخة والسيارات وكل والجزائر وفيتنام الخليج حروب أشعلت التي القارات اتخذوا الذين والمحليين

التاريخية. المعرفة في عوزهم هو الجميع دفع فالذي والتحريرية، االستعمارية الحروب بعد حدث الذي اللقاء اإلنسانية( عن تاريخ )معالم كتابه في ويلز هربرت تحدث

بالتاريخ، والجهل بالسذاجة ووصفهم آنذاك، العالم زعماء بين األولى العالمية الحربأمامهم. مقفلة كانت والتاريخ العلم صناديق وأن

لست باحثا وآخرين وويلز لتوينبي قراءتي ولكن التاريخ، دراسة في متعمقاالناس. عالم عن مختلف عالم على أطلعتني

Page 82: كـــن كابن آدم - Jawdat Said · Web viewكن كابن آدم المحتوى الموضوع الصفحة المحتوى المقدمة تمهيد: لغة الحروف ولغة

في غربيان مواطنان -: إننا رومان - ولعله أحدهما قال ورومان، غاندي تقابل حينالعالم. هذا

}ر ولهذا واعية، مجتمعات بعد فيه تظهر لم العالم فإن القرآن وبحسب }كث من يالعالم. بأحداث تعتبر لم لتي األمم هالك عن الحديث

أحداث من أحداث عدة القرآن يسوق الديني: حين التفكير تجديد في إقبال يقول آلية ذلك في إن)حكمه}: يصدر فإنه والشعراء، األعراف سورة في كما الماضية القرون

ه}م كان وما قرية من أهلكنا وما) ] 26/8 الشعراء: [م}ؤمنين( أكثر} ون، لها إال م}نذر}ا وما ذكرى }ن أنبائها، من عليك نق}ص الق}رى تلك) ،] 209-26/208 الشعراء: [ظالمين( ك}ه}م جاءته}م ولقد ل س} نات ر} }وا فما بالبي }وا كان }ؤمن }وا بما لي ب ه} يطبع} كذلك قبل} من كذ على الل

}وب }م لفاسقين، أكثره}م وجدنا وإن عهد من ألكثرهم وجدنا وما الكافرين، ق}ل من بعثنا ث}فصل} وكذلك) ،] 103-7/101 األعراف: [بآياتنا( م}وسى بعدهم ه}م اآليات ن ولعل

فنا ولقد) ،] 7/174 األعراف: [يرجع}ون( اس الق}رآن هذا في صر }ل من للن وكان مثل، كاس منع وما جدال، شيء أكثر اإلنسان} }وا أن الن }ؤمن ي وا اله}دى جاءه}م إذ ه}م ويستغفر} رب إال

ة} تأتيه}م أن ن }ال( العذاب} يأتيه}م أو األولين س} الق}رى وتلك) ،] 55-18/54 الكهف: [ق}ب.] 18/59 الكهف: [موعدا( لمهلكهم وجعلنا ظلم}وا لما أهلكناه}م

الناس مسؤولية ويحدد العينات، يحكم الذي بالقانون يأتي ثم تاريخية، عينات يعرض على التدريب وعدم بالنتائج األسباب ربط وصعوبة األخطاء، وتكرار االعتبار في

العبر. استخالصإخفاؤها أو المؤجلة العواقب خفاء

يتعزز ؛ سرق بما السارق يتمتع وحين المؤجلة، العواقب تناسي الناس على يسهل من يتعزز وكذلك المجتمع، وعلى عليه عمله عواقب يكشف أن عليه ويصعب عمله من يجنيها التي السريعة والمتع الفوائد تعززه الناس، أموال الستالب ناجحة بغارة يقوم

بالهالك. عليه يعود والنهب السلب قانون ترسيخ من به يقوم ما ولكن عمله، منافع على حصلوا السلب، على بالقدرة يتمتعون الذين المستعمرين أن صحيح

التي العاجلة المنافع بين بالتمييز يكون الصعب االمتحان ولكن أيضا، وأغرتهم أمتعتهم الفساد إزالة وتؤخر اإلصالح، عهد مجيء تعيق التي المؤجلة األضرار وبين عليها، حصلوا

تقلله. أو األرض من محو أريد أنه لو كما يجري شيء فيها: » كل قال التي فوكو كلمة سبق فيما نقلنا

واللغة. الفكر أالعيب المعرفة( ضمن أو اللوغوس ظهور )أي ظهوره عالمات حتى أوجه حسب لكن أتصور، كما األخرى المجتمعات كل وفي مجتمعنا، في يوجد

هذه ضد األصم الخوف من نوع اللوغوس، من عميق خوف مختلفة، وتقطيعات«. األحداث

ما هذا الخوف األصم الذي يتعامى عنه الناس؟ إنهم يريدون أن يكسبوا، أن ينتفعوا، أن يجلبوا المتع، بطريق سهل ومختصر،

ولكن العواقب المؤجلة تخفى عليهم. هناك خوف أصم وعميق من أن يخسروا المنافع العاجلة، وهذا الخوف العميق

األصم يخفي عليهم العواقب البعيدة المؤجلة، ويجعلهم قادرين على تجاهلها. خوف أصم عميق ضد األحداث التي ستظهر غباءهم، وتذهب بالمنافع العاجلة التي سيخسرونها رغم حرصهم الشديد عليها، ولكنهم في عمى مطبق عن العواقب البعيدة

والسيئة التي تنتج عن تصورهم، إنهم مثل المثال الرمزي الذي يذكره صاحب كليلة ودمنة، مثل الذي يعلق العسل الذي يجده على جدار جب، بينما هو معلق بحبل في

Page 83: كـــن كابن آدم - Jawdat Said · Web viewكن كابن آدم المحتوى الموضوع الصفحة المحتوى المقدمة تمهيد: لغة الحروف ولغة

وسط الجب الذي وقع فيه، والجرذان في األعلى تقرض الحبل، وينتظره تنين فيأسفل الجب.

إن الذين يقودون العالم اآلن، حريصون جدا على إبعاد اليوم الموعود، الذي سيسقط فيه حق النقض )الفيتو(، وتعم المساواة بين الناس، إنهم يفضلون المنافع الصغيرة التي يجنونها، وال يحسبون للهالك القادم، وال يبالون بالفساد الذي يغلي به

العالم، وال يعرف عالجه المعاقون عن تحصيل المعرفة، والمعيقون لهم عن تحصيلهاأيضا.

إنهم ال يعملون حسابا للزالزل القادمة التي تبخر المنافع العاجلة، وتصب عليهمار وبئس)لعنات األيام القادمة واألجيال القادمة: يقد}م} قومه} يوم القيامة، فأورده}م الن

} المرف}ود}، فد }تبع}وا في هذه )أي في الدنيا( لعنة، ويوم القيامة بئس الر ود}، وأ الورد} المور} ذلك من أنباء الق}رى نق}صه} عليك منها قائم وحصيد، وما ظلمناه}م ولكن ظلم}وا أنف}سه}م

ك، وما ه من شيء لما جاء أمر} رب تي يدع}ون من د}ون الل }ه}م ال فما أغنت عنه}م آلهتك إذا أخذ الق}رى وهي ظالمة، إن أخذه} أليم شديد، زاد}وه}م غير تتبيب، وكذلك أخذ} رب

إن في ذلك آلية لمن خاف عذاب اآلخرة )لمن خاف العذاب المؤجل حتى ولو كان فياس}، وذلك يوم مشه}ود( .] 103-11/98 هود: [الدنيا( ذلك يوم مجم}وع له} الن

ف}ها الناس!!.. }صر ف الله اآليات، ثم انظر كيف ي انظر كيف صربتني هود وأخواتها «هذه آيات من سورة هود التي قال فيها الرسول .(1): » شي

. هل نعقل؟ هل نربط األسباب بالنتائج؟ }حس هل نشعر نحن بأن هودا شيبتنا؟ هل ن هل للتاريخ لدينا أي معنى؟ هل لألحداث من مغزى؟ هل تحس أيها القارئ منا من

أحد، أو تسمع لنا ركزا؟ هل لدينا قدرة على أن نحرك فيك شعرة؟ هل يمكن لك أن}حدث لك ركزا؟ كيف ننفخ في الصور؟ صور تقرأ شيئا يجعل جلدك يقشعر أو ي

المعرفة وطلب المعرفة، ال صور الحرب والقتال، صور معرفة سنن التسخير وأنواعهالتي ينسخ بعضها بعضا.

بين اآلباء واألبناء إن شأن التاريخ عجيب، فاألنبياء يفخرون بأمجاد آبائهم، وكم نجد من لذة لألعمال

المجيدة التي قام بها آباؤنا، وكم نجد من سعادة، وكم يصيبنا السكر بها، وكم نبحث في أعمال اآلباء عن كل ما يرفع رؤوسنا فنكبره ونعظمه، ولكن هل يحرص اآلباء اآلن على أن يفعلوا األشياء التي تجعل األبناء يعتزون بها، أم أنهم يرتكبون الحماقات التي تنكس رؤوس األبناء؟ ما فات مات، ولكن كيف ننقذ ما يمكن إنقاذه؟ ننقذه بأن نتعلم

كيف نستفيد من التاريخ الفائت، بحيث ال نكرر ما وقع فيه من أخطاء.إن التاريخ الماضي هو الذي يعلمنا الخوف من التاريخ اآلتي الذي سيحكم علينا.

في كتاب كليلة ودمنة، يقول الفيلسوف بيدبا لتالميذه الذين خوفوه من بذل النصح للملك دبشليم، يقول: » لكنني أخشى أن يسجل التاريخ أن الفيلسوف بيدبا كان

يعيش في زمن الملك دبشليم فلم يقم بيدبا بواجبه من النصح واإلرشاد «. في ذلك الزمان كان األمر أمر نصائح، ولم يكن أمر كشف قوانين وتعليم، في تلك

األيام كانت األخالق مفصولة عن العلم، ولم تكن إحدى ثمرات العلم، ومع ذلك كانالحس التاريخي موجودا » أخشى أن يسجل التاريخ.. «.

ونحن أيضا نهتم بان يفهم الناس عنا، ونمتعض حين ال نتمكن من إفهامهم، تسرنا أنباء الفهم اآلني العاجل، ولكن هل نحس بأهمية ما نقول بالنسبة لألجيال القادمة؟

( ، وهو3293 ( ، وقد روى الترمذي نحوه في التفسير ، باب : ومن سورة الواقعة ، رقم ) 17/287 رواه الطبراني ) (1)حسن بشواهده .

Page 84: كـــن كابن آدم - Jawdat Said · Web viewكن كابن آدم المحتوى الموضوع الصفحة المحتوى المقدمة تمهيد: لغة الحروف ولغة

هل لدينا حس تاريخي يدفعنا للقيام بأعمال إبداعية، بدل أن نقوم بأعمال تخجل منهااألجيال؟

بل تحبون العاجلة وتذرون اآلخرة تحدثت عن الشباب الذين يفجرون أحداثا هنا وهناك، وتحدثت عن الزعماء

العالميين الذين يفجرون الحروب، فبئست هذه النفسية المنطوية على جهل بالعواقب القربة والبعيدة، تحدثت عن هؤالء، ولكنني لم أتحدث عن المثقفين الذين يعيشون

خارج التاريخ والجغرافيا، ماذا يعمل المثقفون؟ هل يقدمون البديل؟ هل يرشدون إلى الحل األنجع، أم ال يزالون يقدمون قصائد المديح والهجاء؟ المديح والهجاء للمنافع

اآلنية العاجلة، ال للتاريخ والعلم الذي ينبغي أن يسود في المستقبل. إنهم ال يزالونيزينون حب العاجلة، وهم عن اآلخرة هم غافلون.

ون اآلخرة( )متى نفهم: ون العاجلة وتذر} }حب .] 21-75/20 القيامة: [كال بل تون وراءه}م يوما ثقيال( ) ون العاجلة ويذر} }حب .] 76/27 اإلنسان: [إن هؤ}الء ي

إننا لم نتمكن من استحضار مفهوم اآلخرة التي في الدنيا، ولم نتمكن من انتشاله، وذلك لسيطرة فكرة القيامة علينا، صحيح أن هناك قيامة لألموات، ولكن هناك أيضا

آخرة دنيوية لألعمال التي نقوم بها، ولألفكار التي يتداولها ونغرسها في نفوسنا، ونحنلم نتمكن من استحضار آخرة الدنيا بعد.

إن المفهوم السائد لآلخرة مفهوم غيبي، سواء أكانت عاجلة أو مؤجلة، ألننا نحذف من مفهوم اآلخرة العواقب المؤجلة التي ال تظهر إال بعد أجيال، ولكن التاريخ المديد،

التاريخ على المدى الطويل بدأ يبرز إلى سطح بعض االتجاهات الدارسة في مجالالتاريخ.

إننا ال نزال نعيش في زمان م}بكر. حين بحث مالك بن نبي ظاهرة االستعمار في كتاب األفرسيوية ؛ ذكر أن اإلدانات

التي وجهها بعض الفالسفة ورجال الكنيسة للممارسات االستعمارية أمكن تجاهلها وعدم المباالة بها من قبل أصحاب المصلحة مادام تأثيرها ال يمس مصالحهم العاجلة،

لكن مالكا توجه إلى أمر آخر مختلف عن اإلدانة الدينية واألخالقية، فأشار إلى إدانة أخرى وجهها بعض االقتصاديين، الذين كانوا يرون أن المنافع التي أمكن الحصول عليها

بالسلب والنهب والقرصنة، يمكن الحصول عليها وعلى أكثر منها بأسلوب آخر أقل كلفة وأكثر إنسانية، حيث بدأت بعض التحليالت االقتصادية تظهر أن بإمكان الناس أن

يزيدوا من المردود العالمي والمحلي لجميع األطراف بعالقات جديدة وإنسانية. أنا ال أزال من العالم القديم الذي ال تتوافر المعلومات له، ولكنني أظن أن مثل هذه الدراسات صارت تتكون في أرحام الدراسات كأجنة ال يحس بها إال من بدأت

تتكون في أدمغتهم، كما تحس األم بالجنين قبل كل الناس، إال أنها ستبدأ بالظهور إلىالعلن، وسيشعر بها الناس وسيعترفون بوجودها.

هذه الدراسات التاريخية التحليلية اإلحصائية هي التي ستقلب الموازيناأليديولوجية.

ماذا أقول؟ وماذا أبحث، في أي أودية أهيم؟ لماذا اللف والدوران؟ لماذا ال أقولما أريد في جملة واحدة وكفى؟

لماذا يكرر القرآن قصة موسى وفرعون؟ لماذا يكرر القرآن الحديث عن األمم التي كذبت رسلها؟ لماذا حدث التكذيب؟ ما هي عوامل التكذيب وشروطه؟ وما هي

عوامل التصديق وشروطه؟

Page 85: كـــن كابن آدم - Jawdat Said · Web viewكن كابن آدم المحتوى الموضوع الصفحة المحتوى المقدمة تمهيد: لغة الحروف ولغة

نات)لماذا يقوله لنا: }ه}م بالبي ل س} تلك الق}رى نق}ص عليك من أنبائها، ولقد جاءته}م ر}}وب الكافرين، وما وجدنا ه} على ق}ل ، كذلك يطبع} الل }وا من قبل} }وا بما كذب }ؤمن }وا لي فما كان

.] 102-7/101 األعراف: [ألكثرهم من عهد وإن وجدنا أكثره}م لفاسقين( ما هذه الكلمات؟ هل لها معنى؟ هل هي خالصة تاريخ طويل وأحداث كثيرة

متشابهة، وآالم تتكرر حتى اآلن؟ ما هي أنباء الحكومات والقيادات والدول؟ من هم الرسل؟ وما هي البينات التي

جاؤوا بها؟ ولماذا لم يكن ممكنا االستفادة من الرسل وبيناتهم؟ لماذا ما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا من قبل؟ وما هو التكذيب القبلي؟ ما هو الطبع الذي يحدثه الله على

القلوب؟ كيف نكشف سنة الله في حدوث الطبع؟ ما هو الكفر، وما اإلشكاليات وااللتباسات التي تحيط بهذه الكلمة؟ ما هو العهد الذي لم يوجد من يلتزم به؟ وما

الفسق الذي تميل نفوس الناس إليه؟ لماذا كان الرسول يأتي وال يكسب أحدا إلى صفه، وال يتمكن من إقناع شخص

واحد، ويرجع إلى ربه وحيدا، ويبعث يوم القيامة وحيدا وليس معه أحد؟ في أبي ذر: » رحم الله أبا ذر فإنه يعيش وحده، ويموت وحده، ويبعثلماذا قال

؟(1)يوم القيامة وحده «أبو ذر في التاريخ

كنت وقفت وقفة قصيرة عند بالل، ولكن ما قصة أبي ذر؟ لماذا عاش الوحدانية،ومات عليها، ويحملها معه إلى يوم القيامة؟

ما هي قصة أبي ذر في التاريخ؟ من ذا الذي سيكشف قصة أبي ذر في التاريخ؟ كيف ضاع أبو ذر في خضم التاريخ واألحداث وضجيجها؟ كيف ومتى سيظهر التاريخ أبا

ذر مرة أخرى؟ كيف ستتهاوى كل المواقف وتذهب جفاء، ويمكن في األرض موقف أبي ذر؟ كيف سنتعلم أنه كان من أنجب تالمذة معهد النبوة ومعهد التاريخ، تاريخ النافع

الذي سيمكث في األرض؟ دع أبا ذر اآلن، وتأمل كيف يخفي التاريخ أبا ذر، وكيف يكشفه من جديد بعد كل

هذه المدة الطويلة!!.. تأمل كيف يغربل التاريخ أحداثه وأشخاصه، وكيف يعلن نتائج االمتحان، وأسماء

ة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين( )الناجحين والراسبين: [وإن كان مثقال حب.] 21/47األنبياء:

كيف يعمل التاريخ؟ كيف تعمل البيئة؟ كيف يصنع المجتمع بيئته دون شعور منه؟ ثم كيف يصير المجتمع أسير بيئته؟ كيف يصعب على األفراد والمجتمع بأسره أن

يتخلصوا مما صنعوه بأيديهم؟ كيف تفقد الحجة داللتها، وكيف يفقد الكتاب جدواه؟ إن في قصة الشمس داللة تذكرنا دائما بشروق الشمس، الشروق الذي هو

المصدر اليومي لطاقة الحياة على األرض، والذي كان دليال على إمكان الوقوع فيالخطأ.

كيف كان هذا الواضح الذي هو سبب الوضوح والضياء غامضا؟ وكيف أخطأ العالم جميعا في فهمه خالل قرون وقرون، ثم أخيرا، وأخيرا جدا، ظهر أن فهم الناس

ورؤيتهم كانت خاطئة. لقد سجل التاريخ أحداث انقالب الرؤية الكونية بدوي كبير، ومهد هذا الكشف

الفلكي لكشوفات جديدة في مجاالت أخرى كثيرة. إن الناس أخطؤوا في فهم الحياة وانبثاقها من الموت، وأخطؤوا في فهم كيفية

انبثاق الفهم واإلدراك، وصار هذا األمر موضع تساؤل، ولم يصل الناس فيه إلى قرار.( وصححه ، وقال الذهبي : فيه إرسال .3/50 رواه الحاكم )(1)

Page 86: كـــن كابن آدم - Jawdat Said · Web viewكن كابن آدم المحتوى الموضوع الصفحة المحتوى المقدمة تمهيد: لغة الحروف ولغة

لقد أعيا الفالسفة وأولي األلباب من البشر فهم الكيفية التي يحصل بها الفهم والمعرفة، فكيف تحصل المعرفة، وكيف يحصل الفهم، وهل المعرفة والفهم ممكنان؟

هل نثق بالفهم؟ إن الحيرة وااللتباس والفوضى والشك واالرتياب والصراع الذي ينتج عنه كل

صراع هو الصراع على الفهم واإلفهام، وكل جهود الفلسفة اآلن تتجمع عند عتبة فهماإلنسان وفهم ما ينتج عن الفهم من سلطة.

مشكلة الفهم سلوك البشر ليس كحركة الشمس أو اإللكترون، سلوك البشر نتيجة الفهم

الواعي أو غير الواعي الكامن في النفس، ولكن من أين يأتي ما بالنفس، وكيف يدخلإلى اإلنسان؟ هل رافق اإلنسان حين يخرج من بطن أمه؟

}م من)علينا أن ننظر كيف بدأ الخلق، وعند أي نقطة يبدأ الخلق؟ ه} أخرجك واللون( }ر} }م تشك ك مع واألبصار واألفئدة لعل }م الس }م ال تعلم}ون شيئا وجعل لك }مهاتك }ط}ون أ [ب

.] 16/78النحل: }نتج السلوك والسلطة إن مشكلة المسلمين والعالم هي مشكلة الفهم الذي ي

والتسخير، فما هو الفهم؟ وما كم هذا الفهم وكيفه؟ وما دليل حصوله؟ المشكلة مشكلة فهم، ال مشكلة شيء آخر، قد يشتبه على الناس أحيانا أن

المشكلة ليست مشكلة الفهم، ولكنهم بمجرد أن يتجاوزوا معنى الفهم، فإنهم يتركونسواء الصراط.

ما هو الفهم؟ كيف نميز الفهم الصحيح من الفهم الخاطئ؟ هل يمكن أن يكونالفهم خاطئا؟ هل يمكن أن يكون اإليمان خاطئا؟

نعم، نعم اإليمان ليس دليال على الصواب وصحة الفهم، الصواب دليله ليس في النفس، وليس في العقل، ليس في داخل اإلنسان، بل هو خارج عنه وعن فهمه، عن فهمه للشمس والقمر، عن فهمه لله والرسول، ليست الحجة في فهمه، ليست في

فهمي وال في فهمك. إنه خارج عني وعنك، دليل الفهم في الواقع الخارجي، فيالمردود الذي يرجع عليك من فهمك.

لم يكن دليل غاليليو في ذهنه، كان دليله في السماء واألرض، لم يكن دليله فيذهنه، بل إنه تراجع عما في ذهنه.

إن الشمس والقمر واألرض لم تكن تبالي بما في ذهن غاليليو، ولم تكن تبالي بإيمانه، ولم تكن يبالي بفكره، ولم تغير سلوكها من أجل ما في ذهنه من فهم أو علم أو إيمان أو كفر، ويبقي دليل ما في ذهن غاليليو خارج غاليليو، وحين مات غاليليو لم

تمت الشمس والقمر واألرض، ولو كان الوجود يتبع ما في أذهان الناس من الفهم لفسد الكون والعالم، ولكن الكون لم يتغير ولم يفسد، بل اضطر الناس إلى تغيير

فهمهم للشمس والقمر واألرض. إنني اآلن أزعم أن فهم الناس ؛ جميعا، فهم خاطئ، وأن ما جاء به األنبياء هو

الفهم الصحيح، فقد جاؤوا بفهم جديد للعالم، ولكن الناس أعرضوا عنه ولم يستطيعوافهم النبوات، وما جاءت به النبوات لإلنسانية.

أن أزعم أنني أستطيع أن أبدأ تجديد منهج النبوة في العالم. المشكلة مشكلة فهم، وكما أن الناس وقعوا في الخطأ الفادح، حين فهموا

الشمس واألرض فهما معكوسا، فكانوا يظنون ويعتقدون بداهة أن الشمس تدور حولهم، فظهر لهم أنهم هم الذين يدورون حول الشمس، فكما أنهم وقعوا في هذا الخطأ ؛ كذلك نحن نعيش مع النبوات والكتب السماوية والله، ونفهم فهما خاطئا،

Page 87: كـــن كابن آدم - Jawdat Said · Web viewكن كابن آدم المحتوى الموضوع الصفحة المحتوى المقدمة تمهيد: لغة الحروف ولغة

وليس الدليل على خطأ فهمنا موجود في الدماغ، بل هو في األرض خارج الدماغ ؛ فيالواقع، وفي العواقب.

ما هو الدليل على صحة فهم ما أو خطئه؟}م لعلى ه}دى أو في ضالل)ليست دعواك وال دعواي دليال على ذلك: اك ا أو إي وإن

، قد يكون كالنا على ضالل مبين، وقد يكون أحدنا هو الضال، إال] 34/24 سبأ: [م}بين( أن المواضيع التي نفكر فيها ونكون عنها فهما ال تتبع ما في أذهاننا، الشمس ال تتبع ما

بع الحق أهواءه}م)في أذهاننا، الله ال يتبع ما في أذهاننا، وكذلك القرآن والنبي: ولو اتماوات} واألرض}( .] 23/71 المؤمنون: [لفسدت الس

الدليل الذهني والدليل الواقعي إن مجرد تغيير مكان الدليل من الذهن إلى الواقع، من أكبر التغييرات التي

حصلت والتي يمكن أن تحصل، إنه تغيير لما باألنفس، تغيير للفهم، للصور الذهنية،ة: ن ونفس وما)وليس تغييرا لقوانين الله وسنن الكون والتاريخ، ليس تغييرا لس}

اها( اها، وقد خاب من دس الشمس:[سواها، فألهمها ف}ج}ورها وتقواها، قد أفلح من زك91/7-10 [.

ه تبديال،)ليس تغييرا للقوانين والسنن، ألنها ال تتغير وال تتبدل: ة الل ن فلن تجد لس}ه تحويال( ة الل ن . نحن نستطيع أن نسخر السنن حين] 3/43 فاطر: [ولن تجد لس}

نفهمها، والتمكن من التسخير دليل على صحة الفهم. العاقبة النافعة دليل على صحة العلم والعقل والفهم، وعلى صحة فهمنا لله والرسول والكتاب والكون، بل إن الصور

الذهنية كلها قابلة ألن تكون خاطئة، وإذا حدث االشتباه بين اليقين الدوغمائي )التقليدي( وبين اليقين التسخيري، فهذا ليس عيبا في اليقين، بل هو عيب في

األسلوب الذي فهمنا به اليقين. طه:[وق}ل رب زدني علما( )ال يوجد علم، وال فهم، وال يقين غير قابل للزيادة:

، والقرآن يستعمل كلمات: اليقين والشك والريب والعلم بأساليب مختلفة،] 20/114 فالعلم يقابل الظن والهوى، والكلمات ليست هي التي تدل على معناها، بل المعاني هي التي تدل على الكلمات، الدليل ليس في الذهن، الدليل في الواقع، في اآلفاق،

في األنفس، وما باألنفس يختلف عن النفس اختالف الشراب عن الكأس.ى إذا)كيف نصحح العالقة؟ كيف نمنع االشتباه؟ كيف نصحح حركة الشمس: حت

ون، قد كانت }نصر} ا ال ت }م من ك وا اليوم إن ون، تجأر} أخذنا م}ترفيهم بالعذاب إذا ه}م يجأر}ون، أفلم }م تنكص}ون، م}ستكبرين به سامرا تهج}ر} }م على أعقابك }نت }م فك }تلى عليك آياتي ت

وله}م فه}م له} وا القول أم جاءه}م ما لم يأت آباءه}م األولين، أم لم يعرف}وا رس} ر} ب يدبع الحق ه}م للحق كاره}ون، ولو ات ة، بل جاءه}م بالحق وأكثر} }ون به جن ون، أم يق}ول م}نكر}، بل أتيناه}م بذكرهم فه}م عن ذكرهم ماوات} واألرض} ومن فيهن أهواءه}م لفسدت السك لتدع}وه}م إلى ازقين، وإن ك خير وه}و خير} الر }ه}م خرجا فخراج} رب م}عرض}ون، أم تسأل

}ون، ولو رحمناه}م }ون باآلخرة عن الصراط لناكب }ؤمن ذين ال ي صراط م}ستقيم، وإن ال وكشفنا ما بهم من ض}ر للجوا في ط}غيانهم يعمه}ون، ولقد أخذناه}م بالعذاب فما

ى إذا فتحنا عليهم بابا ذا عذاب شديد إذا ه}م فيه ع}ون، حت هم وما يتضر }وا لرب استكانون( }ر} مع واألبصار واألفئدة قليل ما تشك }م الس ذي أنشأ لك المؤمنون:[م}بلس}ون، وه}و ال

64-78 [. ينبغي أن نجدد فهم معاني الكلمات، مثال: ما المعنى األدق للكلمات التالية: اخذ

الله بالعذاب، المترفين، تجأروا؟

Page 88: كـــن كابن آدم - Jawdat Said · Web viewكن كابن آدم المحتوى الموضوع الصفحة المحتوى المقدمة تمهيد: لغة الحروف ولغة

كانت هناك عالقات يمكن تأملها، ولكن كنا ننكص على أعقابنا، وكنا نتكبر عن إعادة النظر، والذي يحدث لنا هو ما حدث آلباءنا األولين، ونحن نسير على ما ساروا

عليه. إننا لن نعرف الرسول ولم نفهمه، وأنكرنا أن يكون الحل ما جاء به، وهذا ال يعني

أننا لم نعد نتحدث عنه، ونزعم أننا أتباعه، ونعظمه، ولكننا نحس في أعماقنا أننا النتبعه وال نعقل ما أمرنا به.

إنني أشك في صحة فهمنا، ولو كشفنا ما بأنفسنا من الظن والوهم، لغرفنا أنناأضعنا ما جاء به رسولنا، ولعرفنا أن ما بأنفسنا من الظن ليس هو ما جاء به رسولنا.

فهمنا الخاطئ للرسول لقد فهمنا الرسول على صورة صنعناها في أذهاننا، وشعرنا أننا لم نتبعه، بل كنا

جبناء حين تركنا ما جاء به. إنني أشعر بوجود خطأ في الفهم، وحتى لو حققنا ما نظن أنه التعاليم التي جاء بها الرسول، فإنه لن يتغير شيء، وإذا كنا نظن أن الفساد يأتي من غيرنا، فهذا خطا أيضا،

إذا طالما غير المسلمون أناسا كانوا يظنونهم سبب الفساد، ولكن الفساد لم يتغير. ليست المشكلة في التعاليم التي نظن أن الرسول جاء بها وتركناها، ولكن المشكلة هي ما جاء به الرسول ولم نعرف أنه جاء به، ونظن أنه يستحيل على

الرسول أن يأتي به أو بمثله، وإذا اعترفنا بأنه جاء به الرسول، فإننا نقول أنه ذهبأوانه، ولم يعد صالحا لحياتنا الحالية.

ون( ] المؤمنون:)ما معنى قوله تعالى: وله}م فه}م له} م}نكر} أم لم يعرف}وا رس} [؟.23/69

نحن نعرفه وال نعرفه، ننكره وال ننكره، نعرفه ولكن معرفتنا به خاطئة وال نشعر أنها خاطئة، وال نعرفه ألن ما جاء به مما يجب أن نعرفه لم نعرفه، ونبذناه، وأنكرناه،

وأنكرنا أن يكون الرسول جاء به.من الذي سيكشف االلتباس؟ من الذي سيهدي إلى الصواب؟

إن عصا التاريخ، والعذاب الذي يأتي به هو المعلم الذي سيعلم الناس ويصححى إذا أخذنا م}ترفيهم بالعذاب( ] المؤمنون: )مفاهيمهم: ألم ترى كيف) [، 23/64حت

}ول( ] الفيل: ك بأصحاب الفيل.. فجعله}م كعصف مأك ألم ترى) [، 5-105/3فعل ربك سوط ك بعاد، إرم ذات العماد.. وثم}ود.. وفرعون فصب عليهم رب كيف فعل رب

ك لبالمرصاد( ] الفجر: [.14-89/6عذاب، إن ربدالالت العذاب ونتائجه

خطأ الفهم هو سبب األخذ بالعذاب، والعذاب هو دليل الفهم الخاطئ، العذاب، األلم، الضرر، كل هذا دليل خطأ الفهم، العذاب، الحيرة، الخسارة، اآلالم، أدلة على الفهم السقيم. هذا هو ميزان صحة فهم التاريخ، الميزان هو عواقب التاريخ، اآلالم،

العذابات المؤلمة المهينة، واإلهانة هي عذاب فوق العذاب. إن العذاب واأللم سبب لالستيقاظ، سبب إلعادة النظر في األفكار، في المفاهيم

التي نقدسها، سبب لتزلزل أنواع من اليقينات، سبب لسقوط أصنام وأهواء وصورذهنية ما أنزل بها من سلطان، وإن كنا أعطيناها أعظم سلطان.

إن صعوبة الرؤية والفهم والسمع يذللها ويسهل التخلص منها تلك العذابات واإلهانات، التي تزيل األوهام المسيطرة والمسببة لحصول العذاب واأللم والهوان، إنها

أوهام مهما حاولنا تغيير اسمها، ومهما أشهدنا الله ورسوله وعلماء األمة عليها، ستتزلزل هذه الخرافات وتزول بفعل سياط العذاب واأللم ولن تبكي عليها األرض

والسماء، ولن يزول بزوالها الله والرسول، بل ستزول عن الله ورسوله ظنون

Page 89: كـــن كابن آدم - Jawdat Said · Web viewكن كابن آدم المحتوى الموضوع الصفحة المحتوى المقدمة تمهيد: لغة الحروف ولغة

الجاهلية ومفاهيمها، وسنعود إلى الله ورسوله بسعادة ووضوح وهدى وأمن وبشرى.وإن كان ما نالنا هو إنذارات الرسل ال بشائرهم.

لقد جاء الرسل مبشرين ومنذرين، وها قد اكتوينا بما أنذروا به، فهل تكفي النذر؟}ذ}ر( ] القمر: ) [، هل يتيسر لنا االهتداء بما بشر به54/16فكيف كان عذابي ون

الرسل؟النقد الذاتي والمراجعة

علينا أن نكون مرنين في فهمنا، وفي أفكارنا، ألن التاريخ أثبت لنا أن المفاهيم}م جعلنا)كانت تقلب في أذهان الناس، وكانوا يفهمونها فهما مختلفا عن الواقع: ث

مس عليه دليال( ] الفرقان: [، ينبغي أن تكون لدينا القدرة على مراجعة25/45الش مفاهيمنا، وأن ال نعطي لفهمنا أي قداسة، ينبغي أن نستفيد من تجارب التاريخ، ها قد

أخطأنا في تفسير أوضح شيء في الوجود، أخطأنا في فهم الشمس، فهل هناك شيء أكثر وضوحا من الشمس حتى نظن أنه يستحيل الوقوع في الخطأ في فهمه؟ أليس

هذا دليال يجعلنا نراجع أنفسنا، ال سيما حين تختلف العواقب؟ إذا وصف لنا أحد ما طريقا، ثم لم يوصلنا الطريق إلى الهدف، أال ينبغي علينا أن

نراجع أنفسنا لنرى أين وقع الخلل؟ نحن نشعر، والشك، أننا لم نصل إلى الهدف، ونشعر أن خطأ ما حدث، ولكن، ومع ذلك، قد نخطئ في تفسير المشكلة، وفي تحديد الخطأ. هناك خطأ ما، كيف سنبحثه؟ كيف سنحدده؟ هل نيأس من البحث فيه؟ ال بل سنظل نلتمس أسبابه، ونتحدث عنه،

وسنظل نسأل: ما هو الشيء األساسي الذي أخطأنا في تفسيره؟ هل باإلمكاناالهتداء إليه؟؟!!

ينبغي أن نضيف إلى التفسيرات السابقة تفسيرا آخر، تفسيرا جديدا، وهذا ماأسعى لتحقيقه.

إننا أخطأنا في تفسير الشمس، وأخطأنا في فهم ابن آدم القديم، وهو قابل ألننقع في الخطأ في فهمه.

لقد أخطأنا في فهم ابن آدم، وصرنا على مذهب المخطئ، وزين عمله في قلوبنا، ونبذنا مذهب الذي تقبل الله منه قربانه واعتبرناه مجنونا. هل يمكن أن نقلب

المفاهيم؟ إننا بحاجة إلى قلب للمفاهيم، وما معنى خطأ الفهم؟ وما معنى ابني آدم؟ هل في نبئهما هدى، وهل لقصتهما معنى قابل للفهم والتأويل؟ لماذا اخترت} مذهب

ابن آدم منذ ثالثين عاما ليكون عنوانا لنوع من العالج للمشكلة اإلسالمية واإلنسانية؟ر الذي في قصتهما؟ هل يمكن أن نفهم من قصتهما إمكان الخروج من وما هو الس تهمة الفساد وسفك الدماء؟ هل في هذه القصة المحزنة معنى هاد؟ هل يمكن أن يكون في نبئهما حل للمشكالت، وما هي العقبات التي تحول دون الفهم؟ ما معنى

مس عليه دليال( ] الفرقان: )الخطأ في الفهم؟ وما معنى: }م جعلنا الش [؟25/45ث الشمس دليل على إمكان الخطأ في الفهم، ودليل على إمكان المراجعة، وقد

حدث معي شخصيا ما يشبه هذا، كنت مع رجل يحتل منصب القضاء في بلد إسالمي ال تنقصه دراسة الفقه والحديث والقرآن، وكنت آنس إليه ويأنس إلي، فقال لي ذات

يوم، ونحن وحدنا في المسجد: » يا شيخ! كيف يقول هؤالء إن األرض تدور، أال يرونأن الشمس هي التي تدور «.

في الواقع حاولت أن أتجاهل المفاجأة، وقلت له: نعم إنهم ال يفهمون، ولم أحاول أن أبين له، وال أن أبوح له بما في ذهني، وال أدري ما الذي جعلني أتخذ هذا الموقف، وما هي الحسابات التي جرت في نفسي لهذا الوقف، لعل أشياء كثيرة تداخلت في الموضوع حتى وقفت} منه هذا الموقف، ولكن هناك أرضيات ننطلق منها في الفهم،

Page 90: كـــن كابن آدم - Jawdat Said · Web viewكن كابن آدم المحتوى الموضوع الصفحة المحتوى المقدمة تمهيد: لغة الحروف ولغة

فحين نفقد هذه المنطلقات ينقطع الحوار، وعندها ال بد من العودة إلى المبادئ األولية للسير في الموضوع، البد من لغة مفاهيمية للحوار، كما البد من لغة لسانية صوتية

إلمكان الحوار، وإنني أشعر أمام مشكلة فهم نبأ ابني آدم بالوضع المحير نفسه، وإال}عيد، ولماذا ال أقول مع القائلين: إن قصة ابني آدم ال عبرة فلماذا ألف وأدور وأبدئ وأ

فيها، وال جدوى منها، وهي شرع من قبلنا، إن كانت في األصل شرعا؟؟!!تغييب معاني قصة ابن آدم

إن األهواء، والمفاهيم الهوائية المسيطرة علينا، والنظرة العجلى، والمرور على سطح األشياء، هذه األمور هي التي تجعلنا نقول: إنه ال مغزى في قصة ابني آدم، إال

أن يكون التاريخ مأساة تعقبها مأساة، ولعنة تتبعها لعنة، وتعبيرا عن أحط الدوافع، هذا ما يقوله مزلزل أفكار القرن التاسع عشر )نيتشه( الذي أعلن أن المجد هو للقوة

والعنف، وان العالم يدور حول العنف، وبدون عنف ال نكون شيئا، العنف كالشمس يا شيخ، أما ترى الشمس تدور وتطلع وتغيب؟ لماذا تقول: ذهب أوان العنف، أما ترى يا

شيخنا كيف أن العنف هو الذي يسير العالم؟ هل نجلس ونقول: علينا أال ندافع عنأنفسنا؟

كنت أتحدث مرة بهذا الموضوع، فقال طفل حاضر في المجلس، ولكنه كان قد خرج من الطفولة، وتشرب عنف الحياة وعنف الكبار، فقال مستغربا: والله إنه لحلو أن تدخل بين قوم ال يدافعون عن أنفسهم فتضرب هذا وتقتل هذا، وال أحد يدافع عن

نفسه. هذا الموضوع كان خفيا، وال يزال خفيا، فإمكانية رؤية أن األرض تدور لم تكن}رى طرفها وامتدادها، فكيف سهلة، ألن األرض التي نعيش عليها كبيرة وصلبة وال ي يمكن أن تدور؟ أما الشمس الصغيرة - في أعيننا - والنجوم المبعثرة فال حرج أن

تدور. في التسعينات كنت أشرح قصة دوران األرض للناس في مسجد القرية، فقال لي

أحدهم بكل بساطة: نحن إلى اآلن لم نقتنع، وال نقول ذلك إال ألن الناس يقولونه. الذي قال لي هذا، كان إنسانا يعيش في التسعينات من القرن العشرين، ولكن

القاضي الذي سألني السؤال السابق كان يعيش في الخمسينات. كيف يحصل الفهم، وما شروطه؟ هل نقول عن الشيء: إنه هكذا ألن الناس

يقولون ذلك؟ هل أطمع أن أثبت أن األرض تدور؟ هل أطمع أن أحلل نبأ ابني آدم؟ هل أطلب

المستحيل؟ لعلي أطيل الطريق، وأمشي باتجاه معاكس لالتجاه الذي يحل المشكالتفي العالم.

لماذا بدأت بكتابة كتاب آخر في مذهب ابن آدم؟ هل صار لدي حقا من األدلةالواضحة والبينة ما يمكن من إقناع بعض الناس بأن هذا المذهب صحيح وراسخ؟

كم كلمة، وكم صفحة ينبغي أن أكتب؟ وما نوع األدلة التي ينبغي أن أسوقها؟ وما هي األرضيات أو المنطلقات التي ينبغي أن أمهد بها لنتمكن من السير، ولنشق

الطريق؟ هل في النشاز من األنغام سعادة، أم أنه مجرد تشويش وزيادة صيحة إلى الضجيج

المختلط؟ هل يستطيع أحد أن يرفع سدادة األذن ليستمع كما فعل الشاعر ابنالطفيل؟ هل علي أن أكتب في هذا الموضوع؟ كيف ينبغي أن أكتب؟

يتحدث بعضنا بلغة المعقول، فيقول: هل يقبل العقل أال يدافع اإلنسان عن نفسه وهو معتدى عليه؟ وبعضنا يتحدث بلغة الشرع، ويطالب باألدلة الشرعية، ويقول: أين

د، وحنين، و..، وبعضنا ستند إلى إجماع الناس من المؤمنين }ح} تذهب بمعركة بدر، وأ

Page 91: كـــن كابن آدم - Jawdat Said · Web viewكن كابن آدم المحتوى الموضوع الصفحة المحتوى المقدمة تمهيد: لغة الحروف ولغة

والمالحدة، وكل البشر الذين يمارسون العنف والدفاع عن النفس، نعم، كل الناس يرون أن الشمس تدور حولنا، إنه امتحان عسير يحتاج إلى نقلة عالمية، ومفاهيم

مختلفة عن المفاهيم والمسلمات التي يعيشها الناس. كيف أواجه هذا كله؟ إنه ألمر م}حبط، إنه ألمر يدعو إلى الضجر، حتى إن الرسول

: ونحن دعوتك علينا تعرض ما كثرة من مللت أما يئست؟ أما له يقال كانبها؟ جئتنا التي باألفكار ونستهزئ نرفض

البشرية بين الجمود والتغير هل تحل المشكلة بكتابة صفحات كثيرة وكتب كبيرة؟ أال تكفي جملة واحدة

موجزة وشرح وإيضاح في مقالة معتدلة، أو محاضرة عابرة، أو جلسة وجلستان؟ ما معنى تغيير االتجاه العالمي الفكري التفسيري الفلسفي الديني اإليماني؟ كيف يمكن

إلغاء األدلة؟ كيف يمكن تجاهلها؟ كيف يصل اإلنسان والمجتمع إلى درجة أن يقول}وا بها( ] األعراف: )الله فيهم وعنهم: }ؤمن }ل آية ال ي [؟7/146وإن يروا ك

هذه حالة ومرحلة في حياة المجتمعات، وفي مواضيع معينة، وليست حالة سرمدية، إنها حالة أمة معينة، ومجتمع معين، وفي قضية معينة، ويمكن أن يتعرض كل مجتمع، في كل حين لصعوبة فهم قضايا معينة، ولكن قد يصير موضوع معين مرفوضا من الناس كافة في وقت معين، وهذا موجود في حياة البشر، إال أن العالم أصبح مهيئا

لمواجهة األفكار بمرونة أكثر، ألن الناس تعودوا في حياتهم على رؤية أشياء وأفكار جديدة تدخل إلى مفاهيمهم، بينما كان البشر قديما يعيشون في مجتمعات ال يحدث

فيها تغير، وال تدخل إليها أفكار وآراء مختلفة، وكانوا معتادين أن يسمعوا بوجود أديان وآراء مختلفة عنهم، وكانوا يكتفون بإدانتها واالعتراف بوجود أناس همجيين ال علم

لديهم، وأناس مميزين، وكانوا معتادين على أن يصنفوا الناس إلى كفار بعيدين عنالله، وإلى أقرباء مقربين إلى الله.

أال ما أصعب فهم الوجود، وما أشد حاجة الناس إلى معرفة كيف بدأ الخلق، وكيفوا في)كان اإلنسان يأكل لحم أخيه اإلنسان، ال بد من معرفة تاريخ اإلنسان: سير}

وا كيف بدأ الخلق( ] العنكبوت: [، وكيف سار بدء الخلق، وماذا29/20األرض فانظ}ر} حدث للخلق، وكيف يتقدم الخلق، وإلى أين يسير، وما هو مصيره، وما هي الصيرورة،

وما هي الزيادة في الخلق، وما هو الخطأ وما هو الصواب، وكيف نميز الخطأ من الصواب، هذا السؤال األبدي الذي كان الموضوع األهم للفالسفة، وإشكاليتهم الكبيرة،

وهو موضوع الفلسفة اإلنسانية في هذا العصر، وليس المراد بالفالسفة المشهورين الذين نقرأ أسماءهم في الماضي والحاضر، بل المراد بالفلسفة اإلنسانية اتجاه

اإلنسان كل إنسان، فهو أيا كان فيلسوف نفسه، إنه يفكر ويتساءل، ويقول: لو ولدت في بلد كذا لكنت على دينهم ومذهبهم، وحينما يخطر في باله هذا، يكون قد دخل إلى

الفلسفة من أوسع أبوابها، ألنه بعد ذلك يصل أو سيصل إلى السؤال الكبير: كيف أفهم الصواب من الخطأ؟ فما أعتقد أنه صواب، يعتقد اآلخر انه خطأ، وما أعتقد أنه خطأ،

وما يستوي األعمى والبصير} وال)يعتقد اآلخر أنه صواب، ولكن الله تعالى يقول لنا: ( ] فاطر: ور} ، وال الظل وال الحر} ور} }مات} وال الن [.21-35/19الظل

النسبية في الحياة اإلنسانية ينبغي االنطالق من أرضية بدهية، من درجة حرارة مناسبة، فالماء الدافئ في

البالد الباردة حق عند الجميع، والماء البارد حق ونافع عند الجميع في البالد الحارة، وال يمكن أن تستمر حياة الناس إال ضمن درجة معينة من الحرارة، فهل نستطيع أن نفهم

بقية مشكالت اإلنسان ضمن درجات معينة؟ ال يمكن أن يعيش مجتمع بدون قوانين، ولكن ما هي الدرجة المناسبة للقوانين؟

وكيف يتم تكيف المجتمع مع درجة حرارة أو برودة القوانين؟

Page 92: كـــن كابن آدم - Jawdat Said · Web viewكن كابن آدم المحتوى الموضوع الصفحة المحتوى المقدمة تمهيد: لغة الحروف ولغة

نعم يوجد حق وإن حصل اشتباه في بعض اللحظات، وال يستوي الماء البارد تحت )الدش( مع الماء الدافئ، ومن أنكر هذا ينقطع الحديث معه مهما تفلسف، ولكن

يقول: » اللهمالمشكلة هي أن الناس ال يتمكنون من إيجاد الماء الدافئ، والرسول ، ولكن اإلنسان الذي يعيش في البالد الباردة(1)اجعل حبك أحب إلى من الماء البارد «

يقول: اللهم اجعل ذكرك أحب إلي من الماء الساخن، ولكن لكل منهما حدود، ودرجة وما)بدء، ودرجة نهاية، وعتبة عليا وعتبة دنيا، ال يمكن العيش خارج هذه الحدود:

( ] فاطر: ور} ، وال الظل وال الحر} ور} }مات} وال الن ، وال الظل يستوي األعمى والبصير}ئة}( ] فصلت: )[، 35/21 ي [، وال النافع وال الضار،41/34وال تستوي الحسنة} وال الس

والناس يتحملون بعض األضرار والمشقات للحصول على المنافع الكثيرة، والقانونالكوني لصالح األكثر دواما في الوجود، لصالح الخير واألبقى.

ال بد من كشف ذلك في الوجود، وإال سيعيش اإلنسان العبث والقرف والالمباالة،وسيتحول إلى الهدم واالنفجار الذي ال سيطرة عليه.

انظروا إلى الماضي، وانتظروا المستقبل، فالوجود ليس عبثا، والعبث ال يدفع إلى الحركة وال إلى النماء، والتاريخ والوجود يسير بذاته، ولكن تدخل اإلنسان يساهم في

تعجيله، ويعمل على عدم تكرار الخطأ السابق. نعم، يمكن أن نرى العالم كذبا ودجال وغدرا وخيانة ونذالة وحقارة، ولكن نستطيع

أن نشاهد فيه أيضا الصدق والوفاء والتعالي.نحو كتابة التاريخ اإلنساني

في مؤسسة األمم المتحدة نجد مجلس المن الذي يتجلى فيه كل الكذب والدجل، ونجد )اليونسكو( التي يحدث فيها أشياء عظيمة من الصدق والصراحة ومحاوالت

االقتراب إلى الرشاد ومساعدة الناس على ذلك، ومثال ذلك أنهم حين أنشؤوا منظمة (1946اليونسكو وضعوا مشروعا لكتابة كتاب في تاريخ اإلنسانية، وكان ذلك عام )

( ثم فكروا بإعادة1969( وانهوا كتابته في عام )1950وبدؤوا بتنفيذ المشروع عام ) ( باللغة1994كتابته مرة أخرى بعد عشرين سنة، فصدر الجزء األول منه عام )

اإلنكليزية، وهم في طريقهم لترجمته إلى الفرنسية واإلسبانية، وقد عرضت} العدد الذي فيه هذا الخبر على األستاذ محمد عدنان سالم، المدير العام لدار الفكر،

فاستعاره مني وكان في نيته أن يترجم الكتاب إلى العربية، فشجعته على ذلك كثيرا. إنني لم أطلع على الكتاب األول، ولم أطلع كذلك على الكتاب الثاني، ولكنني أرغب جدا أن أطلع عليهما، وأنظر إلى ما فيهما، وإلى ما حدث من تقدم في فهم

التاريخ في الكتاب الثاني، كي أدرك كم مرة ينبغي أن تعاد كتابة التاريخ!نعم ينبغي أن تعاد كتابة التاريخ ما دام اإلنسان موجودا والتاريخ موجودا.

}تب في النصف األول من إن )ويلز( صاحب كتاب )معالم تاريخ اإلنسانية( الذي ك القرن العشرين، كان يقول فيه: تمنيت أن أطلع على الكتاب الذي سيوضع بعد مئتي

عام في الموضوع الذي كتبته، في معالم تاريخ اإلنسانية، قال: أما إنه لو وقع في يدي لتصفحته بسرعة وأنا أنظر إلى الصور المنشورة فيه. يقول ذلك عن الكتاب الذي سيكتب بعده بمئتي عام، فكيف ستكون نظرة ابن خلدون إلى كتاب )دراسة في

التاريخ( الذي كتبه )توينبي(؟!. (؟ ما1994متى سيصدر باللغة العربية الكتاب الذي صدر باللغة اإلنكليزية عام )

مقدار االهتمام والتنويه الذي سيناله هذا الكتاب، وكم عدد النسخ التي ستباع منه؟ متى سنبدأ، نحن المسلمين، بالمساهمة في كتابة التاريخ بالمستوى المعاصر؟ وهل

}طلق على يغني عن المسلمين أنهم يطلقون على بعض أبنائهم اسم )خلدون( ليأحفادهم لقب )ابن خلدون(؟؟.

Page 93: كـــن كابن آدم - Jawdat Said · Web viewكن كابن آدم المحتوى الموضوع الصفحة المحتوى المقدمة تمهيد: لغة الحروف ولغة

تساؤالت في موضوع الرشد: أين الرشد؟ أين الرشاد؟ أين سبيل الرشاد؟ ما هو سبيل الرشاد الذي دعا إليه

شاد()المؤمن الذي قال الله تعالى على لسانه: }م سبيل الر بع}وني أهدك يا قوم: ات [؟40/38] غافر:

هل سبيل الرشاد مظلم وخفي وصعب إلى هذه الدرجة حتى ال نهتدي إليه وال نعثرعليه؟

}م رج}ل)هل الرشد والرشاد نادران إلى درجة أنه ال يوجد منا رجل رشيد أليس منك [.11/78رشيد( ] هود:

نعم يا أخي، إنه صعب وخفي ونادر، وإال فلماذا لم يأتنا بعد الخلفاء الراشدين أي حاكم يستحق أن يسمى راشدا؟ ثم أال يمكن للرشد أن يترشد أكثر؟ أال نستطيع أن

نقترب من الرشد أكثر؟ أليس ممكنا أن يهدينا ربنا ألقرب من هذا رشدا؟ وإن يروا سبيل)كيف فقدنا الرشد؟ كيف وصلنا إلى حال من يقول الله عنهم:

خذ}وه} سبيال( ] األعراف: خذ}وه} سبيال، وإن يروا سبيل الغي يت شد ال يت الر [؟؟!!..7/146

أليس هذا الموضوع جديرا بأن نتأمله ونعيد التأمل فيه؟شد} من الغي()هل حقا تبين الرشد من الغي حين قال الله تعالى: ن الر قد تبي

[؟؟ ما الذي يجعله غير بين ومختلط؟؟.2/256] البقرة: ن)ذكرنا فيما سبق أن اله تعالى قال بعد آية الكرسي: ال إكراه في الدين قد تبي

ه فقد استمسك بالع}روة الو}ثقى( }ؤمن بالل شد} من الغي، فمن يكف}ر بالطاغ}وت وي الر [.2/256] البقرة:

لقد كان إشعال النار صعبا وخفيا، وكذلك كان إمساك الكهرباء، فهل إمساك الرشد والتعرف عليه وتصنيفه صعب وخفي وخطر مثل إشعال النار وإمساك

الكهرباء؟ كيف السبيل إلى الرشد؟ ماذا يقول الله عن سبيل الرشد؟ لنتذكر مرة أخرى

}ل)قوله تعالى: ون في األرض بغير الحق، وإن يروا ك ر} ذين يتكب سأصرف} عن آياتي الخذ}وه} خذ}وه} سبيال، وإن يروا سبيل الغي يت شد ال يت }وا بها وإن يروا سبيل الر }ؤمن آية ال ي

}وا عنها غافلين( ] األعراف: }وا بآياتنا وكان ه}م كذب [.7/146سبيال، ذلك بأن( تبين الرشد من الغي، إنه سهل يسير)بقوله تعالى شد} من الغي ن الر قد تبي

وصعب خفي غير قابل لإلدراك والفهم.}ريد بمن)أما الجن فقد ذكر الله تعالى على لسانها أنها قالت: ا ال ندري أشر أ وأن

ه}م رشدا( ] الجن: [، التبس األمر عليهم، ولكنهم72/10في األرض أم أراد بهم رب}شرك)حين سمعوا القرآن قالوا: ا به ولن ن شد فآمن ا سمعنا ق}رآنا عجبا يهدي إلى الر إن

نا أحدا( ] الجن: وا رشدا( ] الجن:) [، ثم قالوا: 72/2برب }ولئك تحر فمن أسلم فأ72/14.]

شدا()هل يمكن لنا أن نبحث عن الرشد؟ مت ر} مني مما ع}ل }عل بع}ك على أن ت هل أت [، هل يمكن لنا أن نعيد إلى حياتنا الرشد والراشدين؟ هل يمكن أن18/66] الكهف:

نتبين سبيل الرشد والرشاد؟ لم نحن يائسون؟ لماذا يئس الذين من قبلنا من إعادة الرشد؟ لماذا قبلوا الدخول إلى التنافس في الغي؟ كيف صار سبيل الرشد غير

مقبول لدينا؟ كيف لم يتبين، وكيف ضاع، وهل يمكن أن نطمع في إعادة الرشد إلى حياتنا؟ هل يمكن أن يدخل الرشد إلى حياتنا؟ هل يمكن أن نتعلم الرشد؟ هل يمكن

أن نتعلم الترشيد في استهالك الماء والكهرباء؟ هل نستطيع أن نرشد اقتصادنا؟

Page 94: كـــن كابن آدم - Jawdat Said · Web viewكن كابن آدم المحتوى الموضوع الصفحة المحتوى المقدمة تمهيد: لغة الحروف ولغة

أليس الرشد شرطا قرآنيا يجب توافره في اإلنسان كي يتولى تدبير اقتصادهشدا فادفع}وا إليهم أمواله}م( ] النساء:)بنفسه؟ }م منه}م ر} كاح فإن آنست ى إذا بلغ}وا الن حت

4/6.] كيف نتعلم الرشد في التربية؟ كيف نتعلم الرشد في التحويل االجتماعي؟ كيف

سأصرف})يمكن أن نتبين الرشد من الغي؟! من هم الذين يصرفهم الله عن آياته؟ }وا بها، وإن }ؤمن }ل آية ال ي ون في األرض بغير الحق، وإن يروا ك ر} ذين يتكب عن آياتي ال

}وا ه}م كذب خذ}وه} سبيال، ذلك بأن خذ}وه} سبيال، وإن يروا سبيل الغي يت شد ال يت يروا سبيل الر}وا عنها غافلين( ] األعراف: [.7/146بآياتنا وكان

هل الفهم ممكن؟ هل الرشد ممكن؟ هل المشكالت قابلة للحل؟ هل الكون قابل}حل المشكالت؟ كيف يصير اإلنسان غير قادر للتسخير؟ لماذا ال يتسخر لنا؟ لماذا ال ت

على الفهم، وغير قادر على أن يرى سبيل الرشاد، وغير قادر على الدخول إلى سبيلالرشاد؟ ما هي األمور التي تعيق الفهم وتمنعه؟

هل باإلمكان تحليل اإلنسان وكشف ما يحدث داخله؟ هل باإلمكان هداية اإلنسان؟هل الهداية من الله وال يستطيع اإلنسان أن يتدخل فيها؟

هل عدت إلى موضوع قراءتي القرآن من غير شعور مني؟ القراءة التي ترى أنتغيير أحوال الناس من الله، والقراءة التي ترى أن تغيير أحوال الناس من الناس.

ما الذي على الناس أن يغيروه؟ كيف يحدث تغيير ما باألنفس؟ هل ما نزال فيمرحلة طرح األسئلة فقط؟ هل بإمكاننا محاولة اإلجابة عنها؟

الطفل وطرح األسئلة: إن األطفال، في جميع أنحاء العالم، يمرون بمرحلة طرح األسئلة، أسئلة وراء

أسئلة، بدون كلل أو ملل، يريدون المعرفة، يريدون االستعانة بمن سبقهم، يبدؤون باألسئلة بعد أن يتعلموا اللغة، وبعد أن يعرفوا كيفية توجيه السؤال، ويستمرون في

ذلك نحو سنتين،ثم يبدؤون بالتقليل من األسئلة، ثم يكفون عنها، ولعل ذلك يعود إلى أنهم يكتشفون أن الذين يجيبونهم عن األسئلة هم أنفسهم ال يعرفون اإلجابة، وكأنهم

يسلمون بأن العالم غامض، وغير قابل للتفسير والفهم والتسخير وحل مشكالته. إنها عملية إبداعية، تتجدد مع كل مولود، من غير أن يحدث لها تحول أو تبدل، وربما لو أن آالف المراقبين سجلوا بوعي أسئلة األطفال ألمكن الخروج باألشياء

المتشابهة والمواضيع المتكررة في أسئلتهم.الخلق الجسدي والخلق الفكري

إن األطفال يختزلون تراث البشرية خالل سنتي األسئلة، قبل أن يكفوا عن االستعانة باآلخرين، ولعل أصعب األسئلة التي يوجهونها سؤالهم: من أين جئنا، لعلهم

يقصدون من أين جئنا جسديا، أما من أين جئنا فكريا، من أين جاءت أفكارنا فهذاأصعب سؤال يوجهه المجتمع الوليد الناشئ.

ربما يجيب اآلباء األبناء بان الله خلقنا، ولكن الطفل يريد أن يعرف كيف خلقه} الله، وما هي جهود البشر في خلقه، وما هي جهود والديه في ذلك. كذلك هل يكفي

حين يبدأ المجتمع الوليد يتساءل: من أين جاءت أفكاره أن نقول له: من الله؟ إنه يريدأن يعرف جهود البشر ومساهماتهم في توليد األفكار وصناعتها.

حين عرف الناس قوانين الوالدة الجسدية ؛ ساهموا كثيرا في حماية المواليد من األمراض الجسدية، فهل يمكن لنا أن نعرف قوانين الوالدة الفكرية لنتفادى األمراض الفكرية؟ هل يكفي حين نرى الذين يموتون من عسر الوالدة أو من سوء التغذية أن

نقول: إن األمر متروك إلى الله، وأن جهودنا ال قيمة لها؟؟!!..

Page 95: كـــن كابن آدم - Jawdat Said · Web viewكن كابن آدم المحتوى الموضوع الصفحة المحتوى المقدمة تمهيد: لغة الحروف ولغة

أال ما أصعب تبين الرشد من الغي، والهدى من الضالل!! أظنه صعبا جدا، ولكنمن الممكن أن يصير سهال جدا أيضا.

خالل التاريخ كله كان الناس يتنقلون باستخدام أرجلهم أو الدواب، ولكنهم منذ قليل صاروا يتنقلون بوسائل جديدة، ولم يكن اكتشاف هذه الوسائل صعبا بالنسبة للسابقين فحسب ؛ بل كان مستحيال، وذلك بحسب المعلومات التي كانت متوافرة

للناس آنذاك، فكيف تولدت المعلومات لدى الناس، وتجمعت إلى أن هجروا الوسائل القديمة؟ أليس من الممكن لنا أن نكتشف ونطور الوسائل التي بواسطتها نتبين

الرشد من الغي، لنترك ونهجر الوسائل القديمة التي لم تسعفنا في تبين الرشد منالغي؟؟

ألم تروا كيف كان العالم يعيش انتقال الحكم من شخص إلى آخر بالموت أو القتل أو الوراثة أو االغتصاب، وكيف أن بعض الناس استطاعوا أن يخرجوا من هذا

األسلوب العتيق إلى أسلوب آخر، وكيف أن هذا األسلوب الجديد صار سهال سائغا عندبعض الناس، وصعبا ومستحيال عند بعضهم اآلخر؟! تأمل هذا جيدا!!.

نعم، لقد كان االنتقال باستخدام الوسائل الجديدة مستحيال، فصار ممكنا شيئافشيئا، في مجاالت محددة، وعند بعض الناس.

التكبر واالنصراف عن آيات الله}رى هل استطعت، بهذه الجعجعة من الكلمات، أن أنبه إلى شيء جديد، ولو ت

للحظات قليلة؟ هل استطعت أن أنبه إلى إمكان إزالة االلتباس، وإلى وجود أسبابتجعلنا قادرين على سلوك سبيل الرشد والرشاد؟

سأكتب كلمات اآلية على ضوء هذه المحاولة، لنتبين كيف يكون سلوك سبيلون في األرض بغير الحق،)الرشد صعبا أو مستحيال: ر} ذين يتكب سأصرف} عن آياتي ال

}وا عنها غافلين( }وا بآياتنا وكان ه}م كذب خذ}وه} سبيال، ذلك بأن وإن يروا سبيل الغي يت [.7/146] األعراف:

ما هو الحاجز األكبر الذي يحول بين اإلنسان وبين االستفادة من آيات الله؟ كان الله تعالى يقول لنا هنا: إن الحاجز األكبر الذي يحجز الناس عن الرؤية هو

التكبر في األرض بغير الحق.ما هو التكبر؟ هل التكبر حالة قابلة للفهم؟

كأن هذه اآلية تعلق كل أنواع الضالالت على قدم قبول اإلنسان األدلة وإن رآها،وعدم سلوك سبيل الرشد وإن رآه، وسلوكه سبيل الغي إذا رآه}.

إن اآلية تذكر مشكلة كبيرة هي مشكلة التكبر، فهل باإلمكان تحليل التكبر؟لمعرفة الكيفية التي يولد فيها، والكيفية التي يعيش فيها، وكيفية تصرفه.

إننا نقارب اإلمساك باألفكار ثم تفلت منا، إنها تقترب من الوضوح في بعضاللحظات، لكنها سرعان ما تغيب في ظلمات الضباب والدخان.

كيف نتعلق بلحظة الوضوح؟ كيف نمسك بالضياء؟ كيف نجعل الشمس ال تغيب؟ يقال إن أينشتاين كان يحلم بأن يركب الضوء، ويتخيل ماذا سيحدث لو ركب

الضوء وانتقل بسرعة الضوء، فهل يمكن لنا أن نحلم بأن نمسك بطرف الخيط لنقبضعلى شيء ما؟

هل يمكن لنا أن نتبين الرشد من الغي؟ لقد كانت وسيلة االنتقال من حكم شخص إلى شخص آخر، في العالم كله، هي

الوراثة أو االغتصاب بالقوة، وهي اآلن وسيلة انتقال السلطة في البالد اإلسالمية، لكن الناس في العالم أوجدوا أساليب ووسائل وسبال لنقل السلطة غير الوراثة، وغير}زهق األنفس، االغتصاب بالقوة، لقد أوجدوا أسلوبا جديدا ال تراق معه الدماء وال ت

Page 96: كـــن كابن آدم - Jawdat Said · Web viewكن كابن آدم المحتوى الموضوع الصفحة المحتوى المقدمة تمهيد: لغة الحروف ولغة

فكيف صار هذا األسلوب ممكنا؟ هل نزل عليهم من السماء، أم أنه نبت في األرض؟ هل أحدث الله هذا األسلوب، أم أن البشر هم الذين أحدثوه، أم أن لكل من الله

والبشر ما يعود إليه في إحداث هذا األسلوب؟ ما الذي يرجع منه إلى الله، وما الذييرجع إلى البشر؟

هل هذه النقطة مضاءة، بحيث يمكن التأمل فيها واالنطالق منها؟ أهي نقطةشديدة االلتباس أم أنها قليلة االلتباس؟

هل هذا األسلوب في انتقال السلطة، والذي ولد في العالم حديثا، أقرب إلى الرشد؟ هل مرت رياح هذا األسلوب في العالم اإلسالمي، في يوم من األيام؟ هل في

ذاكرة المسلمين شيء من هذا األسلوب؟ بحيث يمكن الرجوع إليه على أنه ليس بدعة، وليس هرطقة، وليس كفرا بواحا، وأنه كان بينهم، وأحسوا به سابقا، ودخل إلى حد ما إلى ديارهم، ثم غادرها مأسوفا عليه، مودعا بالدموع والدماء، وغاب عنهم غيبة

طويلة، واختفى في سرداب طويل جدا.رداب المظلم!! مع أنني أريد الضياء، لكأنني، ومن غير أن أشعر، أدخل في الس

أريد الفهم، أريد أن أوجه سؤاال إلى األرض الحزينة ال إلى السماء، أريد أن أنزل بالسؤال من االشتغال بما يحدث في السماء إلى االشتغال بما يحدث في األرض التي هي تحت أقدامنا وأمام أعيننا، أريد أن أفتح األجفان، أريد أن أسلط الضياء على ما هو

واقع أمامنا، هل بإمكاني ذلك؟ هل أحرث في البحر؟ هل أستقي من السراب؟ هل أداعب الجنون؟ هل أنا خارج عن اإلجماع المقدس؟ ماذا أصابني؟ هل أصابني المس

والجنون إذ أطمع في كشف شيء جديد غائب م}ضيع منذ زمن بعيد؟ هل لي الحق في أن أبحث في األرض عن المفاتيح التي ضاعت في الظلمات؟ من أنت يا جودت سعيد

حتى تطمع في هذا؟؟!!.. تغيير الحكومات وتغيير األفكار

إنني ال أطمع بما يطمع به المسلمون من تغيير الحكومات، وال أريد ذلك، كال وال أفرح إذا تغيرت الحكومات بهذه الوسائل التي ال نرى غيرها أداة للتغيير، نعم ال أطمع

بذلك وال أفرح لحدوثه، إذ طالما حدث ولم يتغير من أوضاعنا شيء. لقد صار طمعي متجها إلى مكان آخر، إلى مكان بعيد بعيد، ومن جنوني صرت

أراه قريبا قريبا، وال زلت منذ أربعين عاما أصرح بأن التغيير ممكن، ولكن ليس بالسبل التي يريد المسلمون إحداث التغيير بواسطتها، ليس بالقتل واالغتصاب ولكن بالحب

ال إكراه)واإلقناع، بالعلم والسلم، ال ليس باإلكراه، فاإلسالم نسخ اإلكراه حين قال: شد} من الغي( ] البقرة: ن الر [، وصار بإمكاني أن أرى سبيل2/256في الدين قد تبي

الرشد وأتخذه سبيال، وصار بإمكاني أن أرى سبيل الغي، وأن أهجره وأتبرأ منه والأتخذه سبيال.

هل لي الحق في أن أزعم أنه ال يوجد في العالم اإلسالمي من يمكنه أن يعلن أنهلن يستخدم وسائل اإلكراه واالغتصاب، وأن هذه الوسائل منافية لطريق اإلسالم؟

إنني لم أر إلى اآلن من يعلن ذلك، فهل يمكن أن يحل هذا النوع من الفهم في ديار اإلسالم؟ هل يمكن أن يفهموا أن التغيير الذي يحدث باإلكراه ليس تغييرا شرعيا،

وأن يعلنوا أنهم تخلصوا من السعي إلى التغيير بواسطة اإلكراه والقتل واالغتصاب، وأنهم سوف ال يفرحون بالذي يسعى لتغيير األوضاع بهذا األسلوب، فضال عن أن يمارسوه بأنفسهم؟ هل يمكنهم أن يعتبروا بالتاريخ، وبما جربه المسلمون خالل

تاريخهم من استخدام هذا األسلوب، وعدم جدواه في تغيير أوضاعهم؟ هل سيقتنعون بأنه لن يغير من أوضاعهم شيئا؟ أال تكفي تجربة أربعة عشر قرنا ليعرفوا ويفهموا أن

هذا السبيل ليس هو سبيل الرشاد، وليس هو سبيل االقتصاد في التغيير؟

Page 97: كـــن كابن آدم - Jawdat Said · Web viewكن كابن آدم المحتوى الموضوع الصفحة المحتوى المقدمة تمهيد: لغة الحروف ولغة

لماذا ال يستطيع المسلم، وال يستطيع بشر آخرون غير مسلمين أن يروا سبيلالرشد، وإن رأوه ال يستطيعون أن يسلكوه؟ وأنه ألمر معقد حقا.

لماذا وجد بشر آخرون غير مسلمين يفهمون هذه األمور ويبحثون عن السبيل ذلك بأن)القرب إلى الرشد؟ إنهم بشر، وينطبق عليهم قانون الله الذي يقول فيه:

وا ما بأنف}سهم( ] األنفال: ر} }غي ى ي را نعمة أنعمها على قوم حت ه لم يك} م}غي [،8/53اللماوي ال يميز بعض البشر عن بعض، إنه ينطبق على كل البشر، على وهذا القانون الس

كل بني آدم، على المؤمنين والكافرين، على العادلين والظالمين، على اليهوديعة، ة والش ن والنصارى، على البوذيين والمسلمين، على المذاهب والطرق، على الس

على كل البشر، ال يستثني أحدا، وتغيير ما باألنفس ليس وظيفة معهودة إلى}وربة أو إفريقية، بل هو قانون المسلمين أو اليهود أو النصارى أو سكان آسية أو أ

}م بشر ممن خلق( ] المائدة: )إنساني بشري: [.5/18بل أنتالكبر والتغيير

أظن أن الكبر هو الذي يمنع اإلنسان من أن يجعل نفسه من عداد البشر، الكبرليس صفة إسالمية أو دينية أو وطنية، الكبر صفة إنسانية بشرية.

أظن أن اإلنسان الذي يصاب بالكبر يرفض أن يكون مثل بقية البشر، ويرفض أنيطبق عليه ما يطبق على غيره من البشر.

ما هذا الجدار الذي وصلت إليه؟ هل أستطيع أن أتسلقه؟ هل يمكن أن أخترقه؟ هل أستطيع أن أرى ما وراءه؟ هل يمكن أن أعرف من أي المواد بني هذا الجدار؟ هل هو مبني بالحجارة، بالنار، بالحديد؟ من أي شيء بنى ذو القرنين سده؟ ما هذا الجدار الذي أتلمسه؟ ما هذا الكبر الذي إذا مس اإلنسان شيء منه جعله غير قادر على أن

يسمع أو يبصر أو يفهم أو يعيد النظر؟ ما هذا الشيء الذي يجعله يستقيل من الحياة؟ ما هذا الكبر الذي يخلف هذه اآلثار الكثيرة؟ ما هذا الكبر الذي قال الله فيه:

ون في األرض بغير الحق( ] األعراف: ) ر} ذين يتكب [؟7/146سأصرف} عن آياتي ال قلت: أظن أن الكبر هو الذي يمنع اإلنسان من أن يقبل بأن يكون كسائر البشر

…}فهمه آلخرين، أو لدي ظن أو وهم بأنني إذا ما فهمت شيئا ما، فإنني أستطيع أن أ لبعض الناس إن لم يكن كلهم، وصلت إلى هذا الظن بعد تجارب ومعاناة وممارسات،

وإن كان الكثيرون يبخعونني ويفشلونني ويصدمونني، ولكن وعلى الرغم من هذا كثيرا ما أجد ما يعيد إلي الثقة والطمأنينة والتفاؤل، وعلى األقل أجد ما يبقي في نفسي

أمال يمنعني من التوقف عن التفكير، لالهتداء إلى فهم أوضح، وأسلوب أقرب للفهم وأمثلة أيسر للهضم، وقد صرت أتهم نفسي بالعجز عن امتالك الفهم المتمكن الذي يستطيع صاحبه أن يتالعب باألدلة القريبة الواضحة، والغامضة المدهشة، التي تلوي األعناق لصالحها، وال زلت أتذكر نصيحة ذاك الرجل المسن األمي، الذي كنت أعيش معه في القرية، كان يقول لي هذه الحكمة: » إذا كنت تجلس على رقبة الفاهم فإنه

لن يسقطك «. إنني أشعر أن الفاهم المتدرب يستطيع أن يلعب باألفكار كما يلعب العب الجمباز،

وأن الكسيح فكريا ال يستطيع أن يريك أي حركة رشيقة وال يمكن له أن يضرب لكمثال مقربا ومضيئا.

إن الناس يرتكبون أخطاء ال يحسون بها وال يشعرون، وإذا فعلها آخرون فإن هؤالء يشعرون بها شعورا حساسا ودقيقا، إنهم يرون أخطاء اآلخرين بمنظار مكبر، مضروبة

بأرقام خيالية، ويرون األخطاء نفسها إذا ارتكبوها هم صغيرة تافهة محجمة.

Page 98: كـــن كابن آدم - Jawdat Said · Web viewكن كابن آدم المحتوى الموضوع الصفحة المحتوى المقدمة تمهيد: لغة الحروف ولغة

إذا ارتكب اآلخر العنف فهذا فعل قبيح، وجريمة منكرة، أما إذا قام هو نفسه باستخدام أسلوب العنف فإنه يكون قائما بفعل حسن، خارج عن وصف القبح

واإلجرام. إنهم يرون الحسنة سيئة، والسيئة حسنة، هذا ما نمارسه يوميا ولحظيا، وهو ما

نعيش فيه غرقى وسكارى منتشين إلى درجة ال قدرة لنا معها على كشف هذا المرض الذي هو خبزنا اليومي، وهذا ال يعود إلى أنه غير قابل للكشف، ولكن تذكر قليال كيف

تغفر للذين تحبهم، وكيف تسخط على الذين تكرههم، تذكر إن كنت ال تذكر كيف يكون المحب متسامحا معطاء باذال حريصا على محبوبه، يشتعل قلبه تذكرا، ويشتعل فكره للعثور على الكلمات التي سيقولها لمن يحب، وليبحث عن الهدايا التي يريد أن ينال

بها إعجاب من يحب. تذكر أيها اإلنسان المسكين كيف تتالعب بك األهواء في الحب والبغض، كيف

تتقاذفك في األودية السحيقة. ال تقل أنا فوق سنن الله في الوجود، ال تقل إن سنن الله ال تحكمني وال تنطبق

علي، ال تتكبر، إنك من لحم ودم وعظم، إننا نخطئ في الليل والنهار، إننا نخطئ فيالغضب والرضا، إننا نخطئ أخطاء فاحشة.

لعلي أرتكب، وأنا أكتب اآلن، أخطاء سأخجل منها في المستقبل، وذلك علىالرغم من أنني أحاول أن أكون موضوعيا، ولكننا ال نرى أعناقنا ملوية.

ما معنى الندم؟ ما معنى التواضع؟ ما معنى الكبر؟ كيف نصير متكبرين؟ كيف أزعم أنني كشفت ما لم يره أحد؟ هل أستطيع أن أبين هذا؟ من ذا الذي يستطيع أن يحلل نفسه؟ من ذا الذي يستطيع أن ينقد نفسه؟ ما الذي يكب الناس على وجوههم

في النار؟ أليست حصائد ألسنتهم؟تحسين أسلوب الخطاب

كيف نهذب لغتنا؟ كيف نلطف عباراتنا؟ كيف نغير ما بأنفسنا وقلوبنا؟ كيف نستعير من الطب لغته مع المريض؟ كيف يمكن أن نكشف أسلوبا يجعلنا ال نستهزئ بالمريض وال نحتقره؟ كيف نخاطب المريض بغير لغة السب واالحتقار والغمز واللمز والهمز؟ أال

ما اشد االمتحان!!.. إن كنت متمكنا من فن العالج، فإن تمكنك سيجعلك تبدع أساليب رائعة في

العالج. العلم يحتاج إلى وضوح وال يحتاج إلى إكراه، ولكن في الناس من يلجأ إلىاإلكراه بدل الوضوح.

لعلي أتمكن من االعتراف بان أسلوبنا الذي نتعامل به مع من نسعى إلى هدايتهم واألخذ بأيديهم ومعافاتهم أسلوب مريض، إننا نلجأ إلى اإلكراه، وإلى األشياء

المكروهة، واإليذاء الجسدي والتعذيب والقتل والكلمات المؤذية واأللقاب المغيظة. يمكن أن يكون أسلوبنا بردا وسالما، ويمكن أن يقدم الرحمة والهدوء والصبر واألناة. العلم ليس مكروها عند الناس، ولكن أساليبنا في عرضه هي التي تكون

مكروهة أحيانا، فلنبذل جهودنا لعرض العلم عرضا مبسطا وسهال وميسرا، بدل أننصب الغضب والغيظ واللم والعلو واالستعالء واالستكبار على الجاهلين.

كيف يمكن أن نسوق العلم بأسلوب مبسط وسهل؟ كيف نمهد طريق العلم؟كيف نيسر المعرفة؟

تحمل يا أخي مواعظي وغالظتي وغضبي، وقلة بضاعتي وسوء عرضي، وإكثاري من الكلمات والشكاوى والتحيرات والمالمات التي أكتبها في هذه الصفحات، وقد كان

علي أن آتيك باألمثلة الواضحة الجلية التي يعرفها كل الناس ويعيشونها في المنزلوالطريق والسهرة والصحوة.

Page 99: كـــن كابن آدم - Jawdat Said · Web viewكن كابن آدم المحتوى الموضوع الصفحة المحتوى المقدمة تمهيد: لغة الحروف ولغة

كم هي األمثلة التي نعيشها ونمارسها دون أن يكون لنا قدرة على إبصارها؟!! متى سنضع إشارات المرور على دروب أفكارنا وكلماتنا؟ متى سنمهد السبيل حتى ال

يخطئ أحد منا الطريق إلى هدفه؟ إنني أعترف بالجهل والقصور وقلة البضاعة، وبأن الشيء القليل من العلم الذي

حصلته جعلني أكشف العوالم التي تغيب عني، فاعذرني إذ أكتب بهذه الطريقة، ألنني}ه}، وتوضح ما ال اهدف من كتابتي إال إلى أن أشعرك بأن في إمكانك أن تكشف ما جهلت

قصرت} فيه وعجزت} عن توضيحه، وتسوق األمثلة الكثيرة القريبة والمفهومة لتجعلهاتتألق وتضيء.

إن هذا ممكن، هذا ما وصلت إليه، وهذا ما ينبغي أن أبلغه لك وأبثه إليك أيها القارئ العنيد، أيها القارئ الذي لم يفقد بعد السعي إلى المزيد من الفهم. إنك ال تزال

تسأل، لم تفقد ميزة الطفولة، والذي يسأل ينتظر أن يسمع جوابا على بالبل قلبهولواعج فؤاده وما يقلق صدره.

األنبياء وتسريع عملية التغيير أراك، أيها القارئ، تسخط مني وتقول: لم التطويل؟ لم اللف والدوران؟ لم ال

تقول ما تريد أن تقوله بسهولة؟ ليس السبب، يا عزيزي، هو أنني أحب التطويل واللف والدوران، ولكنني لم أتعلم

بعد كيف أختزل زمن التربية، إننا ال نزال نعتمد على أسلوب )ألف ليلة وليلة(. إن التغيير ال زال يحدث تلقائيا، وفق أسلوب الطبيعة، وإلى اآلن لم يتدخل البشر

في تسريع التاريخ أو اختزاله أو االعتبار به. أحيانا أسمع أن الفيزيائيين يشعرون بالحاجة إلى تسريع الجزيئات الذرية ليكشفوا

قوانينها، ويبنوا أبنية وآالت خيالية يسموها المسرعات، أنا ال أفهم هذه األمور، وال أعرف إن كان تسريع التاريخ مرتبطا بذلك أيضا، ولكن الذي أعلمه وأزعمه هو أن مهج األنبياء في تسريع التاريخ لم ينتبه إليه أحد بعد، بل أن الناس نسخوه حتى صار صعب

الكشف، وصار الفالسفة يخجلون من طرحه أو الحديث عنه.الفصل الخامساإلنسان والتاريخ

فوكو ونتيشه ومرجعية التاريخ لعلك تذكر ما قلته عن فوكو سابقا حين قال متحدثا عن قدرات علماء النفس: »

إن قدرة المحلل النفسي على فهم المرض العقلي محدودة، فالتحليل النفسي يستطيع أن يفك عقدة بعض أشكال الجنون، لكنه يظل غريبا عن عمل الجنون األعظم

… ثم يشير إلى شكل أساسي من الغيرية يخرج عن متناول العقل والعلم، ثم يلمح إلى أشخاص نجوا بطريقة ما من هذا السجن المعنوي الهائل، واستشفوا تلك التجربة األصلية للغباوة التي تستجوبنا أبعد من حدود المجتمع، ثم يتساءل عما إذا كانت هذه الغيرية بداية معارضة جذرية للثقافة الغربية … محاولة فلسفية مميزة ألكثر أشكال

الفكر الحديث تقدما لكنها محكوم عليها بالفشل «، ويقول الذين كتبوا عن فوكو: » إن فوكو ينضم إلى تلك القلة من المفكرين النادرين الذين استشفوا عمل الجنون األعظم

.» …كيف نحلل هذه الكلمات؟

بإمكاننا أن نقول: كما يتساءل الطفل عن أصله الجسدي، فإن فوكو يتساءل عن أصله الفكري، وقد صارت له قدرة على توجيه األسئلة إلى ثقافته، وصار قادرا على

الحفر حول جذور ثقافته، إنه بدأ بتوجيه األسئلة!!..

Page 100: كـــن كابن آدم - Jawdat Said · Web viewكن كابن آدم المحتوى الموضوع الصفحة المحتوى المقدمة تمهيد: لغة الحروف ولغة

إن اإلعالن عن موت الله - الله بمفهومه الكالسيكي - من قبل نيتشه، واإلعالن عن موت اإلنسان من قبل فوكو، يعبر عن نوع من التغير، إنهم بتساؤالتهم تجاوزوا الله واإلنسان، تجاوزوا كونهما مرجعين للمعرفة، ولكن نيتشه وفوكو لم يهتديا إلى

المرجعية التي يضعها الله في التاريخ، ولم يكشفا أن بإمكان اإلنسان أن يتأمل القانون الذي يحكم الوجود اإلنساني، فيبدأ بعد ذلك يلمح الفرجة التي يمكنه أن يبدأ

منها بالتدخل في صنع التاريخ والثقافة، ويبدأ بفهم الجدل الكائن بين اإلنسان والثقافة، حيث كان اإلنسان يصنع الثقافة تلقائيا، ثم بدأ بالمساهمة في صناعة الثقافة بشكل

واع، وبأدوات أرضية.اإلنسان والتغيير

لقد بدأ اإلنسان بالتعرف إلى الشق الذي انفتح أمامه لمعرفة الكيفية التي خلقبها ما بنفسه، كي يصبح قادرا على تغيير ما بنفسه.

إن التحول من الرؤية القائلة بأن التاريخ من صنع الله فقط إلى الرؤية القائلة بأن التاريخ من صنع الله واإلنسان، وأن األولوية في صنع التاريخ لإلنسان، وأن عمل الله

را نعمة)في صنع التاريخ تابع ومتأخر عن عمل اإلنسان: ه لم يك} م}غي ذلك بأن اللوا ما بأنف}سهم( ] األنفال: ر} }غي ى ي [، إن هذا الفهم جديد8/53أنعمها على قوم حت

وحديث في التاريخ البشري. إن البشر يصنعون الثقافة، وإن الثقافة تصنع البشر، لكن في هذه الدائرة فرجة يوقف لتاريخ عدم التنبه لها، وهي أن الناس، مهما قل عددهم، قادرون على إضافة شيء جديد، مهما كان هذا الشيء الجديد ضئيال، ولكن بتراكمه خالل المدد الطويلة

يصبح التغيير كبيرا، وبهذا تكون مساحة سلطان اإلنسان واسعة، هذه الفرجة هي التي يمكن إهمالها وتجاوزها كما فعل سكينر بقوله: » حين يصل ما يملكه اإلنسان من

حرية إلى درجة الصفر، فإن أشد دعاة الحرية يصبحون دعاة إلى الرفض واإلغالق «. ولهذا فإن سكينر نزل باإلنسان إلى درجة اآللة، وقد نقل قول بعضهم: » إننا كنا نظن

اإلنسان مالئكة أو فوق المالئكة، وقد تبين لنا أن اإلنسان كلب أو مثل الكلب أو هوأدنى منه «.

نعم يمكن لنا أن ننظر إلى اإلنسان من زاويتين ؛ حين يتراجع عن قدراته يكون كاألنعام بل هو أضل، قد يكون في أسفل سافلين، ويمكن أن يكون في أحسن تقويم

بحيث يستحق أن تسجد له المالئكة … إن مشكلة وعي اإلنسان وهدايته مشكلة تاريخية فلسفية، ولكن وعي اإلنسان

يتقدم بنفسه، مهما كان التقدم بطيئا ومضنيا ومخيبا لآلمال وباعثا على اليأس، وإذا لم يتحقق علم الله كله ؛ إال أنه بدأ بالظهور، وبدأ يلمحه بعض المؤمنين وبعض الكافرين، والذين يلمحونه بعلم ووعي قالئل جدا من الطرفين، وهذا هو ما يفسر العداء الشديد الذي يواجهه هذا االتجاه، ولو كان في الناس من يؤمن به بقوة ألمكنه أن يأخذ بأيدي اآلخرين، وكما قال عبد القادر الجيالني، فإن الحالج وإن عثر، فإنه لم يكن في زمانه

من يأخذ بيده، وأنا آخذ بيد كل من عثر. وبسبب هذا المفهوم الذي صار عند عبدالقادر الجيالني خرج اليهود والنصارى في جنازته حين توفي.

اإلعدام الجسدي واإلعدام الفكري والجنون حينما يظهر العلم، فإنه يزيل العداوات، ويحول األعداء إلى أولياء حميمين، وحين

يظهر شيء من ذلك للصوفية يصابون بالشطح، وتخذلهم عباراتهم، فيحكم عليهمباإلعدام الجسدي.

ربما لم يعد العالم يصدر حكم اإلعدام على أجساد المفكرين، إال أن حكم اإلعدام الفكري ال زال يصدر عليهم، إلى درجة أن ميشيل فوكو حين ينكشف له شيء من

Page 101: كـــن كابن آدم - Jawdat Said · Web viewكن كابن آدم المحتوى الموضوع الصفحة المحتوى المقدمة تمهيد: لغة الحروف ولغة

قوانين التغيير في اإلنسان، ويسميها غيرية أو براغماتية أو يذكر مصطلح األنطولوجيا، فإنه خجول وحائر، ويشعر أنه ينبغي له أن يبذل جهدا أكبر في تسير فهم ما بدأ

يلمحه، وتسهيل قبوله وجعله ميسور المنال من قبل الجميع، ولهذا نجده يقول: » إن هذه الغيرية لم يفطن إليها إال بعض األسماء الالمعة في تاريخ البشر «، وهو متردد في

الكيفية التي يعرض بها هذا الموضوع، فيسميه في بعض األحيان: تراجعا وعودة إلى األصل. حيث يرى في جذور الحفريات بعض عروق الجنون، أي بعض األفكار المهمة،

وإن كانت تخرج عن متناول العقل والعلم.مشكلة اللغة

في الواقع إن المشكلة مشكلة لغوية، ولهذا اضطرت الفلسفات اإلنسانية إلى العودة إلى مشكلة اللغة، ويمكننا أن نقول: إنها مشكلة السمع والبصر، واإلنسان ال يكون شيئا بدون السمع والبصر والفؤاد، ألن المعلومات التي في ذهن إنسان ما ال

وما)تنتقل إلى ذهن إنسان آخر دون رموز الصوت والضوء، ودون األذن والعين: ، وما يستوي ور} ، وال الظل وال الحر} ور} }مات} وال الن ، وال الظل يستوي األعمى والبصير}

}ور، إن أنت }سمع} من يشاء} وما أنت بم}سمع من في الق}ب ، إن الله ي األحياء} وال األموات}}وك }كذب خال فيها نذير، وإن ي }مة إال ا أرسلناك بالحق بشيرا ونذيرا، وإن من أ نذير، إن إال

}م أخذت} }ر وبالكتاب الم}نير، ث ب نات وبالز }ه}م بالبي ل س} ذين من قبلهم، جاءته}م ر} فقد كذب الوا فكيف كان نكير( ] فاطر: ذين كفر} [.26-35/19ال

}ور( ] فاطر: ) }سمع} من يشاء} وما أنت بم}سمع من في الق}ب [.35/22إن الله ي}سمع} من يشاء}( ؛ هذه جملة لغوية تقول: إن الله يسمع من يشاء هو،) إن الله ي

ولكن كيف نتذكر أن نقرأ هذه اآلية على أساس القراءتين؟ كيف يغير الله سمعالناس؟ ما الذي على الناس أن يغيروه حتى يغير الله سمعهم؟

إن إمكانية السمع نعمة من نعم الله، والله ال يغير نعمة إمكانية السمع حتى يغيرالناس ما بأنفسهم، واألخذ بالعذاب هو الوسيلة األخيرة لتغيير ما باألنفس.

حين تعجز الرموز اللغوية التي تقول لإلنسان: يا أيها اإلنسان ال تضع يدك في النار، ألنك ستندم حسن يمسك العذاب، فإن كنت إنسانا ال يؤثر فيك فال حرج عليك،

هل أنت من جنس البشر الذين يحترقون بالنار؟ إن كنت منهم فال يغرنك لمعانها وضياؤها، وال تلق بنفسك فيها، وإذا ظننت أنك لست مثل اآلخرين، وأنك شيء آخر

أرقى وأكبر من سائر البشر ؛ فجرب النار كي تتعلم أنك مثل البشر!!..يا أيها اإلنسان ال تتناول المخدرات، ألنك ستندم حين يمسك العذاب!!..

يا أيها اإلنسان ال تنقض العهد، وإن رأيت أن النقض نافع لك على المدى القصير،ألنك ستندم حين تكتوي بنار عذاب المجتمع الذي ال حرمة فيه للعهود والمواثيق!!..

إذا كنت ال تقدر على سماع هذه المواعظ فلك الحق أن تنبذها وراءك ظهريا، ولكن التاريخ علمنا أن الذين ينبذون العهد والميثاق، وال يبالون بالعدل ؛ يؤخذون

جاءته}م)بالعذاب، فإن لم تصدقوا هذا وكذبتم بذلك ؛ فقد كذب الذين من قبلكم وا فكيف كان نكير( ذين كفر} }م أخذت} ال }ر، وبالكتاب الم}نير، ث ب نات، وبالز }ه}م بالبي ل س} ر}

ة الله تبديال ولن) [، 26-35/25] فاطر: ن ة األولين فلن تجد لس} ن س} ون إال فهل ينظ}ر}ة الله تحويال( ] فاطر: ن [.35/43تجد لس}

اللغة والعواقب ال معنى ألي شيء دون العواقب، كل واحد يســتطيع أن يفســر األشــياء كمــا يريــد، وأن يعطي للكلمات ما يريد من معــنى، ولكن الواقــع ال يخضــع للمعــاني الــتي نعطيهــا للكلمات، فكلمة الله، الرسول، الكتاب، اليوم اآلخر، الكــافر، الفاســق، هــذه الكلمــات

Page 102: كـــن كابن آدم - Jawdat Said · Web viewكن كابن آدم المحتوى الموضوع الصفحة المحتوى المقدمة تمهيد: لغة الحروف ولغة

إن)واألسماء ليست هي حقــائق األشــياء، إن الســلطان ليس في الكلمــات واألســماء: لطان( ] النجم: }م ما أنزل الله} بها من س} }م وآباؤ}ك }م}وها أنت أسماء سميت [.53/23هي إال

والدعاوى إن لم تقيموا عليها بينات أبناؤها أدعياء وإن)والبينات هي العواقب: » من ثمارهم تعرفونهم «، والعواقب ال تحابي أحدا،

ة من خردل أتينا بها، وكفى بنا حاسبين( ] األنبياء: [، وقد قال21/47كان مثقال حب الغزالي: » من طلب المعاني من األلفاظ ضاع وهلك، وكان كمن يستدبر الغرب وهو يطلبه، ولكن من حرر المعاني أوال ثم أتبع المعاني األلفاظ فقد اهتدى «. ولكن كيف

يكون تحرير المعاني؟؟ سنضطر في النهاية للتحاكم إلى العواقب، إلى قانون الزبد الذي ال يرحم صورنا

بد} فيذهب})الذهنية، ومعانينا التي نزخرفها: كذلك يضرب} الله} الحق والباطل، فأما الز}ث} في األرض( ] الرعد: اس فيمك [، إن لم تصدقوا هذا ؛13/17ج}فاء، وأما ما ينفع} الن

فانظروا إلى الماضي، وإن لم يكف ما في الماضي من المثالت ؛ فانتظروا المستقبل،}خلف الله وعده رسله، ولن يغير سننه، ولن تبكي األرض والسماء على الذين ولن ي

يجهلون قانون الله..لقد قالوا: مات الله؟

ألن الله الذي في أذهانهم مات حقا.ولماذا قالوا: مات اإلنسان؟

ألن اإلنسان الذي في أذهانهم مات حقا، وظهر خطأ الصور والمعاني التي كانتفي أذهانهم، والتي ظهر زيفها وخطؤها.

ستموت الصور الذهنية الموجودة في أذهانهم عن قدرة اإلنسان على فهم اللهواإلنسان فهما منفصال عن العواقب، ألنه ليس غير العواقب شيء يثبت المعاني.

لقد أعطينا العصمة والقداسة لصورنا الذهنية، مهما كانت العواقب مخيبة لآلمال}م من الخاسرين()في بشاعتها: }م فأصبحت }م أرداك ك }م برب ذي ظننت }م ال ك }م ظن ذلك

ة( ] آل عمران: ) [، 41/23] فصلت: ون بالله غير الحق ظن الجاهلي }ن [.3/154يظاإلنسان ومشكلة اللغة

ما هي المشكلة اللغوية؟ ما هي المشكلة اإلنسانية؟ اإلنسان هو الكائن التاريخي، ومعنى الكائن التاريخي أنه ذاك الذي يغير ما بنفسه

خالل التاريخ، فيزيد علمه ومعرفته بقوانين الوجود خالل الزمن، وتزيد خبرته المتراكمة في التعامل مع الوجود، وال يمكن نقل هذه العلوم والمعارف والمنافع

والتسخيرات المتراكمة، والتي حصلها اإلنسان الفرد بتعامله مع الوجود، إلى اآلخرين ؛ إال بواسطة اللغة، ولكن اللغة ليست هي الحقيقة، بل هي رمز ومجاز للحقيقة، والذين

قالوا بوجود الحقيقة في اللغة ؛ كان قولهم هذا مجازا أيضا، بل إن الوجود كله مجاز}عد وعالمة على مغزى الوجود، والحقيقة الوحيدة التي ليست مجازا هي الله الذي ي

}ه} رمزا عليه. كون إن الذين يقولون بوجود كلمات حقيقية ومجازية، إنما يتحدثون عن حقائق نسبية

ومجازات نسبية، ولعل هذا ما جعل اإلمام الغزالي يقول: » من طلب المعاني من األلفاظ ضاع وهلك «، ومن طلب المعاني من األذهان ضاع وهلك أيضا، ولكن المعاني

تكمن في العواقب النافعة والعواقب الضارة، والعواقب هي المرجعية التي أثبتها القرآن، وبما أن هذه المرجعية لم توضح ولم تحرر بعد، فالعالم ال يزال في نزاع، وكل

يغني على حقيقته التي هي صوره الذهنية. إن العواقب ليست بحاجة إلى غناء، والذين يعرفون العواقب يعملون بدون ضجيج،

وبدون حقد أو غضب.

Page 103: كـــن كابن آدم - Jawdat Said · Web viewكن كابن آدم المحتوى الموضوع الصفحة المحتوى المقدمة تمهيد: لغة الحروف ولغة

» اللهم اهد قومي فإنهم ال يعلمون!!.. «.الحق والباطل والعواقب

المشكلة ليست مشكلة لغوية، وليست أحداثا تاريخية، بل هي عواقب صارمة}منيات، تفصل بين الحق والباطل، وبين النافع والزبد، والحقائق ليست دعاوى أو أ

ولكن ائت بما هو أنفع ولسوف يذهب الزبد جفاء، ائت بالحق ولسوف يزهق الباطل: [.17/81وق}ل جاء الحق وزهق الباطل} إن الباطل كان زه}وقا( ] اإلسراء: )

من هنا نعلم قلة جدوى الكلمات المفصولة عن التجارب والعواقب، وخاصة حيننسمي الباطل حقا، والحق باطال.

}بدئ} الباطل})إننا نعيش أمورا ملتبسة، وال نعيش الحالة الواقعية: جاء الحق وما ي}عيد}( ] سبأ: [، نحن نعيش حالة: جاء الباطل وما يبدئ} الحق وما يعيد، من34/49وما ي

أدنى المستويات الثقافية في القرى إلى أعلى المستويات في األمم المتحدة، وذلكمثل من لم يرفع بما بعث الله رسوله به رأسا.

إنني أرى عالما مختلفا عن العالم الذي نتصوره، مختلفا من أخمص قدميه إلى}م جعلنا)قمة رأسه، عالما مقلوبا، عالما معكوسا، ودليلي على ذلك ظاهرة الشمس: ث

مس عليه دليال( ] الفرقان: [.25/45الش يظن الناس أنه قد ذهب عهد الجهل والجنون والخرافات واألساطير، وأننا نعيش

في نور اإلسالم ونور الحضارة، أو نور القرآن ونور الحديث كما قال أمير الشعراءشوقي:

ة فما بالهم في حالك الظلمات ن }ر وس} بأيديهم نوران ذكأين نور اإلسالم؟ أين نور الحضارة؟ أين عصر األنوار؟

يظن الناس أنه لم يبق شيء يمكن اكتشافه، وليس هناك شيء قابل لالكتشاف،وإن كان هناك ما يمكن اكتشافه ؛ فال يمكن أن يكون شيئا يقلب المفاهيم واألفكار!!..

المجتمعات والتمركز حول الذات كيف كشفنا حقيقة حركة األرض؟ كم كان صعبا الوصول إلى معرفة طرف

األرض؟ كم كان صعبا أن نفهم أنها تدور؟ لقد صرت ألمح وأبصر إمكان كشف مشكلة اإلنسان، ورؤية األخطاء التي نرتكبها

في فهمنا حين نسعى لحل مشكلته، إنها أخطاء توازي وتشبه في مقدار خطئهااألخطاء التي وقعنا فيها حين كنا نظن أن الشمس تدور حولنا، وأننا مركز الكون. هل نستطيع أن نكشف في المشكلة اإلنسانية أن كل مجتمع يظن أنه مركز

الكون؟ وأن الناس جميعا ينبغي أن يدوروا حوله، وأنه إذا تمكن فسيفرض ذلك بالقوة [.7-96/6كال إن اإلنسان ليطغى أن رآه} استغنى( ] العلق: )واإلكراه:

إن من يظن أنه فوق العالم بانتمائه العرقي أو المذهبي الفكري. فوق العالم بذاته ال بما يقدم من خدمات ونفع لهم.. إن من يظن ذلك هو كمن يظن أن الشمس تدور

من حوله. إن حق النقض )الفيتو( مثل رائع وصارخ، فاقئ وفاقع، ويمكن فهمه بسهولة، ولو

لم يكن موجودا كسيف مسلط أمام أعيننا لتعبنا في كشف معنى مركزية األرض ومركزية المجتمع القوي.. أنا األقوى، إذن أنا مركز الكون، وأنا الحق، ومن رفض هذا

فليعتبر بما حدث لغاليليو الذي تاب ورجع عما كشفه من عدم مركزية األرض.جدلية العالقة بين االستكبار واالستضعاف

إن هذا القوي ليقول: انظروا ماذا حل بمن أنكر سلطاني!!.. ما قيمة نمرود الذي قال: أنا أحيي وأميت، إن سلطانه لم يكن يمتد إال إلى رقعة محدودة من العالم، أما أنا فمن هم الذين يمكنهم أن ينكروا امتيازاتي، وإذا وجد منهم فليجرب حظه معي،

Page 104: كـــن كابن آدم - Jawdat Said · Web viewكن كابن آدم المحتوى الموضوع الصفحة المحتوى المقدمة تمهيد: لغة الحروف ولغة

العالم جميعا في قبضتي، وفرعون الذي كان عظيما هو اليوم ذو حجم صغير جدا أمام( ] البقرة: )من يقول في عصرنا هذا: }ميت} }حيي وأ [، ولكن الناس من2/258أنا أ

حوله، والعالم جميعا، ينظرون إليه بعين الحسد، ال ليزول عن العالم هذا النظام، وال ليزول الفكر اإلنساني الذي أنتج هذا النظام، ولكن ليتحول األمر منه إليهم، ويصير

مقام االمتياز خاصا بهم دونه. كم يشتبه األمر بين من يعمل إلزالة الجدل القائم بين مستكبر يحتفظ باالمتيازات ومستضعف يتمنى أن يكون هو صاحب االمتيازات ؛ وبين من يسعى إلى التخلص من

االمتيازات جميعا؟؟!! ينبغي أن نعمل إلزالة االستكبار واالستضعاف من العالم، وإلزالة االمتيازات،

ولدعوة الناس إلى كلمة سواء. لقد جاء األنبياء بمبدأ يزيل اآلصار واألغالل عن المستكبر والمستضعف معا، ولكن

هذا المبدأ ال زال بعيدا عن إدراكنا وتصورنا، وال زلنا نشعر باألغالل التي تطوق المستضعف، وال نشعر باألغالل التي تطوق المستضعف، وحينما نبدأ باإلحساس بأن

المستكبر أيضا مثقل باألغالل التي على المستضعف، عند ذلك نفهم معنى ملة الكفرأو مجتمع الضالل من حذائه إلى غطاء رأسه.

ال بد من الخروج من لعبة االستكبار واالستضعاف، إلى مجتمع ال يشعر فيه اإلنسان بالمن إال بمقدار ما يحافظ على القانون، وبمقدار ما يسعى إلى أن ال يكون

أحد فوق العدل وكلمة السواء، ويستطيع اإلنسان أن يخرج من لعبة االستكبار بمفرده بقاعدة )ال طاعة في معصية(، وحين يفهم قانون لعبة االستكبار التي يتلقفها الناس ؛

}قذف في يخرج من هذه اللعبة وهذا القانون والنظام، ويكره العودة إليه كما يكره أن ي : » ثالث من كن فيه وجد حالوة اإليمان: أنالنار، ويفهم بشكل مختلف قول الرسول

يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء ال يحبه إال لله، وأن يكره ، ولكن هيهات(1)أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله كما يكره أن يقذف به في النار «

أن يدرك الناس الموضوع على هذا المستوى!!.. كم من الدوالرات، ومن األونصات الذهبية تساوي هذه المعرفة؟ كيف يكون شراؤها وتحصيلها؟ بل كم من أطنان الدماء ينبغي أن نصب في نهر الصراع بين

المستكبرين والمستضعفين ؛ حتى نقول: ينبغي أن نخرج من لعبة سفك الدم ونقبل.(2)السالم » وخيرهما الذي يبدأ صاحبه بالسالم «

المسلمون وصناعة السالم أنا أعلم تماما أن البدء بالسالم ممجوج ومحتقر ومنبوذ، وخارج عن العقل والعلم،

وهو الجنون األعظم، ولكن هل يمكن لنا أن نفكر، ولو للحظة، كيف سيكون وضع العالم اإلسالمي لو قبل المسلمون أن يعيشوا بسالم فيما بينهم، ولو آمنوا بأن خيرهم

من يبدأ بالسالم، وأنهم هم الذين ينبغي أن يصنعوا السالم وليس الله الذي في السماء؟ ألن الله الذي في السماء لن يصنع السالم بين المسلمين حتى يصنعوا في

أنفسهم عوامل السالم. إذا لم تتمكن من فهم هذا فاقرأ أو أعد قراءة القراءتين مرة أو مرتين حتى ال

تنسى، ألن النسيان مشكلة كبرى، ولذلك كان ال بد من الذكر والتذكر. لماذا يصرفنا الله عن طريق السالم؟ لماذا يجعلنا غير قادرين على رؤية طريق

السالم فيما بيننا؟ من هم الذين يصرفهم الله عن رؤية سبيل الرشاد؟ كيف يجعل اللهخذ}وه} سبيال، وإن يروا سبيل الغي)الناس في حالة الذين: شد ال يت وإن يروا سبيل الر

خذ}وه} سبيال( ] األعراف: [.7/146يت

Page 105: كـــن كابن آدم - Jawdat Said · Web viewكن كابن آدم المحتوى الموضوع الصفحة المحتوى المقدمة تمهيد: لغة الحروف ولغة

ألسنا نخاف من بعضنا أكثر من خوفنا من أشد أعدائنا؟ هل نرجو من أعدائنا أنينقذونا من بعضنا؟ أال ننسى أشد أعدائنا حين تستيقظ العداوات التي بيننا؟

لقد خ}دعنا من قبل سادتنا وكبرائنا حين كانوا يصمون آذاننا، ويلقنوننا أن عدونا هو الشيطان األكبر، هو إسرائيل، هو أمريكا، ولم يكونوا يدركون أن هؤالء ال يستطيعون

أن يعملوا شيئا بدون قبولنا ومساعدتنا، وبدون العداوات الموجودة بيننا. من ذا الذي يستطيع أن يتحدث عن مرضنا؟ بل من ذا الذي يستطيع أن يتعرف عليه؟ من ذا الذي يستطيع أن يفتح هذا الملف؟ ليراجع تاريخ هذا المرض وتطوراته

وعالماته. كيف نحلل هذا المرض؟ هل نرى الجرثوم الكامن والمختبئ؟ عند أي العتبات يبدأ

}هلك الحرث والنسل؟ كم مرة استيقظ كالمارد في بالنمو؟ متى يستيقظ كالمارد لي تاريخنا الماضي والحاضر؟ كم مرة أنفقنا، وكم مرة سننفق ما عندنا من غال ورخيص

إليقاف هذا المارد، ونستعين مثل تشرشل بالشيطان الشيوعي والرأسمالي لقتلهتلر؟

إن الحربين العالميتين األولى والثانية كانت مثالين للنزاع بين المستكبرين، وحربيالخليج األولى والثانية مثاالن على النزاع اإلسالمي اإلسالمي، والعربي العربي.

أين باستور الجراثيم التي ترفع درجات الحرارة في مناطق من العالم فيحدثالنزيف الذي يهلك الناس باآلالف المؤلفة؟

كيف نكشف أن أمريكا تقول: أنا ربكم األعلى، أنا أحيي وأميت بواسطة حقالنقض )الفيتو( المسلط على رقابنا؟

كيف نكشف أن هذا )الفيتو( سيزول كما زالت اإلمبراطورية التي لم تكن تغيب عنها الشمس؟ كيف نكشف أن أمراضنا أخطر من أمريكا، وأخطر من إسرائيل؟ التي

أشبهها بمنديل أحمر يحركه اآلخر أمامنا فنثور، كما يفعل مصارع الثيران حين يحرك منديله األحمر أمام الثور الذي يظن أن المنديل األحمر هو عدوه فينقض عليه بينما

عدوه الحقيقي يغرس سهامه عليه من الخلف!!.. أنا أحاول أن ألفت األنظار إلى بعض السنن التاريخية المجهولة والمخبأة بشكل

محكم، حيث إننا صنعنا في أذهاننا صورا للعالم، ووضعنا أحكاما خرافية ألبسناها حلال مثالية من الله، ورسوله، والذين خولناهم حق التفسير والنطق باسم الله

والمقدسات. أين الرشد؟ كيف سنتبين الرشد من الغي؟ كيف سنجعل سلوك سبيل الرشد

ممكنا؟ كيف سنجعل سلوك سبيل الغي مكروها؟}م)كيف سنقرأ، وفق طريقة القراءتين اإللهية والبشرية، قوله تعالى: ب إليك حب

}ولئك ه}م }فر والف}س}وق والعصيان، أ }م الك ه إليك }م، وكر }وبك نه} في ق}ل اإليمان وزياشد}ون( ] الحجرات: [؟49/7الر

الرشد وهدف الوجود: نحن الذين سنقوم بتزيين الرشد في القلوب، ونحن الذين سنجعل الكفر

والفسوق والعصيان وسلوك سبيل الغي مكروها في القلوب، ومذموما على األلسنة. أين أهل البيان؟ أين محللو النفس؟ أين جواسيس القلوب - كما يقول بعضهم عن الصوفية -؟ أين أطباء تغيير ما باألنفس؟ أين الشباب األذكياء الذين يدرسون هذا النوع من طب القلوب؟ كيف سنزين الرشد في نفوسهم؟ في أي جامعة وأي كلية يمكن أن

}تعلم هذا العلم ويعثر على هذا الفهم؟ ي

Page 106: كـــن كابن آدم - Jawdat Said · Web viewكن كابن آدم المحتوى الموضوع الصفحة المحتوى المقدمة تمهيد: لغة الحروف ولغة

إنه موجود، إنه هدف العالم، وهدف الوجود، وهو مكان امتحان واختبار ذكاء :اإلنسان. إنه ممكن، اصدق في طلبه، وسيصدقك الله في العثور عليه، وتذكر قوله

.(1)» أما هذا فقد صدق الله فصدقه الله « هل في قدرتي أن أكشف هذا المخبأ؟ هل يمكن أن أعيد اكتشاف سبيل الرشد؟ يقولون: إن الشعراء لديهم قدرة على تزيين األمور، وأنهم يقولون ما ال يفعلون، وفي

كل واد يهيمون، ولكن لماذا ح}رم شعراؤنا من أن يقولوا ما ال يفعلون؟ لماذا ح}رم عليهم القول وتزيين األشياء التي ال يفهمونها؟ لم ص}رف شعراؤنا عن قول الرشد،

وإن كانوا ال يسلكون سبيله؟ حين كنا صغارا في القرية، كانت بعض الدواب تضل سبيل العودة إلى منازل

أصحابها في المساء، وكان أصحابها يخشون عليها من الذئاب المفترسة، وكان في القرية أناس يعقدون تعويذة لربط أفواه الذئاب كي ال تأكل الدابة الضالة، ولهذه

التعويذة أقوال وأفعال مختلفة: آيات قرآنية، أبيات شعرية، كلمات حكيمة، دعوات خالصة، ربط سكاكين أو مالقط النار أو المكانس. المهم أن يقال شيء، ويفعل شيء،

ويوحي بشيء، كل هذه األشياء يقصدون منها أن تربط أفواه الذئاب، ولم يكونوا ينسون أن يفكوا التعويذة حين يعثرون على ضالتهم، حتى ال تبقى الوحوش أو الذئاب

مربوطة األفواه فتهلك جوعا. كان هذا بالنسبة ألفواه الذئاب، ولكن من الذي ربط أفواه شعرائنا؟ ومن الذي

ربط أذهانهم وعقولهم حتى عن التفكير في سبيل الرشاد، وعن تبيين الرشد منالغي؟

}شترط في الشاعر أن يكون مفكرا، كما ال يشترط أن يكون المفكر شاعرا، ال ي ولكن هناك تعويذة نحيكها حول أنفسنا، حول شعرائنا وكتابنا ومفكرينا ؛ كي ال تفكر

عقولهم، وال تبصر أعينهم، وال تسمع آذانهم، فكيف تنطق األلسن وقد ربطت العقولبطت بأقوى من الحبال التي ربطت بها النجوم إلى صم عن الحركة والفكر؟ ور}

الجنادل، مما جعل ليل امرئ القيس طويال وغير قابل للزوال. كيف حرمنا شعراءنا حتى من الخيال؟ أين سبيل الرشد؟ في أي مكان أفلت منا حبل سبيل الرشد والرشاد والراشدين؟ متى كان ذلك؟ كيف سقط منا؟ كيف دخل الرشد إلى حياتنا أول مرة، وكيف خرج منها، وكم من الوقت لبث عندنا؟ كم وكيف

يئسنا منه؟ هل كان مجيئه بطريق سحري خارق متعال ال يمكن إدراك بدء خلقه ومراحل نموه؟ هل ولد ومشى على قدميه ورآه الناس وتحدثوا إليه؟ هل يتذكره

المتذكرون؟اإلنسان وقانون التضاد

قبل الحديث عن الرشد والغي، ينبغي أن نبحث في اإلنسان القابل للتزكية ونفس وما سواها،)والتدسية، للرشاد والغواية، لإليمان والكفر، للهداية والضالل:

[.8-91/7فألهمها ف}ج}ورها وتقواها( ] الشمس: }ل)إن هذه الطبيعة، أو هذا اإللهام إلهي علوي، فاعله هو الله تعالى: ذي أعطى ك ال

}م هدى( ] طه: [، هذا الصنع واإللهام اإللهي مزدوج الطبيعة،20/50شيء خلقه} ث مزدوج االتجاه كما يقول المفكر المعاصر المبدع، الفيلسوف المهتدي إلى شيء لم

الذي اهتدى إلى قانون الحركة(1)يهتد إليه أحد من قبل، حسب علمي، محمد عنبر في الوجود، وقانون التضاد في الشيء الواحد، ولكن باتجاهين اثنين، فكلمة رشد يكون ضدها في قراءتها إدبارا كما ق}رئت إقباال، فتكون )دشر(، وكثيرا ما يستشهد

ببيت امرئ القيس حين وصف فرسه قائال:

Page 107: كـــن كابن آدم - Jawdat Said · Web viewكن كابن آدم المحتوى الموضوع الصفحة المحتوى المقدمة تمهيد: لغة الحروف ولغة

مكر مفر مقبل مدبر معا كجلمود صخر حطه السيل من عل إذا قرأت مادة )ر ش د( إقباال كان معناها التقيد والهداية واإلشراط، وإذا قرأتها

إدبارا تحول معناها إلى ضده )دشر(، التي تعني االنفالت والضالل والتسيب وعدماإلشراط وعدم التقيد.

وفي فلسفته أن الوجود مزدوج في الحركة بين المد والجزر، فمن طبيعة حرف الراء في النطق االمتداد واالستطالة، ومن طبيعة حرف الدال في النطق التوقف

والحصر واالنجزار، انطق بالراء والدال، وستحس بذلك في فمك ورئتيك، ولهذا فإن المعنى في كشفه الفلسفي ال يمكن أن يكون اعتباطيا، وعلى هذا فإن الوجود كله، ال

اعتباط فيه، وضد الرشاد هو الدشار والتسيب في السير، والضالل في المسعى.النفس اإلنسانية بين الفجور والتقوى

قبل الحديث عن الرشد والغي ينبغي أن نتحدث عن النفس الملهمة وعن الفجور والتقوى، وهذا هو العمل اإللهي، وإبداع مبدع الوجود. إن نسبة أحدهما إلى الله تعالى

دون اآلخر خروج من نظام وسنة وقانون الخلق اإللهي، ولكن كم من الضالل يحدث في فهم هذا الموضوع؟ سواء عند بعض الناس العاديين، أو عند بعض العلماء الكبار

المعروفين الذين يسوون، بسبب هذه الشبهة، بين الفجور والتقوى، وبين الكفرواإليمان، وبين موسى وفرعون، وبين الحسنة والسيئة.

إن الحسنة والسيئة والفجور والتقوى، كل هذا من الله، من حيث اإللهام والخلق، ولكن جعل هذه النفس الملهمة للفجور والتقوى فاجرة أو متقية، هو مهمة اإلنسان،

هو وظيفة المجتمع واألفراد المبدعين في الفهم واإلدراك، وظيفة المجتمع الذي عليهأن يعمم ويبلغ اإلبداع وال يكتمه وال يقمعه وال يعارضه، هذه هي عالقة الفرد والمجتمع.

أشعر أننا بحاجة إلى العودة للقراءتين كثيرا كثيرا، ألننا، وإن كنا نسلم بوجود القراءتين عند البحث والتدقيق، فإننا نصاب باالشتباه والضالل حين نسمع السؤال

الدائم المستمر، الذي يوجهه العوام: هل الهداية والضالل من الله أم من اإلنسان؟ئلت هذا السؤال من كل أصناف الناس، وهذا السؤال موضع حيرة طالما س}

}وصل الفالسفة إلى الحيرة والعدمية، وإن كان يسيرا على من العلماء، وكثيرا ما ييسره الله عليه..

ونفس وما سواها، فألهمها ف}ج}ورها وتقواها)ينبغي أن نكثر من قراءة قوله تعالى: اها )وهذا هو عمل اإلنسان( اها، وقد خاب من دس )هذا هو عمل الله(، قد أفلح من زك

[.10-91/7] الشمس: }عد إليها المعنى الجدي، لتكن هذه اآلية أنشودة على كل فم، وعلى كل لسان، فلن

}بين كيف يقوم الناس بالتزكية والتدسية، بوعي وبغير وعي، ونستطيع أن نكشف ولن الذي يحدث بغير وعي ونجعله تحت تصرف الوعي، وأن نختزل ما تعبت فيه البشرية

قاطبة، خالل تاريخها الطويل، في سنوات قليلة من حياة الطفل، حتى قبل أن يبدأبالنطق، فضال عن أن يبدأ بالكتابة.

هذا ما نتعب فيه اآلن، ألننا نريد أن نغير أشياء مما بنفس اإلنسان من الفسادوسفك الدماء، أشياء ظن الناس أنهم ال يمكن أن يعيشوا بدونها.

لقد ظنوا أنهم ال يمكن أن يعيشوا دون سفك للدماء، حتى إن السؤال الذي أواجهبه، والذي يدور على كل لسان هو: أين أنت من بدر وأحد وحنين؟

إنهم ال يفهمون بدرا وحنينا إال كما يفهمون داحس والغبراء وحرب البسوس. لقد شوهوا القضية حين ظنوا أن بدرا وحنينا مثل حربي الخليج األولى والثانية،

وهم ال يفرقون بين الجرح الذي يفتحه الطبيب إلجراء عملية جراحية، وبين جرح يفتحههب. مجرم غبي يسعى للقتل والن

Page 108: كـــن كابن آدم - Jawdat Said · Web viewكن كابن آدم المحتوى الموضوع الصفحة المحتوى المقدمة تمهيد: لغة الحروف ولغة

إن كنت ال تفهم الموضوع إال كما يفهمه هؤالء ؛ فارجع إلى جاهليتك وإلى شريعة، ولن يمل الله حتى تملوا وتفرقوا الغاب، واهنأ بالعيش فيها، وأعد مآسيها حتى تمل

بين المجاهد والخارج.ما اشد التباس األمور!!..

هذا ما أسعى لبيانه، وسأظل أسعى لبيانه وتوضيحه، وسأبدئ وأعيد، وإني على يقين من إمكان الوصول إلى الطريق األقرب رشدا، وإني ألطمع بأن أزيل االلتباس،

شد} من الغي( ] البقرة: )وأبين الرشد من الغي، وأبين معنى ن الر [، وال2/256قد تبي}بين الرشد من الغي إال إذا عرفنا كيفية التباسه به. يمكن أن ن

األنبياء وحرمة النفس اإلنسانية سل من شئت عن الفرق بين المجاهدين والخوارج، واسأل من شئت عن شروط

الجهاد، اسأله من هو الذي يجوز لنا أن نقتله، وما شروط الجواز، ومن الذي يقومبالقتل، وما شروطه أيضا …

ما شرط المجاهد وما شرط المجاهد؟ حتى يكون القتال جهادا ال قتاال تحت رايةعمية.

عليك صالة الله وسالمه يا سيدي يا رسول الله يوم قلت: » من قاتل تحت رايةة فقتلته جاهلية « .(1)عمي

متى نبدأ بإعادة النظر في هذا الموضوع الخطير؟ متى نتساءل؟ متى نسأل عن الظروف التي يجوز فيها قتل النفس التي حرم الله؟ متى تكون النفس محرمة، ومتى

تكون مباحة، ومن الذي يباح له قتلها؟؟ ، في حجة الوداع، من أن نعود بعده كفارا ضالال يضربلماذا حذرنا رسول الله

بعضنا رقاب بعض؟ إن الغضب، وظلم بعضنا لبعض، واألحقاد المتراكمة في نفوسنا، كل ذلك أعجزنا

عن أن نفكر، فات أوان التفكير ألننا مشغولون باالشتباكات الساخنة والباردة التي تدور بيننا. ولكن ال بد من التفكير في هذا الموضوع الذي سأظل أبحثه كمنقب اآلثار

الذي يزيل األتربة وأكوام النفايات التي تراكمت على ما جاء به األنبياء، لنعيد إليهالحياة.

إن أكثر الناس اليوم يظنون أن عهد األنبياء قد ولى، وفات عصر األسطورة، أما الذين ال يزالون يؤمنون باألنبياء، فإنهم يشعرون باليأس من إمكان إعادة ما جاء من

أجله األنبياء، وينتظرون الخارق المهدي، وال يحاولون إعادة ما جاء به األنبياء،باألسلوب نفسه الذي جاؤوا به.

ال إكراه في)إنني أتحدث عن الرشد والغي، وأنهما مجموعان في قوله تعالى: الدين(، فاإلكراه هو الغي سواء في الدين أو في السياسة، والالإكراه هو الرشد، ومن

يؤمن بالله الذي أمر بالالإكراه وبالرشد، ويكفر بالطاغوت الذي هو اإلكراه والغي، فقداستمسك بالعروة الوثقى ال انفصام لها.

ال)إن هدفي من ذلك كله هو أن أعيد القداسة والتقديس والمعنى واالهتمام إلى إكراه في الدين(، وأن أزيل عنها باإلبهام وااللتباس والغموض، وأن أخرج من القلوب

اإلكراه والكراهية التي تولد الغل في القلوب، وأغرس مكانه الحب والتحبب الذيك رء}وف رحيم( ] الحشر:)يزيل الغل: نا إن }وا رب ذين آمن لل }وبنا غال وال تجعل في ق}ل

59/10.] إن أمورنا معقدة جدا، وثقافتنا تحولت إلى اإلكراه في السياسة، وال قدرة لنا علىالتخلص منه، ألننا نسلك طريق الغي، وألننا لم نعد نشعر بإمكان سلوك طريق غيره.

بناء الرشد بالرشد:

Page 109: كـــن كابن آدم - Jawdat Said · Web viewكن كابن آدم المحتوى الموضوع الصفحة المحتوى المقدمة تمهيد: لغة الحروف ولغة

لقد صار االهتداء إلى سبيل الرشد مستحيال، ودليل ذلك تجارب ما بعد الراشدينإلى يومنا هذا.

أليس في التاريخ عبرة؟ أليس عجيبا أال يخرج منا رجل رشيد، وأن ال يخرج حتى من يبحث عن سبيل الرشد أو من يتساءل: كيف نعيد الرشد؟ لقد صار الرشد عندنا

جنونا، ألن الرشد ال يصنع اإلكراه، بل يصنع بتحدي اإلكراه بالالإكراه، بتحدي بالل وابن}وا بالله العزيز الحميد( ] البروج: )آدم، بتحدي }ؤمن أن ي [.85/8وما نقم}وا منه}م إال

نحن ال نريد أن نموت بطريق الرشد، نحن ال نريد أن نقابل الغي بالرشد ؛ ولكن نريد أن نقابل الغي بالغي أو الرشد بالغي، وهكذا ضيعنا الرشد، واستمر حالنا على

اإليمان بالغي واإلصرار على مقابلة الغي بالغي، واعتبرنا أن مقابلة الغي بالرشد هو طريق الجنون، والمفارقة الغريبة هي أننا توهمنا أن باإلمكان صناعة الرشد بالغي. ال بل المفارقة األخفى واألكثر طفولية وضالال، هو أننا ظننا أن غينا هو الرشد، وأن غي

اآلخر فقط هو الغي. يا من له قدرة على التأمل والتدبر!! تأمل هذه النقطة وتدبرها، وانظر كيف

ن لك سوء عملك فتراه حسنا، يتسلل الغي إليك في صورة الرشد، انظر كيف يزياحذر يا من ال قدرة له على التمييز بين الحسنة والسيئة، وبين الرشد والغي.

هل يمكن أن يخطر في بالك إلى أي درجة التبس الرشد بالغي، بينما يقول تعالى:شد} من الغي(؟) ن الر قد تبي

شد من الغي؟ هل لدينا القدرة على إنه يؤكد أن الرشد قد تبين، فهل تبين لنا الر سلوك سبيل الرشد؟ هل أصبنا بعجز مفرط وفظيع، وببعد شديد عن سلوك سبيل

الرشد؟ إن لدينا شهوة كبيرة، سواء أمكن تحقيقها أم لم يمكن، لسلوك طريق الغي

واتخاذه سبيال، ارجع إلى قلبك، وأعد النظر فيه، وال تغرنك كثرة سالكي سبيل الغي،وال تستخفنك قلة السالكين إليه أو الهاجرين له بتاتا.

أليس جديرا بنا أن نتوقف طويال لنتأمل سبيل الرشد وسبيل الغي؟ أليس واجباعلينا أن نعيد القول فيه ونكرر؟

أحيانا أقوم بتجربة، وهي أنني أعرض طريقا وسبيال نستطيع بها أن نحل مشكالتنا من غير أن يخسر أحد شيئا، ويربح الجميع، وأؤكد على أنه سبيل ال يخسر فيه ملك أو زعيم أو صاحب مال أو صاحب أرض، وال يكون فيه نزاع مسلح على حدود، وأقول: ال توجد مشكلة تستعصي على الحل السلمي، ولكنني ما عرضت هذا األسلوب مرة إال

فض األسلوب السلمي الذي ال يخسر معه أحد من الطرفين شيئا، ال ماال، وال ورفض، ر} شرفا، وال أرضا، وال غير ذلك من األمور المادية والمعنوية التي يمكن عدها وإحصاؤها، رفض األسلوب الذي يربح معه الجميع، ويكسبون اإلعجاب من المحبين، والتقدير من

غير المحبين. هل الدعوة إلى هذا األسلوب دعوة إلى الغي أو إلى الرشد؟ أليس رفض مثل

هذه الدعوة، وعدم القدرة على تصورها، رفض للرشد وقبول بالغي؟الفصل السادس

في دالالت آية الوحدة األوربية ليس غير المثل الواقعي مقربا لهذا الموضوع إلى الفهم، وسأضرب المثل الذي

أذكره وأكرره وأعيد، وأرجو من كل الذين يقرؤونه أن يتأملوه جيدا، وأن يتبينوا ما فيه من رشد، وإذا كان بإمكانهم أن يأتوا بمثل أفضل من هذا للتوضيح، فأرجوهم أن يبذلوا

جهودهم لإلكثار من األمثلة، والمساعدة في البيان واإليضاح، ألن مرضنا الذي يتحداناهو الغموض وااللتباس.

Page 110: كـــن كابن آدم - Jawdat Said · Web viewكن كابن آدم المحتوى الموضوع الصفحة المحتوى المقدمة تمهيد: لغة الحروف ولغة

التاريخ يزيل االلتباس أريد أن أعرض مثال، وإذا قبلناه، فسنحاول جهدنا في شرحه والتفكير فيه مع

اآلخرين، وربما يكون الطريق الذي نريد أن نسلكه صعبا، كما كان في السابق، وربما يكون ملتبسا، وربما تراه غير ممكن، ولكن التاريخ يقدم لنا أمثلة أدعى للفهم وإزالة

االلتباس. وإنني حين أعظم التاريخ، وأجعله المرجع والمرجعية العظمى واألخيرة، فما ذلك

إال ألنه مصدر زوال االلتباس، وألنني أشعر أن اللجوء إلى التاريخ هو الذي يحيي أسلوب القرآن في التربية واإلفهام وتقديم المثالت واالعتبار بصنع الله في التاريخ

}م هدى( ] طه: )وإبداعه في خلقه: }ل شيء خلقه} ث ذي أعطى ك [، فهو الذي20/50الهدى البشر بالعبر والنظر والتأمل.

ينبغي أن أعيد إلى المقدس قداسته، إن التاريخ هو مصدر معرفة الزبد الذي يذهب جفاء، والنافع الذي يمكث في األرض، ومهما تجاهله المتجاهلون، فإن الذين}نسخون رغما عنهم، وسيجبرون على القبول به يتجاهلونه هم الذين يذهبون جفاء وي صاغرين، وميزة الذي يقبله هو أنه يختصر الزمن ويقلل الخسارة عن طريق قبول

األنفع وترك ونبذ الزبد والضرر. والمثل الذي سأضربه لك، وإن كنت تسمع به كثيرا، لكن احدا لم يقل لك إن فيه عبرة وتاريخا ونفعا وتجنبا لطريق الغي واهتداء لطريق الرشد، وإنني - وإن لم أقل -:

إنه الرشد وال مزيد عليه، إنه غير قابل للزيادة في الرشد، فإنني أقول: إنه بال شك أقرب للرشد والنفع، بل إنني سأقول أكثر من هذا، سأقول ما لم تسمعه من قبل: إن

ماوات)هذا المثل الذي أسوقه مثل األمثلة التي يقول الله عنها: ن من آية في الس وكأيون عليها وه}م عنها م}عرض}ون( ] يوسف: [.12/105واألرض يم}ر

التأمل في اآليات التاريخية أريد أن اقف عند هذه اآلية التاريخية، ال أريد أن أعرض عنها، سأقف عندها

وأرفض الذين يتجاوزونها، والذين ال يقدرونها، وأنا على علم بأن هذا الحدث غريب وجديد في تاريخ العالم كله، فكيف ال أقف عنده، وكيف ال أهتم به؟!! وأنا الذي

تفحصت عبر التاريخ وأحداثه فلم أر فيه حدثا مثل هذا الحدث حدثا راسخ األصل، واضح المنطلقات، يقوم به أصحابه عن وعي وإدراك وأرضية عظيمة من الخبرات

والعبر التاريخية واألثمان الباهظة التي دفعوها حتى وصلوا إليه. وإذا كنت أيها القارئ، ال تعطي قيمة لهذا الحدث، ولم تر أحدا أعطاه قيمة، فال

تظنن أنه ال قيمة له، فعدم تقديرك لهذا الحدث دليل على أنك قليل المعرفة بأحداث التاريخ، وقليل الخبرة بالنافع والضار، وغائب عن العالم وأحداثه، وال تميز البضاعة

الجيدة من البضاعة الرديئة، وال تميز الرشد من الغي، وال قدرة لك على رؤية الرشدوالغي، ولم يتبين لك الرشد من الغي.

تقبل الحسنات ورفض السيئات: إن هذا المثل التاريخي البشري، الذي لم يحدث مثله منذ أن ولد البشر، هو

السوق األوربية المشتركة، أو ما يعرف بهذا االسم، وما صار يعرف باالتحاد األوربي. قد تسخر مني حين أفاجئك بهذا التقدير واإلعجاب والتفخيم، ال حرج في ذلك،

اسخر مني وزد في سخريتك واحتقارك لي، اعتبرني أسيرا للحضارة الغربية وللغزوالثقافي الكافر.

لو كنت ال أعلم وضعك، أيها الخ الساخر مني، مقدار علمك ومبلغ فهمك والمقدار الذي ينبغي أن أعوله عليك في فهم الخطأ والصواب، لو كنت ال أعلم هذا لما

Page 111: كـــن كابن آدم - Jawdat Said · Web viewكن كابن آدم المحتوى الموضوع الصفحة المحتوى المقدمة تمهيد: لغة الحروف ولغة

استطعت أن أواجهك، ولكنت} مثل اآلخرين الصامتين الذين ال يعرفون ما يحدث فيالعالم، وإذا علموا ال يستطيعون أن يواجهوا الذين ال يفرقون بين الخطأ والصواب.

إنني أميز الذين يتعاملون مع األمور على أساس الحب والكره، لقد جربناهم طويالفلم نجد منهم طائال.

إن الذي يقبل األمر أو يرفضه على أساس الحب والكره ال يمكن له أن يميز النافع من الضار، ولهذا نجد أن الذين يقبلون على أساس الحب يقبلون كل شيء من

لمحبوب، هذا في الظاهر، ولكنهم في الواقع ال يقبلون إال الضار، إنهم ال يستطيعون أن يقبلوا النافع، ويقبلون بالضار، وكذلك الذين يرفضون اآلخر على أساس الكراهية،

إنهم يرفضونه ويردونه دنسا حقيرا، وال يتمكنون من رؤية النافع والضار، وحتى إن رأوانافعا ال يستطيعون أن يأخذوه منه، ولكنهم يتوقون إلى الضار ويأخذونه منه.

إن موقف االختيار صعب، الرفض الكلي سهل، وكذلك القبول الكلي، أما التمييز والقدرة على األخذ والرد من كال الطرفين فهذا صعب جدا، صعب جدا أن تقدر على

أن تتقبل أحسن ما عملوا وتتجاوز عن سيئاتهم.الغفلة والعذاب األليم

إن غياب المميزين، وكثرة الهالكين، جعلنا حيارى يائسين، ولكن التاريخ يعلمنا ويؤدبنا بالمطالبة بالفواتير الباهظة جزاء غفلتنا، وما حرب الخليج عنا ببعيد!! صحيح أن

السياسي واألخالقي يقفان منها موقف اإلدانة واألسى، ولكن عالم االجتماع والتاريخ يكون له نظر آخر، ربما يبصر في الفساد والخراب فيرى في أعماقه ما يساعده على

التخلص منه.لعة مجانا؟ إنه ال يقدر تلك السلعة، وال يستطيع أن يأخذها كيف يأخذ إنسان الس

بحق إال من دفعه ثمنها، ولكن التاريخ ليس مثل التاجر، إنه يقدم العبرة مجانا إذا أردت}رغم على شرائها ودفع أن تستفيد منه، أما إذا رفضت أن تأخذها مجانا باالعتبار، فست

ثمنها الغالي. خذها مجانا، فإنه يكفي أن تدفع ثمنها مرة واحدة، ال تشتر السلعة مرتين،.(1)والمؤمن ال يشتري السلعة مرتين: » ال يلدغ المؤمن من حجر واحد مرتين «

إن حربا خليجية واحدة، تمكننا من رؤية جميع الحروب الخليجية، القديمة والحديثة،إنها تتراكم لنأخذ منها العبرة.

لقد جددت المآسي الحديثة المآسي القديمة، ولكن المأساة الحديثة كانت مؤلمة جدا، فالطعنة دخلت إلى األعماق، ووصلت إلى األعصاب، وهشمت الجمجمة، وطحنت

الدماغ، وزلزلت الجلود، والناس في حرب الخليج تركوا أعمالهم، وانصرفوا عن األشياء المسلية، صغارا وكبارا، نساء ورجاال، قادة ومقودين، وجلسوا يسمعون األخبار

وينظرون إلى األحداث، وليست آثار هذه الحرب هي ما تحدث به الجانبان. لقد حطمت عالمنا القديم الساكن، وجعلت الناس قادرين على المراجعة أكثر من ذي قبل، وتهاوت مقدسات كثيرة كنا نلف بها أقذارنا، وشعرنا بأننا جميعا ملوثون، لم

يبق لعالم على جاهل، لقد استوى الجميع في الحيرة واالندهاش. إن العاصفة الماطرة تأتي وتقتلع أشياء كثيرة، ولكن الماء يأخذ سبيله في

مسالكه، وينبع بعد ذلك ماء يبعث الحياة من الموات. إنني ال أتفاءل كثيرا، وال أنكر حجم تلك المأساة المروعة، ولكنني متأكد من أننا

تقدمنا، وأن األساس الذي نقف عليه للبناء صار أمتن، وأحداث التاريخ، وإن كانتتشتمل على المآسي، لكنها تشتمل على المبشرات أيضا.

التراث األوربي والسوق المشتركة

Page 112: كـــن كابن آدم - Jawdat Said · Web viewكن كابن آدم المحتوى الموضوع الصفحة المحتوى المقدمة تمهيد: لغة الحروف ولغة

لقد عبروا عنها بالسوق، بالتجارة، بالربح والخسارة، ألن وراءهم تجارب حروب المئة عام، وحروب الثالثين عاما، وراءهم الحروب الدينية والمذهبية، وإذا كان وراءنا

حربان خليجيان ؛ فإن وراء التعاون األوربي حربين عالميتين، ومئات الماليين منالضحايا.

لم تأت السوق األوربية لقمة سائغة من السماء، بل نبتت من بين الخرابوالدمار.

ينبغي أن نكتب عنها الكتب، وأن يتنافس في تحليلها وتصويرها وتأملها المتنافسون، كي نعرف بدايتها ووضعها الحالي، والمآل الذي يعملون لتحقيقه في

المستقبل، والذي ال يمكن التكهن بنهايته. سابقا أرادوا أن يصنعوا الوحدة باإلكراه، بالغي، بالقوة، وظهر فيهم طواغيت من

أمثال نابليون وهتلر الذين كانوا مثل عاد وثمود وفرعون ونمرود، فأهلكوا الحرث} في الجزر النائية، والثاني مات والنسل، ولم يصلوا إلى بغيتهم، األول مات منفيا

منتحرا، وأحرق نفسه بيده، قبل أن يمسك به أعداؤه، ولسان حاله يعيد قول الزباء: »ذين ظلم}وا أي)بيدي ال بيد عمرو «. بقي هذان المثاالن عبرة لمن يعتبر: وسيعلم} ال

}ون( ] الشعراء: [.26/227م}نقلب ينقلب إن في ذلك لذكرى لمن كان)أين المتوسمون؟ أين المتفرسون؟ أين المتدبرون؟

مع وه}و شهيد( ] ق: [.50/37له} قلب أو ألقى الس لقد تعب األوربيون، ودفعوا الثمن غاليا، وكم سلكوا طريق اإلكراه، وسبيل

الغي؟!! وكم خضعوا للطاغوت؟!! ولكنهم من اإلكراه تبينوا كيف يكون الالإكراه، ومن سلوك سبيل الغي تبينوا كيف يسلكون سبيل الرشد والرشاد، ومن الدمار الذي يجلبه

الطواغيت تعلموا كيف يرجعون إلى كلمة السواء، وكيف ال يتخذ بعضهم بعضا أربابا. ما قصة كلمة السواء؟ ما قصة أن يكون الناس أتباعا للطاغوت، يستخفهم

فيطيعونه؟! إن لكلمة السواء قصة في تاريخنا، مسجلة في الرسائل التي أرسلها خاتم الرسل

)إلى زعماء العالم آنذاك: }د إال }م ؛ أال نعب يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكخذ بعض}نا بعضا أربابا من د}ون الله( ] آل عمران: [. 3/64الله، وال يت

سنعود إلى قصة كلمة السواء، ولكننا اآلن سنتابع الحديث عن السوق األوربية المشتركة، وال تنس أنني قلت لك أنك ستأخذ من هذا المثل طيقا إلمكان رؤية جديدة، إليجاد حل للمشكالت دون إكراه، وبدون غي، ودون بغي، حل ال يخسر معه أحد ويربح}زاد ملكهم جميعا، الجميع، وال يحتاج أحد ألن يخسر شيئا، ال ماال وال ملكا وال مكانة، وي

وترتقي مكانتهم في الداخل والخارج، عند األنا وعند اآلخر … هذا الحدث ال يحدث في اآلخرة، وال في الميتافيزيقيا، وال في السماء، هذا الحدث

يحدث في األرض تحت أسماعنا وأبصارنا، ولكن هل نسيت ما ق}لته لك سابقا؟السعي الدؤوب لتحقيق الهدف

لعلك لم تأخذ كالمي مأخذ الجد، ربما ظننت أنني أستخف بك، أو أنني أريد أن أسليك وأداعب خيالك، ال ليس هذا مقصدي، مقصدي شيء كبير، إنني أريد أن أبني عالما جديدا، وأريد أن أقول لك: إن أدوات البناء كلها صارت جاهزة، ولم يبق إال أن

تلقي السمع وأنت شهيد. ولكن، كيف نعيد لألسماع واألبصار قدرتها على السماع والرؤية؟ هذه هي

المشكلة التي نبهنا القرآن إليها، حين أخبر أن اإلنسان قد يصل إلى حالة ال قدرة لهمعها على اإلبصار واإلدراك والفهم.

Page 113: كـــن كابن آدم - Jawdat Said · Web viewكن كابن آدم المحتوى الموضوع الصفحة المحتوى المقدمة تمهيد: لغة الحروف ولغة

ال تيأس، هذا حق وواقع، لكن هذه الحالة ليست دائمة، وال أبدية، كما أن حدوثها ليس حتميا، قد أعجز أنا، وقد يعجز اآلخر عن تقديم ما يكفي من المكافآت والعذابات، من البينات والمثالت، ولكن الله غالب على أمره، ونحن سنبذل الجهد، ونمهد الطريق

إلعادة الحياة إلى العيون، وإزالة الصمم من اآلذان، هو واقع، ولكنه قابل للزوال: ما أنزل الله من داء إال وانزل له دواء عرفه من عرفه، وجهله من جهله، وشفاء العي

السؤال، ودواء الجهل العلم، فال تحقرن من جهدك شيئا. إنني أكتب هذه الكلمات وأنا انظر من النافذة إلى السماء الزرقاء، أنا اآلن وحدي،

أخاطبك وأنا غائب عنك، وأجالسك وأنا بعيد عنك، ولكننا سنتعاون لالقتراب من فهم}دفن معي، أريدها أفضل، وسأبثك ما أحمل في نفسي من قلق، ال أريد لمشاعري أن ت

أن تبقى بعدي …كم تعب الناس ممن كان قبلك لترتاح؟! كم علينا أن نتعب كي يرتاح من بعدنا؟!

علينا أن نشتاق إلى الذين سيأتون بعدنا، وعلينا أن نعيش معهم أيضا، علينا أن نحمل هم العالم على ظهرنا، وأن نفعل ذلك ونحن نشعر بالقبول والرضا والسرور

بالجهود الصغيرة، البالغة الصغر، التي نبذلها فيما بيننا، مع أهلنا في البيت، ومع جيراننا في الحي، ومع كل الذين نستطيع أن نسمعهم صوتنا، والذين يمكن لهم أن يقرؤوا

كتاباتنا. ينبغي أن نبذل جميعا جهودا لتضاف إلى الجهود التي بذلت من قبل، والجهود التي

يبذلها اآلن أناس ال نعرفهم، وال نعلم عنهم شيئا، وال يعلمون شيئا عنا، ولكن جهودناستلتقي، ستلتقي هناك، وستصنع عالما جديدا.

كان جالل الدين الرومي شاعرا، وكان صاحب رؤية للنفس اإلنسانية وللعالم، كان يريد من كتاباته تأدية أمانة يراها، فكتب المثنوي، كتبه وهو يريد أن يقلب به رؤية

العالم كله، كتبه شعرا وقصة وتحليال ونكتة وخواطر وتيها ولفا ودورانا، كان يكثر من االستطراد، لكنه كان لينا وخفيفا وماهرا في اللمس، اقرأه، وستعلم أن أناسا كثيرين عاشوا قبلنا، وعملوا كثيرا، ال تظنن أن الرومي ال يؤثر فيك، ألنك لم تقرأه ولو تعش معه، ولم تسمع به، إنك تعيش محموال على المركب الذي ساهموا في بنائه، أنت يا

}ني محمول: }خي ويا ب }فر()أ }ننا، جزاء لمن كان ك ر، تجري بأعي على ذات ألواح ود}س} [.14-54/13] القمر:

أنت ال تعلم مقدار التأثير الذي أحدثه محمد إقبال في هذا العالم الذي نعيش فيه،ومقدار التأثير الذي سيحدثه في المستقبل.

إنك ال تعلم مقدار الجهد الذي بذله حتى شق أنينه عنان السماء. أنا ألف وأدور، أزمزم وأدمدم، وحالي أشبه ما يكون بحال ذاك األعرابي الذي

قال: » أنا ال أحسن دندنتك وال دندنة معاذ «، وكنني مع ذلك سألف وأدور، سأدندن}أذن حولك، سأزعجك وأوقظ ليلك بأذاني، مهما كان صوتي منفرا ونشازا. وأ

الفجر الجديد وكلمة السواء أريد أن أوقظ نفسي، وأطمع أيضا في أن ألفت انتباه بعض من حولي، إلى حقيقة

أن العالم يتقدم نحو فجر جديد قريب، فلنستيقظ ولنتجهز له قبل أن يباغتنا. العالم الغربي يستعد لهذا الفجر بواسطة الدعوة إلى كلمة السواء بعد أن جرب

كلمة البغي، وطالما كان البغي والغي قائدين له إلى الهالك بترك سبيل الرشد بعد أنخذ}وه} سبيال( ] األعراف: )الحت له ورآها: شد ال يت وما) [، 7/146وإن يروا سبيل الر

ق}وا إال من بعد ما جاءه}م العلم} بغيا بينه}م( ] الشورى: [.42/14تفرما هو البغي؟ ما هو الغي؟ ما هو الكبر؟

Page 114: كـــن كابن آدم - Jawdat Said · Web viewكن كابن آدم المحتوى الموضوع الصفحة المحتوى المقدمة تمهيد: لغة الحروف ولغة

سأحفر حول هذه الكلمات، ال ليس حول هذه الكلمات، بل حول معاني هذهالكلمات: البغي، الغي، الكبر.

الصوفية هم الذين كانوا يفكرون في األحوال النفسية، والذين ال يدخلون إلى األحوال النفسية ؛ يقفون عند الرسوم، عند الصور، والله ال ينظر إلى صورنا، بل ينظر

إلى ما في الصدور، إلى المحركات األولى، إلى الطاقات والدوافع الكامنة، إلىاألضغان وما باألنفس.

هل لديك شوق إلى رحلة في أحوال النفس اإلنسانية؟ يذكر جالل الدين الرومي أن روميا وفارسيا وعربيا وتركيا اجتمعوا، وكانوا جميعا مصابين بفقد البصر، تصدق عليهم محسن بدينار، فاشتهوا العنب، ولكن اسم العنب مختلف في لغة كل منهم، فتنازعوا نزاعا شديدا، وكان كل واحد منهم يقول إنه يريد

أن يشتري العنب بلغته، فيظن اآلخرون أنه يريد أن يشتري شيئا آخر، فأحدهم يقول: أريد رستافيل، واآلخر يقول: ال، أنا أريد أزوم، وهكذا، فمر بهم رجل يعرف لغاتهم

جميعا، فقال لهم: أنا سآتي لكل واحد منكم بما يريد، فذهب واتى بالعنب، ووضع فييد كل واحد منهم عنبا، ففرح الجميع، وشعروا أنهم وصلوا إلى ما يريدون.

يقول الرومي: في هذه القصة حصة، في هذا الحدث معنى، وكل النكات المضحكة تحوي مغزى عميقا، وكشفا لجهل اإلنسان بطريق لطيف خفيف، بحيث ال

. }سر يشعر بالغضب حين يكشف جهله، بل يضحك وي في كل القصص المضحكة حكمة قريبة وبعيدة، وحتى الضحك ليس كلمة، وإن

كانت الكلمة تحدث ضحكا، والكلمة في ذاتها ليست هي التي تضحك، بل األنفس هي التي تضحك، وكل نفس تضحك بحسب مستواها، فنفس تضحك حتى تنقلب على

قفاها، من شيء قد ال يحرك من إنسان آخر ساكنا.ما هي الكوميديا؟ وما فلسفتها؟

هذا الفن يستخدم للتسلية والترويح عن النفوس فقط، مع أنه قابل ألن يستخدملتغيير النفوس بالسرور والطرب والفرح.

هل سمعت أن اإلنسان يبكي من شدة الفرح، من الضحك؟ نعم اإلنسان يبكي من الفرح، والناس يقولون: دموع الفرح باردة، ودموع الحزن ساخنة، ودموع اآلالم

مأساوية، وأعتقد أن بإمكانك أن تأخذ من قصة الرومي حصة من الحكمة العميقة، ولكن من شدة قربها صارت مضحكة، وانقلبت إلى ضدها، وما ضحكنا منها إال

لوضوحها، ولم نستفد منها لغموضها أيضا، ولم نستطع أن نجعل حياتنا كلها سرورا، أو على األقل لم نستطع أال نجعل حياتنا كلها آالما مستمرة ولدغا متتاليا من الجحور

نفسها. ال حرج أن تحدث بعض اللدغات، لنعلم فضل الذين سبقونا، فال نسخر منهم، ألننا

على حسابهم حصلنا على سرور يزيد عن سرورهم، وآالم أقل من آالمهم، ولوالهملظل بعضنا يأكل لحم بعض.

توجيه الطاقات واستثمارها خذ من القصة ومن الخبر عبرة، واعلم أن الله حين يجعل التاريخ وأخبار األولين موضع اعتبار واختبار، فهو إنما يريد منا أن نسلك سبيل الرحمة والرشاد، وأال نسلك

سبيل األلم والغي، أو على األقل أال نكرر اآلالم التي فات أوانها، تكفي اآلالم التيأمامنا، والتي تتحدانا.

علينا أال نضيف إلى األثقال أثقاال، أمامنا مهمات ثقيلة أخرى، فلنتخفف من اآلالمالتي صار مكنا االستغناء عنها:

Page 115: كـــن كابن آدم - Jawdat Said · Web viewكن كابن آدم المحتوى الموضوع الصفحة المحتوى المقدمة تمهيد: لغة الحروف ولغة

}خفف} رحله} والزاد حتى نعله} ألقاها ألقى الصحيفة كي ي في علم النفس يقولون: كثيرا ما نستهلك قوانا وطاقاتنا بحمــل أشــياء لــو تخففنــا وتحررنا منها لكان بإمكاننا أن نواجه مشاكل أخرى بفاعلية أكــثر، واألنبيــاء إنمــا جــاؤوا

ليضعوا عنا إصرنا، وأثقالنا وأغاللنا، لنواجه الحياة بنشاط أكثر، ونكون غير مرهقين.ما الذي يجعل سلوك سبيل الرشاد غير ممكن؟

ما الذي يجعل سلوك سبيل الغي مقبوال؟ سأصرف})ما الذي يصرفنا عن هذا، ويلقي بنا في ذاك؟ هذا ما ينبغي أن نتأمله:

خذ}وه} شد ال يت ون في األرض بغير الحق، وإن يروا سبيل الر ر} ذين يتكب عن آياتي ال}وا عنها غافلين( }وا بآياتنا وكان ه}م كذب خذ}وه} سبيال ذلك بأن سبيال، وإن يروا سبيل الغي يت

[. 7/146] األعراف: اإلنسان بين التزكية والتدسية

كيف يصير اإلنسان في حالة ال يعتبر معها وال يستفيد مما يراه أمامه؟ كيف يصيرأعمى عنها؟

إنها مشكلة اإلنسان الذي يملك وجهين وإمكانيتين، يملك أن يكون في أسفل( ] األعراف:)سافلين، وأن يتحول إلى كائن شبيه باألنعام: }ولئك كاألنعام بل ه}م أضل أ

فتبارك الله} أحسن} الخالقين() [، ويملك أن يكون في أحسن تقويم: 7/179 [، وأن يرتقي إلى أن يسجد لهذا المخلوق الواعي كل شيء،23/14] المؤمنون:

ومن لم يقبل فليخرج من دار الكرامة إلى دار الخزي والعار. كيف نجعل هذا اإلنسان في أحسن تقويم؟ كيف نحول فجور نفسه إلى تقوى؟

كيف نحول النفوس التي مرغتها أوحال وأقذار الفجور والطغيان، فنجعلها في أحسنتقويم، وفي مقعد صدق عند مليك مقتدر؟

اها()هذه هي الوظيفة التي تركها لنا األنبياء: اها، وقد خاب من دس قد أفلح من زك [.10-91/9] الشمس:

نعم إنها وظيفتنا أنا وأنت أيها القارئ، فلنفهم أوال أن هذا يرجع إلينا، وأن بإمكاننا أن ننقذ أنفسنا ومن حولنا. ال تيأس، وليكن لك في بالل أسوة وقدوة، فقد ضرب لك المثل حتى ال تحقر نفسك، وعلمنا كيف نزكي أنفسنا، وإن كانت لكبيرة، وكبيرة جدا،

لكنها سهلة وميسرة على الخاشعين، والخشوع ضد الكبر، وضد البغي. كيف ننزع الكبر والبغي من أنفسنا؟ كيف صرنا مرضى بالكبر والبغي؟ كيف نصل

}ستعبد؟ كيف نتخلص من الكبر من غير أن نذل ونخزى؟ إلى الخشوع دون أن ن ال تظنن أيها القارئ أنها هبة إلهية، إنها بمقدار ما هي هبة إلهية، فإنها صناعة

إنسانية، نحن الذين نغير ما بأنفسنا، والله هو الذي أعطانا كل األدوات وكل الوسائل، وضرب لنا األمثال، وقدم لنا النماذج، وأرسل الرسل، فقاموا بالتغيير ونجحت التجربة،

ما علينا إال أن نعيد الكرة، فالعالم م}هيأ، والسبل م}يسرة، ولم يبق إال أن يأتي ورثةة ال ترى فيها }عيدوا التجربة، ويكشفوا آليات النفوس كما هي تتدفق فتي األنبياء، لي

جدعاء وال شوهاء، سوية جديدة كل الجدة، طازجة تتدفق يوميا من األرحام، لم يبق إالأن يفهم وارث النبوة التركيبة األولى فتعود سوية ال ترى فيها عوجا وال أمتا.

لقد بلغت بالفكر والنظر حد اليقين، إلى أن نجحت التجربة، وصار باإلمكان إعادتها، وإذا لم نبلغ في البيان والوضوح درجة البالغ المبين، ولم نبلغ في العمل

والممارسة عين اليقين ؛ فإننا نطمح أن ننجح في البيان والتطبيق إلى درجة أقربإلى الرشد، فنمهد الطريق لمن يأتي بعدنا ليصير عليهم أسهل وأيسر.

السوق األوربية والرشدأريد أن أبحث مثال السوق األوربية المشتركة:

Page 116: كـــن كابن آدم - Jawdat Said · Web viewكن كابن آدم المحتوى الموضوع الصفحة المحتوى المقدمة تمهيد: لغة الحروف ولغة

ما عالقة السوق األوربية بالتصوف والكبر والبغي والخشوع واإلخبات وقبول كلمةالسواء؟؟

إن سبيل الرشد سبيل لحل المشكالت من غير أن يخسر أحد شيئا، ال ملكا والمكانة..

دعني أسوق لك حديثا من أحاديث الرسول ، لتأخذ منه حصة وحكمة وإرشادا إلى : » ما ذئبان جائعان أرسال على غنممشكلة المشكالت، للوقوف عندها وحلها، قال

.(1)في حظيرة بأفسد لها من حب المرء لدينه ؛ المال والشرف « المال والشرف، ما هما؟ وما شأنهما؟ هل هما شران محضان؟ أم أنهما قابالن

. ونعم الشرف حين يكون(1)ألن يكونا نعمتين: » نعم المال الصالح للمرء الصالح « }مور واالبتعاد عن سفاسفها، وقابالن ألن يكونا نقمتين: فبئس حافزا لحب معالي األ

المال الذي يأتي عن طريق السرقة واالغتصاب واالنتهاب الذي يوغر الصدور ويثقلهابالغل والحقد، وبئس الشرف الذي يفرض بالكراهية واإلكراه، بالقتل والتعذيب.

نعم المال الذي يأتي إلى الناس بالرشد والرشاد الذي هو قوام األمة، نعم المال}وا)الذي ال يوضع في أيدي السفهاء والمبذرين الذين ينفقونه في أهوائهم: }ؤت وال ت

}م قياما( ] النساء: ه} لك تي جعل الل }م ال فهاء أموالك [.4/5الس إن المال هو الذي يقيم األمة، والمال ليس سوى ساعات من الجهد الذي بذله كل

الناس، بتعاون ودون مخاتلة وغي وانتهاب. نعم الشرف شرف التنافس في الخدمة العامة، إن الشرف واإلمامة في الناس ال

تكون بقهرهم، بل بامتالك قلوبهم حبا ورضا وإيثارا. ما اشد خطأنا إذ نحب الغنى والشرف حبا غبيا، بغيا وإكراها واغتصابا وانتهابا، ومع ذلك نستطيع أن نبدأ بالتغيير، من غير أن نأخذ من صاحب مال ماله، واألنبياء جميعا -

}م)لم يتخلف منهم أحد من نوح إلى محمد - كانوا يقولون بلسان واحد: }ك وما أسألي)عليه من أجر( ؛ ق}ون؟ إن }وح: أال تت }وح الم}رسلين، إذ قال له}م أخ}وه}م ن بت قوم} ن كذ

}م عليه من أجر، إن أجري إال على }ك ق}وا الله وأطيع}وني، وما أسأل ول أمين، فات }م رس} لك [.109-26/105رب العالمين( ] الشعراء:

فإن كنت في ريب من هذا، وكنت تظن أن األنبياء إنما جاؤوا ليأخذوا من الناس أموالهم، فأعد قراءة )سورة الشعراء( مرة أخرى، هناك ينقل الله تعالى عن األنبياء

}م عليه من أجر(، )كافة قول كل لقومه: }ك )وما أسأل }ه}م أجرا فه}م من مغرم أم تسأل}ون( ] الطور: [. 52/40م}ثقل

يا أيها الناس! ال نريد أن نأخذ منكم أموالكم، إننا ال نأخذ عليكم في أمر المال، ما نريده شيء آخر غير المال، ينبغي أال يتشوه األمر، نحن نريد أن تزيد أموالكم حتى

تصيروا ترفضونها، وال تريدون عليها مزيدا، ستصلون إلى درجة اإلشباع من هذا المتاع.العلم قبل المال

لم تشتعل حرب الخليج إال من أجل المال، فال تجعلوا حبكم للمال مشرعا لالغتصاب، ال تجعلوا انتهابكم شرعيا باسم األنبياء الذين لم يطلبوا دينارا وال درهما، كال وال تركوا حين ماتوا دينارا وال درهما، وما تركوه هو العلم والمعرفة، فهل يمكن لنا أن

نتنافس على العلم والمعرفة؟من أين يأتي المال؟

إننا لنخطئ حينما نركض وراء سراب المال، ونترك حفر بئر العلم الذي يزكيصاحبه، وإذا تزكى ؛ تزكى كل شيء معه، وإذا تدسى، تدسى كل شيء يتصل به.

أين ذهبت أموالنا؟ إلى جيوب من تحولت؟

Page 117: كـــن كابن آدم - Jawdat Said · Web viewكن كابن آدم المحتوى الموضوع الصفحة المحتوى المقدمة تمهيد: لغة الحروف ولغة

أيها المصلحون! ال تبدؤوا من األموال، ابدؤوا من حيث بدأ الله، من النفوس، ابذلوا األموال إلصالح النفوس ؛ بل أنفقوها لتأليف القلوب، وتزكية النفوس، ليعلم

اآلخر أنك ال تريد ماله، بل تريده أن يغنى ويتزكى. أيها الناس! نريد أنفسا مزكاة، ال نريد أن نأخذ من اآلخر ملكه، كال وال مكانته،

ورسول الله علمنا أن نرفض الملك حين يظنون أنه مطلبنا.ما أشد تشويهنا لمنهج النبوة!! ما أشد مسخنا لما جاء به األنبياء!!

هل من مطمع في الكشف؟ هل من مطمع في اإلصالح؟ هل لنا أن نطمع فيإصالح ما أفسدناه وأفسده الناس؟

نعم، هذا مطمحنا، وفي هذا مطمعنا، نريد أن نتتبع الفساد إلى جذوره حتى نصلإلى لحظة تكونه لنقتله.

ما هذا الذي يلوي أعناقنا وأعناق الناس، ويجعلهم مختلفين وال يقدر بعضهم علىرؤية وجه بعض؟

ما هو البغي؟ ما هو الكبر؟ ذلك)كأن القرآن يعيدنا إلى الحالة النفسية، إلى النعمة والنقمة التي في األنفس:

وا ما بأنف}سهم( ] األنفال: ر} }غي ى ي را نعمة أنعمها على قوم حت بأن الله لم يك} م}غي8/53.]

إن النعمة، وكذلك النقمة، ال تتغير عن قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم. أتمنى لو أضع مجهرا إلكترونيا على الكبر الذي في النفس، وعلى البغي الذي فيها

أيضا، ألنهما، بحسب القرآن، مصدر كل الشرور، والرحم التي تنبت كل المصائب. كيف نتتبع األدلة؟ كيف نتقصى العالمات؟ كيف نتأمل البراهين؟ كيف عجزنا عن التذكر واالستحضار؟ كيف نتعامل مع النفوس؟ كيف نزكيها، كيف ندسيها؟ كم عاش

الناس دون أن يعرفوا الزراعة، وكم يعيشون مع أحداث ال يتعلمون االستفادة منهاواستثمارها إال ببطء شديد؟

اإلنسان والتسخير كيف سنتعلم الزراعة في األنفس؟ إنه حدث نعيشه يوميا ونمارسه ونقطف ثماره،

ولكننا ال نعيه، وال نكشفه، وال نسخره، وال ننتبه إلى الكيفية التي صنعت بها الثمار. إننا نعرف كيف نقطع الشجرة ونتلفها، ولكننا ال نعرف كيف نحافظ عليها ونعتني

بها ونزيدها نماء وإثمارا، كيف سنكشف التعامل مع األنفس؟ كيف سنتعلم زراعةاألنفس؟ كيف سنتعلم استثمار الكهرباء؟

لقد كنا نعيش مع الكهرباء، ولم نكن نعرف عنها إال الصواعق، ثم ذللناها، وجلبناهاإلى حياتنا حتى صارت جزءا ال نستغني عنه، ولم يعد ممكنا أن نتخلى عنها.

كيف يتعرف الناس على مصادرها التي ال تنضب؟ كيف يتعلمون إنتاجها بيسرمتزايد، ويتوسعون في استخدامها بكفاءة وسهولة؟

يحدث هذا في مستوى أولى الكائنات، وجزيء الجزيئات، ولكن كيف يتعلم الناس استثمار اإلبداع الكامن في المخلوقات؟ وإذا كانت الطاقة الكهربائية إلى هذه الدرجة

من األهمية في حياة اإلنسان، فكيف تكون أهمية الطاقة اإلنسانية الكامنة في اإلنسانإذا كشفناها واستثمرناها؟؟!!

أنا أعمل في تربية النحل، والنحل وجد قبل أن يوجد اإلنسان، واإلنسان جاء والنحل يعمل، بعد ذلك تعرف النحل، وقطف عسله كما قطف ثمار األشجار،

وخالل التاريخ الطويل كان اإلنسان يقتل النحل ليحصل على العسل وال أزال أذكر جيدا كيف كانوا يقتلون الخلية ليأخذوا العسل، ثم تعلم اإلنسان كيف يأخذ العسل دون

قتل النحل، فنتعامل معه واستثمره بغير القتل والتدمير.

Page 118: كـــن كابن آدم - Jawdat Said · Web viewكن كابن آدم المحتوى الموضوع الصفحة المحتوى المقدمة تمهيد: لغة الحروف ولغة

متى سنتعلم أن قتل اإلنسان ليس أفضل طريق لالستفادة منه؟ ليس تدمير اإلنسان وإرغامه وإكراهه هو الطريق األمثل للتعامل معه، وأنا ال

ألومك، ألنني لم أقدم لم النموذج المضيء، المشع، الخالب، المغري، المحيي، ولكنني صرت ألمح شيئا عجيبا مدهشا، يدعو إلى الخشوع والتسبيح، يدعو إلى التقديس، إلى

تذوق معنى الهداية، إلى االهتداء للحل الذي لم يكن ممكنا االهتداء إليه من قبل. تأمل الكهرباء! كم هي مدهشة؟ كم هي مذللة معطاء؟ كيف صارت عامال

هال لتزكية النفس، وتقديم المعلومات، من غير نسيان، سبحان الذي مسرعا ومسأعطى كل شيء خلقه ثم هدى!!..

التاريخ والمستقبل}عطي ما هذا اإلنسان المكرم إلى هذه الدرجة العظيمة؟ ما هذا الكائن الذي أ

خر له ما في }خلف في األرض، وس} السلطان على الوجود؟ ما هذا المخلوق الذي استالسماوات واألرض؟

إن معرفته بماضيه، والكيفية التي تعلم بها وتقدم، تفتح أمامه مجاالت ال نهائية،غير أننا ال نعرف كيف تعلم وتزكى، وكيف تعلم أن يترك الغثاء ويبقي األنفع.

إن معرفتي القليلة جدا بتاريخه: كيف كان وكيف صار ؛ فتحت أمامي مجاالت وإمكانات ال يمكن التكهن بما اختزل في داخله من عوالم مما ال عين رأت، وال أذن

سمعت، وال خطر على قلب بشر.ك ستعلم كيف سيكون الذين ون في خلق)إذا علمت كيف كان ؛ فإن ر} يتفكنا ما خلقت هذا باطال( ] آل عمران: ماوات واألرض رب [ ال( ] آل عمران:3/191الس

[، إن الذين يظنون أن السماوات واألرض خلقوا باطال ؛ هم الذين جهلوا،3/191 الذين ع}مي عليهم وغ}طي عنهم، ولكن نستطيع أن نزيل عنهم ما أصابهم من الوهم

ومن قصر النظر، كيف نشك في هذا، ووظيفتنا األساسية هي تغيير ما باألنفس؟؟!!..اليأس والكفر

ال تيأس، تذكر فإن الذكرى تنفع، تذكر فإن الذكرى تريك كيف يتحول المستحيل إلى ممكن، ال تنس، ال تغفل، وال تفرط، قف وتثبت في لحظات اإلشراق، تعرف على

الظروف والحاالت حتى ال تفلت منك فتقعد حسيرا، تمسك بنور األمل، ال تيأس، التنس العالقة القائمة بين اليأس والكفر.

ما الذي يحصل لليائس؟ إنه يقعد، إذن القعود هو الكفر، تعلم ما هو الكفر، الخمول هو الكفر، الكفر هو

عقيدة الخامل اليائس، عقيدة الذي ال يرى ما كان كيف كان، وما سيكون كيفسيكون.

ما هي التصورات التي جعلتك يائسا، متشائما، ال يخطر في بالك غير الحقد والتدمير؟ نعم يا أخي، نعم أيها اإلنسان القلق، الخطير، العجيب، إن لك تاريخا، ولك

مستقبال، ورحمة خالقك سبقت غضبه، وخالقك رحمن رحيم. اخرج وأشعل الضياء.. سيتبدد الظالم، أظهر الحق وسيزول الباطل، تعلم قوانين

هذا الكون وسترى أنها تراودك … [، إن مهمتهم هي عمارة األرض ال إفسادها36/30يا حسرة على العباد( ] يس: )

وتدميرها، خلقوا للبناء ال للخراب واإلتالف والتبذير، لقد غرس فيك القصد واالقتصاد في الزمن والجهد، ال تفرط، ال تغفل، ال يستخفنك الذين ال يوقنون، ال يجعلونك تيأس

من رؤية التغيير الذي سيحصل للقاعدين الساخرين اليائسين، أشعل النور، وإنهم سيهبون جميعا، أظهر الحق، وإنهم سيتألقون، ستعود الحياة إلى نفوسهم الخاملة،

سيعود البريق إلى عيونهم الذابلة، وسترى النضارة في وجوههم.

Page 119: كـــن كابن آدم - Jawdat Said · Web viewكن كابن آدم المحتوى الموضوع الصفحة المحتوى المقدمة تمهيد: لغة الحروف ولغة

هل نظرت مرة في حياتك إلى إنسان كان مريضا يتألم، زائغ البصر كالح الوجه مكتئبا، وبعد أن تناول الدواء المسكن أو الدواء المعافي، كيف تعود النضارة إلى

وجهه، والبسمة إلى أسايره، كذلك فإن عالج النفوس ودواء القلوب هو الذي يعيد إلى الناس الحياة، ويزيل عن قلوبهم الجهل والظالم، وبعدها يتنفس الناس الصعداء بزوال

هذا الذي لم يكونوا يظنون أنه يزول، إنه سيزول وسيستريحون منه، وسينسون أنه كان ثقيل الوطأة عليهم، وسيتعجبون من الناس كيف كانوا يعيشونه وال يرون له

مخرجا. إن هذا السحر الذي نعيشه لمدهش!! ولكنه غير قابل للكشف والتجاوز، انظر

كيف كان الذي كان، وستعلم ما سيكون وكيف سيكون.ما هي نقطة الضالل واالنحراف؟

إن اإلنسان)إن نقطة الضالل تحدث عند لحظة معينة، إنه يحب الخير حبا شديدا: ه} لح}ب الخير لشديد( ] العاديات: ه} على ذلك لشهيد، وإن }ود، وإن ه لكن [.8-100/6لرب

نقطة الضالل تحدث حين يريد هذا اإلنسان أن يختصر طريق الخير، وبنفس الشدة التي يكون فيها حبه للخير ؛ يكون سعيه للحصول على الخير بسهولة، وعندها يحصل

الضالل في اختيار الطريق األسهل. ليس في البحث عن الطريق األسهل مشكلة، إنه أمر مشروع، بل إن جهود البشر

وامتحان ذكائهم يكون بابتكار الطرق السهلة واختصار الزمن والجهد للحصول علىالخير األكثر واألعم واألوسع.

تأمل هذا الموضوع، تأمل هذه النقطة، تأمل فكرة أن أعظم الخير يكون فيمعرفة كيفية تحصيل الخير الكامن في اإلنسان.مشكلة العالقة بين اإلنسان وأخيه اإلنسان

كيف ستحصل على الخير الذي تحبه من اإلنسان؟ نقطة البدء تكون من عالقة اإلنسان باإلنسان، ألن عالقة اإلنسان بالوجود، بالكون، مختلفة عن عالقته باإلنسان، واألضرار التي تلحقها الطبيعة بنا نتلقاها بأسلوب م}ختلف

عن أسلوب تلقي األضرار التي يلحقها بعض البشر ببعض. إحساساتنا تختلف حين نسمع عن كوارث ناتجة عن أعمال البشر، وحين نسمع عن كوارث ناتجة عن الطبيعة، حين يصيبني أذى الطبيعة ال أغضب، قد احزن إذا مات شخص أحبه، ولكن كيف يكون شعوري إذا قتله إنسان آخر؟ طبعا يكون شعوري مختلفا، مم يحدث هذا االختالف؟ ما عالقته بحب الخير والسعي للحصول على الخير بأقل الطرق كلفة؟ ما عالقته بتقليل

الجهد وزيادة المردود؟ هل يكون تحصيل أفضل مردود من اإلنسان عن طريق قهره وإكراهه واستالبه، أم

باحترامه وتقديره والعدل معه؟ الخطأ يحدث عند هذه النقطة. عند هذا االختيار تختلط المفاتيح، فيحاول بعضنا

الحصول على المردود األكبر بالقهر واإلكراه والتعالي، ويظن أن اختيار هذا األسلوبأسهل وأقل كلفة وأكثر مردودا.

عند اشتباه والتباس وعدم وضوح هذا األسلوب يختلط الرشد بالغي، ويجعلك الوقوع في هذا الخطأ متكبرا، وعندها تعتمد للحصول على المردود الكبر على القوة

ا ق}وة( ] فصلت: )والغلبة والقهر الذي يمتلكه [.41/15من أشد من إن اعتماد هذا اإلنسان على القوة والقهر يكون بسبب إيمانه بأن الحصول على

أفضل مردود إنما يكون باإلكراه والقهر، وهذا هو الضالل البعيد والمبين والعميق، وهوالخداع} األعظم والسحر األكبر.

Page 120: كـــن كابن آدم - Jawdat Said · Web viewكن كابن آدم المحتوى الموضوع الصفحة المحتوى المقدمة تمهيد: لغة الحروف ولغة

هذا هو مصدر عقيدة االستكبار، بقوته يريد أن يفرض علوه واستكباره، وحينتسيطر على اإلنسان هذه الفكرة وهذا التوجه يغلق أمامه أبواب الفهم واإلدراك.

ون في)مرة أخرى نقترب من فهم قوله تعالى: ر} ذين يتكب سأصرف} عن آياتي الخذ}وه} سبيال، شد ال يت }وا، وإن يروا سبيل الر }ؤمن }ل آية ال ي األرض بغير الحق، وإن يروا ك

}وا عنها غافلين( }وا بآياتنا وكان ه}م كذب خذ}وه} سبيال ذلك بأن وإن يروا سبيل الغي يت [. 7/146] األعراف:

ال إكراه)هل يمكن أن نلمح، على هذا الضوء الخافت جدا، مرة أخرى قوله تعالى: }ؤمن بالله فقد استمسك شد} من الغي، فمن يكف}ر بالطاغ}وت وي ن الر في الدين قد تبي

[. 2/256بالع}روة الو}ثقى ال انفصام لها( ] البقرة: لقد ظننت، وكنت مخادعا لنفسي، بعد )لت وعجن( ولف ودوران غير مجد كثيرا،

ظننت أنني أرسلت شيئا من نور خفيف إلظهار أن القهر والقوة والعنف والعلو واالستكبار واإلكراه.. أن من يمارس هذه األمور، ويسعى إلى سلوك طريقها، ال يكون

قد تبين الرشد من الغي، وأنه ما دام معلق القلب باإلكراه فلن يتبين الرشد من الغي. إنني أطمع أن أتمكن جعل الرشد يتبين من الغي والبغي، وأن أبين أن اإلكراه هو

المرض األكبر، وتوضيح أن الظن بأن الله يأمر باإلكراه والظن بأن اإلكراه يأتي بمردودأفضل ؛ هو ظن سوء بالله واإلنسان .

كم هذا األمر ملتبس؟ كم هو مشتبه وخادع ومضل؟ كم هو عدو باد في صورة صديق؟ كم هو تعب في صورة راحة؟ كم هو شقاء في صورة سعادة؟ كم هو خسارة

في صورة ربح؟ كم هو تبذير في صورة توفير؟السوق األوربية وكلمة السواء

ما هو الكبر الذي يحول دون رؤية الرشد والرشاد، ويجعل صاحبه غير مستطيعلسلوك سبيل الرشد حتى بعد رؤيته؟

شد ال)إنه تعالى لم يقل: إنهم ال يرون سبيل الرشد، لكنه قال: وإن يروا سبيل الرخذ}وه} سبيال( ] األعراف: [.7/146يت

ما صلة بحث الكبر والبغي، بما أردت أن ألفت النظر إليه سابقا من اآليات التي تحدث في األرض، والتي ال قدرة لنا على االنتباه إليها، وإذا انتبهنا إليها نرفض أن

نتخذها سبيال؟ون عليها)مرة أخرى أعيد قوله تعالى: ماوات واألرض يم}ر وكأي من آية في الس

[.12/105وه}م عنها م}عرض}ون( ] يوسف: إن السوق األوربية المشتركة، من آيات الله في التاريخ البشري، إذ يصنع

واء والعدل، دون إكراه، دون قوة. األوربيون هذا الحدث دون إكراه، بل بكلمة الس ال إكراه في تلك السوق، ال يدخل أحد إليها وهو مكره، بل يدخلون إليها باختيارهم،

ال إكراه في)ال يذهب إليهم بجيش وسالح، إن شئت دخلت وإن شئت لم تدخل: الدين(، ال إكراه في السوق األوربية.

في السابق كانوا يظنون أنهم يستطيعون أن يصنعوا الوحدة بالجند والسالح، ال إكراه في الدين(، ال إكراه في السياسة، فمن شاء)لكنهم بعد ذلك وصلوا إلى فكرة

فليدخل، ومن شاء فليخرج، وقد طلب المغرب العربي االنضمام إليهم، ولكنهمرفضوه.

مع أن المغرب العربي وتركيا يطلبان االنضمام إلى السوق األوربية، إال أنهم ال يستطيعون، وال يسعون، وال يتداعون لسلوك سبيل السوق األوربية المشتركة، لماذا

}صرفون عن هذا؟ يقومون بهذا؟ لماذا ي

Page 121: كـــن كابن آدم - Jawdat Said · Web viewكن كابن آدم المحتوى الموضوع الصفحة المحتوى المقدمة تمهيد: لغة الحروف ولغة

}ل آية ال) ون في األرض بغير الحق، وإن يروا ك ر} ذين يتكب سأصرف} عن آياتي الخذ}وه} سبيال..( خذ}وه} سبيال، وإن يروا سبيل الغي يت شد ال يت }وا، وإن يروا سبيل الر }ؤمن ي

[.7/146] األعراف: كيف بدأ خلق الوحدة األوربية

ماذا حدث في أوربة؟ لماذا ال نستطيع أن نسلك سبيلهم؟ قلنا: إن الوحدة األوربية لم تنزل من السماء، ولم يصنعها نابليون وال هتلر، ولم

تصنعها القوة واإلكراه، إنهم يصنعون هذا كله باختيارهم. إنني معجب ومقدر ألعمالهم هذه، وأتمنى من كل قلبي أن يتمكن المسلمون من

أن يفعلوا مثل فعلهم، ويفكروا مثل تفكيرهم، غير أن هذه األمنيات ال تجدي، ولذلكينبغي أن نعرف ماذا حدث في أوربة؟ ماذا تغير وكيف تغير؟

أوال وقبل كل شيء: لقد فكروا في الخير، وهم شديدو الحب للخير كسائر البشر، وفكروا كذلك، وأعادوا النظر في الطرق التي كانوا يسلكونها لتحصيل الخير، وتوصلوا إلى أنها ليست طرقا سماوية غيبية علوية، بل هي طرق أرضية واضحة مرئية، يمكن

حسابها باألرقام وتحت الضوء. ليس هناك مؤامرات، وال خداعات، وال أشياء يخفونها في أنفسهم، كل شيء واضح ومحسوب، وقابل إلعادة النظر فيه بدقة وروية، وقبل كل ذلك تنازلوا عن الكبرياء والتكبر، تنازلوا عن ادعائهم بأن فرنسا فوق الجميع، أو أن ألمانيا فوق

الجميع، وفهموا أن هذه االدعاءات ال تبني أوربة بل تدمرها، وأن الجميع من الجميع. لقد خرج من أنفسهم وقلوبهم إمكان أن يصنع أحد منهم وحدة أوربية تحت تاجه

أو قبعته.الوحدة األوربية والتصوف

}وربة؟ هل تتدين؟ هل تعود ما صلة ما يحدث في أوربة بالصوفية؟ هل تتصوف أإلى اإليمان؟

نعم يا أخي، إن أوربة تتصوف وتتدين وتعود إلى اإليمان، بل إنهم قبلوا أقدسشيء في األديان، قبلوا أال يتخذ بعضهم بعضا أربابا من دون الله.

يا لصعوبة هذا الخيار: أن يخرج من قلوبهم أن يكون أحد منهم أو دولة من دولهم}وربة قبلت كلمة السواء على األقل فيما بينها. ربا لبقية أوربة، أ

}وربة تخلصت من نابليون، ومن هتلر، بل إنها تخلصت من الثقافة التي صنعت أنابليون و هتلر، واجتمعت كلها على التخلص من هتلر ونابليون، من ثقافتهما.

ونحن أيضا بدأنا نجتمع على التخلص من هتلر، بدأنا ودون وعي منا بتطهير أنفسنا من اإلكراه، ال نريد شخصا يوحدنا باإلكراه، بدأنا دون وعي نتخلص من اإلكراه، وينبغي

أن نتخلص من ثقافة اإلكراه، علينا أن نتبين الرشد من الغي، علينا أن نفكربالطاغوت، باإلكراه، عندئذ نعثر على الله وعلى الرشد وعلى العروة الوثقى.

لم أعد أخشى قرقعة الكلمات، لم تعد ترهبني العبارات، لقد تجاوزت مرحلة التقليد، ومرحلة الحاجة إلى أن تفسر لي الكلمات، صرت أرى الوقائع، صرت أرى

( ] يس: )كلمات الله الذي: }ون} }ن فيك ه} إذا أراد شيئا أن يق}ول له} ك ما أمر} [.36/82إ ن إن إرهاب الكلمات إنما يؤثر على من لم يكفر بالطاغوت، وهو ال يجدي مع من

تخلص من عبادة الطاغوت.التخلص من اإلكراه باتجاهيه:

ال تحاول أن ترهبني بالكلمات، فإنك في رعب من الطاغوت، من القوة،والطاغوت ليس شخصا، بل هو معنى.

إن من يتخلص من عبادة القوة، من عبادة اإلكراه، يدخل ملكوتا آخر.

Page 122: كـــن كابن آدم - Jawdat Said · Web viewكن كابن آدم المحتوى الموضوع الصفحة المحتوى المقدمة تمهيد: لغة الحروف ولغة

إنك ال تدخل ملكوت الرشد، ومملكة الرشد، إذا لم تتخلص من اإلكراه باتجاهيه، ال إكراه في الدين( حد)وال تتخلص من اإلكراه إن لم يخرج من قلبك حب إكراه أحد،

[، ال سلطان لإلكراه على88/22لست عليهم بم}سيطر( ] الغاشية: )فاصل قاطع، }وا م}ؤمنين( ] يونس: )مملكة القلب: }ون ى يك اس حت }كره} الن [، إنك ال10/99أفأنت ت

تكون تخلصت من عبادة العباد، وعبادة القوة، وعبادة الطاغوت ؛ إن لم تتخلص من اإلكراه باتجاهيه: أي أن تتخلص من أن تكون م}كرها ألحد، وعندئذ تتخلص أيضا من أن

يكون أحد مكرها لك، وإذا لم تتخلص من هذين االتجاهين ؛ فأنت ال تزال في مملكةاإلكراه، أيا كان االتجاه الذي تمثله.

ينبغي أن أخرج من دائرة اإلكراه، ألدخل في دائرة الرشد … ما أشد االلتباس الذي يحصل في االنتقال من أحد الموقعين، وال اقصد بهما السيد

والعبد، فليس المهم أن تكون سيدا أو عبدا، عابدا أو معبودا، ليس المهم أن تكون المكره أو المكره، سواء أكنت هذا أو ذاك، فكالكما في مملكة اإلكراه، مملكة الرعب

والخوف، مملكة شريعة الغاب والغدر، مملكة الذين يعتقدون أن اإلكراه وسيلة وأسلوب لنشر األفكار، ولذلك فهم ال يزالون في مملكة الغي واإلكراه، سواء أكانوا

ممارسا لإلكراه أو قابال ألن يمارس اإلكراه عليه. ال تنخدع بالكلمات، ال تخدعنك التفاسير والشروح، اعرف األحوال الصوفية، اعرف

قولهم: » كن مع الحق بال خلق، ومع الخلق بال نفس «. كان الصحابة يقولون ألصحابهم من المشركين في حواراتهم: اخلع عنك هذه

األوثان.ما هو خلع األوثان؟

الخروج من مملكة اإلكراه ال يحتاج إلى دولة، وال إلى مملكة، وال إلى حماية. لقد خرج بالل من مملكة اإلكراه، وكذلك خرجت سمية، وإذا كان بعض الناس

يشوهون حالة بالل وسمية، فإن ذلك يعود إلى أنهم لم يذوقوا طعم الرشد وال حالوة الرشد، وال طمأنينته، ولم يعرفوا الحالة التي يعيشها من يكفر بالقوة ويتخلص من

}خرج من الخوف إلى األمن إال الفهم الصحيح: وكيف أخاف} ما)مملكة القوة، وال يلطانا، فأي الفريقين }م س} ل به عليك }نز }م بالله، ما لم ي }م أشركت ك }م، وال تخاف}ون أن أشركت

}ولئك له}م األمن} }لم أ وا إيمانه}م بظ }وا ولم يلبس} ذين آمن }م تعلم}ون، ال }نت أحق باألمن إن ك}نا آتيناها إبراهيم على قومه نرفع} درجات من نشاء}( ] األنعام: ت وه}م م}هتد}ون، وتلك ح}ج

6/81-83.] كيف نخرج من اإلكراه، ونبتعد عنه؟ كيف نخرج اإلكراه من قلوبنا وننبذه بعيدا؟

كيف نخلع هذا الوثن من القلب؟ إن قلبا فيه هذا الوثن ال يمكن أن يدخل إليه األمن،وال يمكن أن تحل فيه الهداية، وال يمكن أن يستمسك بالعروة الوثقى.

اإلكراه والتغييرما هذا الشيء القذر؟ إلى هذه الدرجة تطرد الرشد وتعاديه وتناصبه العداء؟

تأمل مصيبة اإلكراه جيدا، مصيبة اإلكراه أن تكون مكرها أو قابال لإلكراه أو أن أحد أصحابه الذين أعلنوا خالفيكون داخال إلى قلبك، ولهذا سأل رسول الله

معتقدهم قائال: » كيف تجد قلبك؟ « قال ؛ مطمئنا باإليمان، فقال له: » ال عليك، وإن.(1)عادوا فعد «

}حدث تغييرا، أو أنه يمكن أن يكون طريقا إلى اإليمان، لم لم يؤمن بأن اإلكراه ي يؤمن بالطاغوت، ولم يختلط عليه الرشد بالغي، ال يزال مؤمنا، وقلبه م}طمئن باإليمان

بأن اإلكراه ليس من الدين، وأن اإلكراه هو الغي، وهو الجهل المطبق، والضالل ال إكراه)المبين، وهو السبيل المودي إلى الهالك، وأنه ضد الرشد وضد اإليمان بالله:

Page 123: كـــن كابن آدم - Jawdat Said · Web viewكن كابن آدم المحتوى الموضوع الصفحة المحتوى المقدمة تمهيد: لغة الحروف ولغة

}ؤمن بالله فقد استمسك شد} من الغي، فمن يكف}ر بالطاغ}وت وي ن الر في الدين قد تبي [.2/256بالع}روة الو}ثقى ال انفصام لها، والله} سميع عليم( ] البقرة:

إن الشيطان يخوف أولياءه، إنه يزين لهم أنه يجعلهم يقعون في الوهم القاتل فيزين لهم اإلكراه والقهر والطاغوت والغي، ويقطع عليهم الطريق بإيهامهم بأنل إليهم أن اإلكراه يمكن أن يصنع }خي اإلكراه يمكن أن يكون سبيال إلى الرشد، وي

الرشد، وال يزال يخدعنا، بعد أن دخلنا القرن الخامس عشر، بأن اإلكراه يمكن أنيكون طريقا إلى الرشد.

ال يمكن لإلكراه إال أن يكون طريقا إلى الغي، ولن يؤدي إال إلى الطاغوت، واإلكراه بعد تجربة أكثر من ألف وأربع مئة عام لم يؤد إلى الرشد، أال تكفي كل هذه

التجارب؟ أم أنه حق علينا القول بأن الله لن يمل ولن يخرق سننه من أجل أهوائنا وغفلتنا، ولن يجعل من الغي رشدا، وال من الطاغوت إيمانا، ولن يجعل سبيل الرشد

إكراها، ولن يحول اإلكراه إلى رشد.بين المعاني واأللفاظ

لن تتغير سنن الله مهما تالعبنا باأللفاظ والكلمات، ومهما غيرنا من معانيها وألبسنا الغي أسماء الرشد واإليمان واإلسالم، لن يتغير الغي إلى رشد من أجل خاطر

المسلمين، كما لن يتحول رشد األوربيين إلى غي من أجل زرقة عيونهم. إنهم حين تركوا اإلكراه دخلوا في الرشد واالقتصاد والتوفير، وخرجوا من التبذير:

من طلب المعاني من األلفاظ ضاع وهلك، وكان كمن استدبر الغرب وهو يطلبه،)ومن قرر المعاني أوال في عقله، ثم أتبع المعاني األلفاظ فقد اهتدى «.

هذه المعاني لمعت في ذهن أبي حامد الغزالي، قبل ألف عام، قبل سوسيروسيرل وتشومسكي، وقبل هيدجر ونيتشه، ولكن كم كان حجمها في ذهن الغزالي؟؟

سيظل اللغويون واللسانيون، من عرفت منهم ومن لم أعرف، هائمين على وجوههم، ما داموا يظنون أن الكلمات، مهما صار لها من إشعاع أو خفوت وانطفاء،

ومهما فتحت من أبواب وخياالت، أو أغلقت من مجاالت ؛ تحمل الحقيقة. سيظلون بعيدين عن الحقيقة ما داموا يحسبون أن الكلمات تحتوي الحقيقة، وما

لم يصلوا إلى أن الحق في الواقع. قد تخبر الكلمات عن الواقع، وقد تخبر عن عكسه، ولكن الكلمات ال قدرة لها على تغيير الواقع، بينما الواقع هو الذي يصحح الكلمات، ويصحح المفاهيم عن الله

والقرآن، وهو الذي يعطي قيمة حقيقية لكلمات الله، إنه البحث والنظر إلى الوقائع،وإلى التاريخ واألحداث.

لن يتعلم أحد السباحة من كتاب، ألن الله جعل تعلم السباحة في الماء. إنه تعالى أمرنا بالسير في األرض والنظر في كيف بدأ الخلق، ولن يستطيع أحد

أن يعرف كيف بدأ الخلق من كتاب إال كتاب الخلق. ثكلتكم أمهاتكم أيها اللغويون واللسانيون والسيميائيون!! أوليس هؤالء ؛ أهل

الكتب السماوية، بأيديهم الكتب بجميع اللغات وال ينتفعون مما فيها بشيء. إننا، ومهما قال القائلون عن كيفية بدء الخلق ؛ لن نعرف ذلك إال بشهادة الخلق ذاته، ولن ينقض قول قوال إال إذا كان مرجعه من الواقع، ولن يغير الناس آراءهم وما

بأنفسهم إال بإحصاء العواقب، وبقانون النافع واألنفع، وبقانون الزبد. قانون الزبد هو الذي صنع السوق األوربية المشتركة، وهو الذي ذهب ببناء الحياةالقائم على اإلكراه والغي والطاغوت والبغي جفاء، وبه مكث عندهم األنفع واألبقى.

Page 124: كـــن كابن آدم - Jawdat Said · Web viewكن كابن آدم المحتوى الموضوع الصفحة المحتوى المقدمة تمهيد: لغة الحروف ولغة

إنه قانون األنفع، قانون الرشد، قانون االقتصاد، قانون عدم إهدار الطاقات، به يبنون أوربة الحديثة الموحدة تحت ظل أمن وهداية الالإكراه، فإنه قد تبين عندهم

الرشد من الغي. إن قوانين الله ال تنظر إلى أسماء الناس، ولكن مقتضاها أن الذين ينظرون إلى أحداث الكون والتاريخ ؛ يستطيعون أن يروا األرشد وإن لم يقبلوه، فإن عجزوا عن

قبوله فإن تكاليف عدم قبوله ستعلمهم أن يقبلوا الرشد رغما عنهم، طوعا أو كرها.االتحاد السوفيتي واإلكراه.

من ذا الذي سيكون جاسوسا على القلوب؟ فيخرج لنا منها العوامل التي تجعلخذ}وه} سبيال()الناس: خذ}وه} سبيال، وإن يروا سبيل الغي يت شد ال يت وإن يروا سبيل الر

[.7/146] األعراف: لماذا ال قدرة للعالم اإلسالمي، لسائر البشر، على سلوك سبيل الرشد؟

لماذا تمزق االتحاد السوفيتي وتفسخ، لماذا ال نستطيع أن نقرا االتحاد السوفيتي؟ هناك سبب واحد، هو أن التاريخ المقدس تحول إلى دنس، وصار نظرنا مثل نظر

نيتشه، واختلط علينا المقدس بالدنس، وقد نقلت لك سابقا مفهوم نيتشه عن التاريخ،ومفهوم ابن خلدون أيضا.

كيف نفهم لماذا عجز االتحاد السوفيتي عن حل مشكلته بالرشد؟ ألم يكنبإمكانهم أن يتحولوا من الغي إلى الرشد؟ من اإلكراه الذي مارسوه سبعين عاما.

هل كان بإمكانهم أن يتحولوا من الغي إلى الرشد؟ نعم، كان بإمكانهم ذلك لو تمكنوا من فهم التاريخ وإفهامه للناس، ولو استطاعوا أن يروه بأعينهم. ال، ال يكفي أن يروه، ألن رؤية العين ال قيمة لها مع سيطرة الوهم،

والشمس دليل على أن الرؤية خادعة، وبإمكان اإلنسان أن يكذب عينه في سبيلوا)سيطرة اإلغراء: ذين كفر} لنا عليك كتابا في قرطاس فلمس}وه} بأيديهم لقال ال ولو نز

ة} األولين، ولو) [، 6/7إن هذا إال سحر م}بين( ] األنعام: ن }ون به وقد خلت س} }ؤمن ال ينا بل نحن} رت أبصار} ك ما س} }وا: إن ج}ون لقال وا فيه يعر} ماء فظل فتحنا عليهم بابا من الس

ون( ] الحجر: }وه}م() [، 15-15/13قوم مسح}ور} اس واسترهب }ن الن وا أعي سحر} [.7/116] األعراف:

ما الذي سيطر على المسلمين؟ ما الذي سيطر على االتحاد السوفيتي؟ حين لميتمكنوا من التحول إلى الرشد.

إن مشكلة سيطرة األفكار التي طال عليها األمد، مشكلة صعبة الزوال في مدة وجيزة، وال يكفي أن نقول: سيطرة األفكار ؛ بل علينا أن ننظر إلى اآلليات التي

يتصرف الناس على أساسها، إلى آلية الحب والكره. }رها لم تستطع أن إن سيطرة اإلكراه على االتحاد السوفيتي ولدت عند شعوبه ك تحد منه كل الوسائل المتاحة من عمليات تغيير ما باألنفس، إذ كانوا قد فقدوا الثقة،

وسيطرت عليهم األفكار التي تؤدي باإلنسان إلى الهالك، بحيث وصلوا إلى درجةاالستغناء عن الحياة، فضال عن األموال، ولم يعودوا ينظرون إلى الربح والخسارة. إن اإلنسان الذي سيطرت عليه الكراهية لم ولن يقدر على التفكير والسيطرة

على مسيرته، إنه يفقد القدرة على التفكير الهادئ، ويصاب بالرعب والهروب، يحدث هذا بشكل خاص عند الذين لم يتعودوا على المشاركة في اتخاذ القرار، وكان القرار

يتخذ في غيبتهم. إن عدم الثقة، التي تراكمت عليهم عبر السنين لم تمكنهم من اتخاذ قرار اإلبقاء

على االتحاد فيما بينهم.

Page 125: كـــن كابن آدم - Jawdat Said · Web viewكن كابن آدم المحتوى الموضوع الصفحة المحتوى المقدمة تمهيد: لغة الحروف ولغة

يمكن إجراء اختبار على عينات من الناس لقياس درجة سيطرة األفكارواالستمرار على الخطأ.

أظن أنه يفيدنا أن نعرف أن أحدا منهم لم يكن قادرا على إيقاف انهيار االتحاد، وقد حاول بعضهم أن يبقوه باإلكراه، ولكن األوان كان قد فات، وحاول بعضهم أنيبقوه بالرشد، لكن الثقة كانت قد فقدت وضاعت، فكان حكم التاريخ هو التمزق.

إن اإلمكانيات التغييرية ال تعتبر األمر مستحيال أو سهال، بل تعتبره جهودا محددةفي زمن ال يمكن تجاوزه.

الصينيون بين اإلكراه والرشد لعل الصينيين حاولوا أو يحاولون أن يقوموا بعبور األزمة، وربما كانت الثورة

الثقافية محاولة لتجاوز األزمة واالنتقال إلى الرشد، ولكن هل يمكن للصين أن تفعل ذلك؟ هل تكون الصين قوم يونس؟ هل يتمكن الصينيون من تفادي العذاب مثل ما

تفاداه قوم يونس؟ لم يذكر القرآن أمة وال قوما تمكنوا من تفادي العذاب والتعلم من التاريخ إال قوم

يونس. أريد أن أطبق قراءتي للقرآن على وجهين: قراءة إلهية وقراءة بشرية ؛ على قصة

قوم يونس، وعلى القرآن على أساس أن مرجعه هو الواقع. اقرأ اآليات التي سأسوقها لك على أساس الواقع األرضي، ال على أساس

الخوارقي الفوقي العلوي، الذي يفصل العواقب عن األحداث.كيف سنعيد إلى الناس إمكان قراءة القرآن على أساس أرضي؟

كان ابن تيمية يقول في بعض األحيان: أنا ال أستشهد بالقرآن كي تقبله ألنه قرآن، بل أسوق أفكار القرآن على أساس المنطق والعقل، وكمنطق يحاج المنطق. ونحن

نقول بلغة عصرنا اليوم: إننا نستشهد بالقرآن على أساس وعي تاريخي ال ميتافيزيقي.القراءتان التاريخية والماورائية للقرآن

القرآن يشير إلى وجود آخرتين: آخرة في الدنيا، وآخرة بعد هذه الدنيا، إال أن الناس ال يعرفون من القرآن إال آخرة ما بعد الدنيا، والقرآن يشير إلى اآلخرتين حين

}م إال خزي في الحياة)يقول عن الذين يتالعبون بالقانون: فما جزاء} من يفعل} ذلك منك}ردون إلى أشد العذاب( ] البقرة: [، هذه اآلية تدل على2/85الدنيا، ويوم القيامة ي

وجود عذابين: عذاب في الحياة الدنيا، وعذاب في اآلخرة، وعلى وجود مكافأتين:مكافأة في الدنيا، مكافأة في اآلخرة.

له}م في الدنيا خزي وله}م في)وقال تعالى في القرآن عن الذين يمنعون العلم: }ذيقه}م عذاب الخزي في الحياة) [، وقال: 2/114اآلخرة عذاب عظيم( ] البقرة: لن

وا العمى ون، وأما ثم}ود} فهديناه}م، فاستحب }نصر} الدنيا، ولعذاب} اآلخرة أخزى، وه}م ال ي}وا ذين آمن ينا ال }ون، ونج }وا يكسب على اله}دى، فأخذته}م صاعقة} العذاب اله}ون بما كان

ق}ون( ] فصلت: }وا يت [.18-41/16وكان وكما أننا نحرص على التمكن من قراءة القرآن بالقراءتين ؛ كذلك ال بد من

القراءة الدنيوية، على أساس عواقب األفكار واألفعال في الدنيا قبل اآلخرة. إن عدم فهم هذه القراءة، وعدم ربط النجاة األخروية بالنجاة الدنيوية ؛ عطل االستفادة من القرآن، الذي يشير بوضوح إلى أن كل عمل له مكافأة عظيمة في

اآلخرة، له مكافأة كبيرة في الدنيا أيضا، وكلك بالنسبة للعذاب. فقراءة القرآن قراءة تاريخية أرضية دنيوية، تعيد إليه حيويته من جديد، حتى

بالنسبة للذين يؤمنون باآلخرة، ولكن ليس سهال تغيير األفكار التي سيطرت خالل قرون طويلة، وعلى عدد كبير من الناس، في لحظات. ولذلك فإن كلماتي هذه، وإن

Page 126: كـــن كابن آدم - Jawdat Said · Web viewكن كابن آدم المحتوى الموضوع الصفحة المحتوى المقدمة تمهيد: لغة الحروف ولغة

كنت ال أقول: إنها ال تفيد، لكنني أقول: إن جدواها قليلة، قد تؤثر في أفراد قالئل، وترفع مستواهم قليال، أو تحدث لهم ركزا، ومع هذا سأظل أتابع مسيرتي، ألنبه الناس

الذين لم يتعلموا تأويل القرآن بعد. إن العالم اإلسالمي لن يستيقظ دون قرآن، فالمسلمون متمسكون به تمسكا

شديدا، ولهم الحق في ذلك، وتمسكهم غير قابل ألن يزلزل، ولكن علينا أن نعلمهم دعا البن عمه عبد الله بن عباستأويل الكتاب على أساس العواقب، ورسول الله

، ال بد من تأويل الكتاب على أساس(1)قائال: » اللهم فقه في الدين وعلمه التأويل « العواقب، ألنه ال يوجد اآلن، أو قل أن يوجد من أهل الدنيا من يتمكن من فهم القرآن،

أو من يستطيع أن يقرأ منه صفحة واحدة، ألن اآلخرة تبعث في نفوسهم االشمئزاز:}ون باآلخرة( ] الزمر: ) }ؤمن ذين ال ي }وب} ال ت ق}ل [، هل39/45وإذا ذ}كر الله}} وحده} اشمأز

يمكن تقرأ كتابا تشمئز منه؟ كذلك قل أن تجد من أهل الدين من يحسن القراءة الدنيوية، حتى أنني شعرت

بشيء غير عادي حين قرأت قول ابن تيمية في بحوثه في الجدال مع الفالسفة: أنه اليستشهد بالقرآن ليقبلوه ألنه قرآن، بل ألنه منطق وفكر أو نحو ذلك.

كم نواجه اآلن من يقول لنا: ال تذكروا لنا آيات من القرآن؟! وما ذلك إال ألنهم الة.وكذلك الذين يستشهدون بالقرآن نني يفهمون القرآن إال أنه إيمان بالخوارق والالس}

ة. نني قلوبهم مشحونة بالخوارق والالس} ال شك أننا سنجد صعوبة كبيرة، وسيمر وقت طويل حتى نستطيع أن نفهمهم

القراءتين، العواقب الدنيوية والعواقب األخروية، خزي الدنيا وخزي اآلخرة، من أجل ذلك أوجه حديثي، وبشكل كبير، إلى خزي الدنيا، مثل خزي حروب الخليج والحروب

األهلية كلها التي تدل على أننا نستحب العمى على الهدى.نموذج القراءة التاريخية: )قصة قوم يونس(

يبدو أننا ابتعدنا عن مشكلة الصين؟ هل يمكن للصين أن تتفادى العذاب، كماتفاداه قوم يونس؟

فلنقرأ قصة قوم يونس بشيء من القراءة الدنيوية.. في الواقع إن محمد أركون انتبه إلى شيء مهم جدا، وقد كرره كثيرا في كتبه،

وهو أن العالم اإلسالمي بحاجة إلى تيولوجيا جديدة. طبعا هو يستخدم المصطلح الغربي: تيولوجيا، ولكنه يقصد أن المسلمين بحاجة إلى فهم معنى التوحيد، وإلى

تجديد التوحيد، إنه بحسب ما أفهم، يتمنى أن يتمكن المسلمون من أن يفهموا القرآنعلى أساس القراءة البشرية الدنيوية.

لقد تنبه إلى هذا، ولكنه لم يعلم كيف يمكن تحقيقه، وصعب عليه أن يفهمه، وإن شعر بالحاجة إليه، وقد نقلت عنه سابقا قوله: » التاريخ بحسب القرآن ليس من صنع

البشر، بل من صنع الله «.هذه الفكرة المسيطرة تمنع من إمكان قراءة القرآن قراءة بشرية.

أعلم أن كثيرا من الناس يشمئزون من ذكر اسم ابن تيمية أو أركون، ولكن ما دامت األسماء هي التي تتصرف بانفعاالتنا، فسنأخذ وقتا طويال حتى نفهم قانون الزبد، ألن أسماء األشخاص ال تحول الزبد إلى حلية، وال تحول الضار إلى نافع، وال النافع إلى

ضار، األفكار النافعة غير مرتبطة باألشخاص، األفكار الصحيحة ال تتأثر بأسماءاألشخاص، إال في عالم الذين ألغوا النظر إلى العواقب والتاريخ.

إن في األفكار التي أقولها أفكارا سيتأسفون عليها، وعلى الكيفية التي كنت أقرر فيها مثل هذه األفكار الخاطئة، بنفس الطريقة التي نتأسف فيها على خطأ أركون أو

ابن تيمية، ولكن لكل عصر لغته وتأويله لفهم الذرة والمجرة والتاريخ.

Page 127: كـــن كابن آدم - Jawdat Said · Web viewكن كابن آدم المحتوى الموضوع الصفحة المحتوى المقدمة تمهيد: لغة الحروف ولغة

ما شأن أهل الصين، وما شأن قوم يونس؟ اقرأ هذه اآليات قراءة أرضية تاريخية بشرية، ال قراءة سماوية أو أسطورية أو

ذين يقرء}ون الكتاب من)إلهية أو ….: }نت في شك مما أنزلنا إليك فاسأل ال فإن ك}وا ذين كذب }ونن من ال }ونن من الم}مترين، وال تك ك ، فال تك قبلك، لقد جاءك الحق من رب

}ون، ولو }ؤمن ك ال ي ذين حقت عليهم كلمة} رب }ون من الخاسرين، إن ال بآيات الله فتك}ها، إال قوم ى يروا العذاب األليم، فلوال كانت قرية آمنت فنفعها إيمان }ل آية حت جاءته}م ك

عناه}م إلى حين، ولو }وا كشفنا عنه}م عذاب الخزي في الحياة الدنيا ومت }س لما آمن }ون ي}وا م}ؤمنين، }ون ى يك اس حت }كره} الن ه}م جميعا، أفأنت ت }ل ك آلمن من في األرض ك شاء رب

}ون، ق}ل ذين ال يعقل جس على ال }ؤمن إال بإذن الله، ويجعل} الر وما كان لنفس أن ت}ون، فهل }ؤمن ذ}ر} عن قوم ال ي }غني اآليات} والن ماوات واألرض، وما ت وا ماذا في الس انظ}ر}}م من الم}نتظرين، ي معك وا إن ذين خلوا من قبلهم، ق}ل فانتظر} ام ال ون إال مثل أي ينتظر}

}نج الم}ؤمنين( ] يونس: }وا، كذلك حقا علينا ن ذين آمن لنا وال س} }نجي ر} }م ن [.103-10/94ث}نت في شك مما أنزلنا إليك(، إنه يقول لك: ال يجوز لك أن تشك، أو يحرم) فإن ك

عليك أن تشك، وال يفرض عليك األفكار، وال يقول لك: أن الله، ال أقول لك إال الصدق،ماوات)لكنه يدل اإلنسان على ما به يعرف أن الله حق: أفي الله شك فاطر الس

ي، انظر إلى السماوات واألرض، فسرها، هل هذا عبث؟14/10واألرض( ] إبراهيم: الغرب والعبثية

ما هي عواقب تفسيرك العبثي؟ انظر إلى فالسفة الغرب في عصرنا هذا، إنهم يرون الكون عبثا، ولهذا وصلوا إلى العدمية، بل إنني رأيت كتابا بعنوان )الفلسفة

للمبتدئين(، في آخر هذا الكتاب وصل إلى الظواهريين )الفينومينولوجيين( والجينالوجيين والبنيويين والتتفكيكيين، وصور )جاك دريدا( قاعدا عند جدار يريد أن

يفجره، ومكتوب على الجدار: انطح برأسك الجدار. وحتى )سكينر( ذاك العالم الكبير الذي استفدت منه كثيرا، يعتبر أن الالغائية هي

السائدة في الوجود، إنه يعترف بالالهدف والالغائية، وينفي الغرادة عن اإلنسان، ويجعل اإلنسان وحركته مثل حركة القذيفة، ويسخر من الذين فسروا حركة القذيفة بأنها تنطلق مسرعة ألنه مسرورة وتريد أن تصل إلى غايتها، وهو يردي ان يثبت ذلك

في اإلنسان، إن سير اإلنسان مثل سير القذيفة. ال تظنن أن هذا الفيلسوف الكبير ينطلق من فراغ، ال، إنه يقول حقا كثيرا، ولكنه يلغي شيئا صغيرا جدا، أو ال يعطيه قيمة، أو يتجاهله لصغره ولطول الزمن الذي يؤثر

فيه قليال. إنه يرى أن اإلنسان من صنع بيئته المادية والبشرية، ولكنه لم يالحظ نمو البيئة،

واعتبر ذلك غير جدير بالبحث الجدي. نعم نحن ضمن دائرة ثقافتنا، مئات الماليين يعيشون - كما يقول سكينر - في مجتمعهم ويتحركون مثل حركة القذيفة، ولكن خفي عليه أو أمكنه أن يتجاهل أن

بعض أفراد المجتمع ليسوا كالقذائف، وأنهم يريدون أن يغيروا سير المجتمع،ويتمكنون من ذلك.

إن تجاهل هذه األحداث البطيئة يجعل الكون عبثا. لقد بذل سكينر جهودا كبيرة، وكل الجهود التي كان يبذلها إلى آخر حياته، وهو

تحت خيمة األوكسجين، وكل حياته وسلوكاته، كانت مبررة، وال تسويغ لها إال الغائية القائمة في الوجود، وهذا العمل الدؤوب دليل على أنه كان يعمل ضد قناعاته

الظاهرة، ولو لم توجد أهداف وغايات لما وجد لذة في البحث.ما معنى اللذة وما أنواع اللذات؟

Page 128: كـــن كابن آدم - Jawdat Said · Web viewكن كابن آدم المحتوى الموضوع الصفحة المحتوى المقدمة تمهيد: لغة الحروف ولغة

سئل سكينر في مقابلة صحفية عن العواقب السارة التي وجدها في بحوثه،ب )سيرك(، كان يدرب الحيوانات فأجاب قائال: إن أعظم تقدير جاءني كان من مدر

والوحوش، قال هذا المدرب لسكينر: بعد جهودك وأبحاثك التي بينت أن التربية والتغيير ال تكون بالعقوبات، بل بالتعزيز اإليجابي عن طريق المكافآت ؛ جربنا طريقتك

خ السلوك الذي أعقبه تعزيز، ولذلك لم نعد ندرب في تعزيز السلوك الناجح، فترس الحيوانات بالعقوبات، بل بالمكافآت، قال سكينر: هذا أكبر تعزيز جاءني، وأعظم تقدير

حصلت عليه لبحوثي..ر بنجاحه في رفع العذاب حتى عن ر سرورا عظيما بهذا التقدير والنجاح، س} لقد س} الحيوانات، وبيان أن التربية والتقدم االنساني ال يكون بالعقوبات، سره هذا التقدير، وال

حرج في أن شبه سكينر سروره بسرور القذيفة أو حجر المقالع، فأنا ال آخذ منه النظرة الالغائية للوجود، لكنني أقدر} سعيه في بحث القيم، والنتيجة التي وصل إليها

بأن تغيير سلوك اإلنسان ال يكون بالعقوبة بل بالتعزيز اإليجابي. بإمكاني أن أوافق سكينر على هذه النتيجة، وأن أقول: التعزيز السلبي يمكن أن يكون مفيدا في زاوية ضيقة جدا، مثل فائدة بعض األدوية لبعض المرضى، مثل بعض السموم وبعض أنواع الجراحة التي نستخدمها أحيانا، غير أننا ال نستخدم هذه األشياء

دائما، ونظام الحياة ليس قائما عليها، بل إننا نستغني عنها كلما كان ذلك ممكنا، ومتىاستطعنا العدول عنها إلى ما هو أفضل منها.

كم من مساكين مرضى السرطان؟؟!! الذين يتجرعون السموم التي تدمر ، ولكن هذا ال ينفيالمرض والمريض، لعل هذا السم يقتل المرض دون المريض

قانون الزبد، وال يناقض غاية الوجود ومسيرته نحو األفضل.غائية الوجود

إنه اكتشف شيئا مهما، وهو أن مشاعرنا وأحاسيسنا ال قيمة لها، وإن كانت تسير حياتنا، وهذا كشف مهم جدا، ومشاعرنا وأحاسيسنا خداعة وفاسقة، والدليل على ذلك

أننا أخطأنا في تفسير الشمس، غير أن الشمس لم تخطئ سيرها إرضاء ألحاسيسنا ومشاعرنا، وبذلك لم تفسد حركة الكون:» إن يبغ عليك قومك، فلن يبغي عليك القمر

}م لعلى ه}دى أو في ضالل م}بين( ] سبأ:)«، وقد علمنا الله تعالى أن نقول: اك ا أو إي إن [، والعواقب هي التي تفرز الهدى من الضالل.34/24

ليست مشاعري، وال مشاعرك هي المرجع عند االختالف يا سكينر! بل هناك مرجع آخر في الوجود، هذا المرجع ال يبالي بنا، إن له هدف آخر، وإذ انتهينا إلى هدف}ختصر الزمن، وسنحصل على مردود أكبر )خير وأبقى(. الوجود ؛ فستقل الجهود، وسي

هذه هي غاية الوجود، ومن أراد أن ينكر هذا فله الحق في اإلنكار، واعتقد أن الذيينكر هو الذي يدفع الثمن.

من أجل هذا أشعر أن الحضارة الغربية تعيق حركة البشر، وقد كان باإلمكان تقليل الجهود واختصار الزمن والحصول على مردود أكبر من الخير واألبقى، لكن في

مجموعهم يعطلون سير التاريخ ألنهم يفرضون فيه العبثية حتى في مستوى كبارمفكريهم.

ينبغي أن نقدر لبعضهم ما بذلوه من جهود، وروجيه غارودي إنما جعل فلسفته وكل همه في إعادة المعنى إلى الوجود اإلنساني، ألنه شعر أن العالم م}فرغ من

المعنى، ومن الغائية والهدف، حتى إن هذا المفهوم سيطر على بعض أكثر شبابنا ذكاء، مثل فايز فوق العادة رئيس الجمعية الكونية السورية بدمشق، وهو ورفقاؤه

يذكرون أسماء ونظريات الكم والاليقين، وبمثل هذه المبادئ واألفكار يفرغون الوجود من المعنى، وليس غير االنتحار نهاية لمن تسيطر مثل هذه األفكار عليه كليا، ولو كان

Page 129: كـــن كابن آدم - Jawdat Said · Web viewكن كابن آدم المحتوى الموضوع الصفحة المحتوى المقدمة تمهيد: لغة الحروف ولغة

الذين ينادون بالالهدف منسجمين مع أنفسهم لما جاز لهم أن يبذلوا أي جهد في سبيلأي غاية.

ك: القرآن والشما الذي جعلني أخوض في هذا كله؟

}نت في شك مما أنزلنا إليك( ] يونس: )إنه قوله تعالى: [. في هذا10/94فإن ك الكالم نجد جواز الشك، بل وجوبه، حتى ال نقع في العدمية، فنحن نستطيع أن نشك،

بدون عدمية، للوصول إلى وجود أفضل ال إلى وجود أسوأ.ماذا نفعل إذا حدث لدينا شك؟

نسأل الذين يقرؤون، والذين قرؤوا من قبل وكتبوا وفكروا، نسأل كتب األرضيين والسماويين، ولكن الكتاب السماوي يردنا إلى الوقائع األرضية، إلى الذين نقلوا

الكتاب، والكتاب أيضا وسيلة لحل المشكالت، فلننظر إلى الذين حلوا المشكالت، إلى الذين عجزوا عن حلها، ينبغي أن ننظر إلى الكتاب كواسطة مساعدة لالنتقال من الذين حلوا المشكلة إلى الذين لم يحلوها بعد، وال يتمكنون من حلها، لمساعدتهم

وإفادتهم من تجارب غيرهم عبر الكتاب، ليقوموا بعملية التغيير.إذا كنت في شك، فينبغي أن تحدد الموضوع الذي تشك فيه:

أوال: أنا ال أشك في أن العالم يتقدم إلى األفضل،فبعد النباتات خلقت الحيوانات، وآخر الحيوانات هو اإلنسان، وقد بدأ اإلنسان بالمساهمة في تسريع الخلق واختصار

الزمن. علينا أال نشك بهذا في عمومه، وإال سقطنا في العبث والعدم والسوفسطائية، ولكن بعد هذا علينا أن نشك كثيرا، وأن يحملنا الشك على تبين السلوك الراشد من

السلوك الخاطئ الغاوي. ولكن بعد هذا علينا أن نشك كثيرا، وأن يحملنا الشك على تبين السلوك الراشد

من السلوك الخاطئ الغاوي. علينا أن نتبين الرشد من الغي، علينا أال نسلك الطريق الذي يأخذ وقتا طويال

وجهدا كبيرا، وال يحل المشكالت، بل يبقينا بعيدين عن الحل، إذا لم نهجره بالكلية. علينا أن نسلك الطريق الذي يأخذ منا وقتا قصيرا وجهدا قليال، وبمجرد أن نبدأ به

تتيسر األمور،ونبدأ باالقتراب من الحل، والحصول على مردودات أثمن. هذا ما ينبغي أن نشك فيه، ال أن نبقى متبلدين نبذل أموالنا وأنفسنا في سبيل

الخراب واليباب، فنخجل من أنفسنا، ومما ارتكبناه، وال نعرف كيف نخرج منه. علينا أن نشك، وأال نكون من الذين كذبوا بآيات الله، أال نكون مثل ثمود الذين

استحبوا العمى على الهدى. نحن ال نشك في األهداف، أهداف العرب والمسلمين، ولكننا نشك كل الشك في

األساليب التي يريدون أن يحلوا المشكالت بها، بل إنني أقول: ليس عندهم أسلوب لحل المشكالت، فهم في حيرة وعماء، وقد ثبت فشل حلولهم القديمة، ووصل األمر

إلى ظهور أن هذه الحلول القديمة ؛ حلول اإلكراه، حلول المهديين، حلول األبطال القوميين، وصلت إلى طريق مسدود سدا محكما، بعد أن كنا ننظر إليها، في يوم من

األيام، على أنها ممكنة.نهاية الحلول البطولية

كانت الدولة العثمانية آخر أبطال العصور، ولكن أساليبها القديمة كانت قد لفظت أنفاسها األخيرة في معركة )إمبابة( بين نابليون والمماليك، وكان أول المغامرين، بعد

أن فات أوان تلك البطوالت، محمد علي باشا، الذي أراد أن يحارب بجيشه الضخم،ولكن بعد أن فقد كامل الروح.

Page 130: كـــن كابن آدم - Jawdat Said · Web viewكن كابن آدم المحتوى الموضوع الصفحة المحتوى المقدمة تمهيد: لغة الحروف ولغة

لقد مضى نحو مئتي عام، وال زالت جثة سليمان بيننا، لم تسقط بعد، ونحن ال زلنا في العذاب المهين البثين، لم نعرف ما الذي حدث في العالم، ولم ندر ما الذي مات،

وما الذي ولد. هل يمكن أن تكون حرب الخليج هي دابة األرض، التي ستجعلنا نودع الحلول

البطولية اإلكراهية؟}خدع بتلك األشباح والمومياءات؟ هل سنظل نفرح بالثورات الدموية، هل سنظل ن

ونعلق عليها آمالنا، ويظل شبابنا يقدمون أنفسهم قرابين إلله الحرب والعنف واإلكراه؟ هل سيظل شيوخنا سكوتا، ال يحسنون إال السكوت على هذه األشياء؟ هل

سيظلون يدينون هذه التصرفات إدانة مجانية علنية، ويحثون الشباب سرا علىاالستمرار فيها، بحيث ال يتحملون وزرهم؟

أما ينبغي علينا أن نرشدهم إلى طريق وحل أنظف وأطهر واقدس، وأن نأخذبأيديهم ونعلمهم؟

الشك بين الوسائل والغايات}عوزنا، فنحن لم نتبين بعد الرشد من الغي، إن مشكلة التعليم واإلرشاد هي التي ت ولم نعرف سبيل الرشاد من سبيل الغواية، وليس عندنا رشد وال رشاد، فقدناهما من

زمن بعيد، ويئسنا من إمكانية إعادتهما. ليست المشكلة في األهداف، ليس الشك في الغايات، الشك في الوسائل، نحن ال نشك في األهداف، فإن كنت في شك منها فال حرج، ولكن علينا أال نخلط بين الذي

مشكلته في األهداف، والذي مشكلته في الوسائل. إنني أتحدث إلى الذين يشكون في الوسائل، كيف نحرر فلسطين، كيف نوحد

العرب، كيف نجعل العرب والمسلمين يثق بعضهم ببعض … فإن كنت في شك من األهداف، فنحن ال نبحث هذا اآلن، ربما نعود إليه فيما بعد،

نحن ال نحذفه مطلقا، بل نضعه اآلن جانبا.بل الموصلة إلى األهداف، وقد أبرز الله علينا أن نبحث في الوسائل، في الس

خذ}وه} سبيال، وإن يروا سبيل الغي)تعالى أهمية السبيل: شد ال يت وإن يروا سبيل الرخذ}وه} سبيال( ] األعراف: [.7/146يت

إن الخسارة هي الدليل على الخطأ في السبيل والوسيلة، فالموضوع موضوع ربحوخسارة، ال موضوع خبث وطيبة، إيمان وكفر.}ونن من)إن التكذيب بطريق الرشد هو الخسارة: }ونن من الم}مترين، وال تك فال تك

}ون من الخاسرين( ] يونس: ه فتك }وا بآيات الل ذين كذب [.95-10/94الكن معي في معنى الخسارة الدنيوية، وال تنس ما ذكرتك به آنفا!!..

أنا هنا في الدنيا، وأريد أن افهم معنى الربح والخسارة، فال تكن في مرية من أن ربح العرب والمسلمين في أن يتفقوا اتفاقا مثيال التفاق األوروبيين، من غير أن يخسر أحد شيئا ويربح الجميع، من غير عنف وال إكراه، بل بإيمان ويقين، لو بدأنا بهذا قطر ال

قطران، وظل متمسكا به، لوجد من يتعاون معه، وإذا وجدت جماعتان متعاونتان،فستنضم إليهما ثالثة، وهكذا …

ما أريد هو إال نكون في مرية من األهداف، فالنماذج موجودة، ولكن كيف ننقلها،وما هي العقبات الداخلية والخارجية التي تجعل نقلها صعبا؟

أنا جاهز ألبحث معك مشكالت الطريق، مشكالت سبيل الرشد وسبيل الغي، منأجل هذا أكتب، وسأسجل في وصيتي للشباب أن يكملوا ما بدأت به وأن يتقدموا به.

Page 131: كـــن كابن آدم - Jawdat Said · Web viewكن كابن آدم المحتوى الموضوع الصفحة المحتوى المقدمة تمهيد: لغة الحروف ولغة

لماذا نعجز عن سلوك سبيل االتحاد األوربي؟ لماذا عجز االتحاد السوفيتي عن التحول السلمي فتمزق؟ ماذا سيكون شأن الصين؟ كيف سيقبل العرب والمسلمون

مثل هذا االتفاق؟}وربي وسبيل االتحاد السوفيتي سبيل االتحاد األ

ال تكونن من الممترين ؛ من المكذبين، من الذين يندفعون في طريق الخسارةى يروا)والتدمير: }ل آية حت }ون، ولو جاءته}م ك }ؤمن ك ال ي ذين حقت عليهم كلمة} رب إن ال

[.97-10/96العذاب األليم( ] يونس: نحن نرى إلى اآلن أمما تتمزق كما تمزق االتحاد السوفيتي، وأمما تتوحد كما توحد األوربيون الغربيون، وأخرى تنزف ويذيق بعضها بأس بعض، ألنها ترفض سبيل الرشاد،

وال تستفيد من اآليات وتكذب بها.ك)ال تكونن من الذين كذبوا فتكون من الخاسرين: ذين حقت عليهم كلمة} رب إن ال

}ون..(. }ؤمن ال ي لو أمكننا أن نحول اللغة السماوية إلى لغة أرضية تجارية بحتة، ألمكن فهمها

بشكل أكبر، ولو أمكننا أن نجعلها لغة تربوية تغييرية، ووعيا ينبغي نشره في األمة، وعيا محسوسا بنوعه وكمه وتكاليفه من الجهود، وساعات العمل، أو محسوبا بالدوالر

كما يفعل بعضهم، ألجل التوعية ونشر المعرفة بشكل محسوب من الذرة إلى المجرة، لو فعلنا ذلك ألمكننا أن نفهم أن اإليمان المحسوب هو اليقظة الواعية، وهو

الذي يدفع العذاب أو يقلل منه.}ون(، وحين يقول:)حين يقول الله تعالى: }ؤمن ك ال ي ذين حقت عليهم كلمة} رب إن ال

وا ما بأنف}سهم( ] الرعد: ) ر} }غي ى ي ر} ما بقوم حت }غي ه ال ي [ ؛ فهذا يعني أن13/11إن الل كلمة ربك هي أنه ال يغير ما بهم من الخسارة والنقمة حتى يغيروا ما بأنفسهم، وتغيير

ما بالنفس ال يكون إال باالطالع على ما يحدث في العالم، وبالتأمل في الكيفية التي يحدث بها، وبالنظر فيما تغير في اآلخرين حتى غير الله ما بهم، وبالكشف عن سبيل

الرشد، واالجتراء على سلوكه، ألن الدعوة إلى هذا السبيل تحتاج إلى جرأة، ودليل ذلك أن احدا ال يجرؤ على ذكر هذا الحدث، حدث االتحاد األوربي، وذلك يعود إلى أن ،األوربيين خصوم تقليديون لنا، وخصومتنا لهم مثل خصومة أبي جهل مع رسول الله

وجحد}وا بها)فهو خصمه حتى لو علم أنه رسول الله، وأن ما جاء به هو الحق: }وا، فانظ}ر كيف كان عاقبة} الم}فسدين( ] النمل: ه}م ظ}لما وع}ل واستيقنتها أنف}س}

27/14.] ال بد من التحليل، ال بد من نتح بئر القلوب وإخراج ما فيها من فساد ووهم وظلم

وعلو، والظلم هو االحتفاظ باالمتيازات، وعدم القبول بالسواء بين البشر، والسعي لالرتفاع فوق البشر مع الشعور بأنهم حقراء، وأنه ال يمكن أن يكون فيهم خير،

واالدعاء بأنهم فاسدون وأقذار وأدناس.أوربة والعذاب األليم:

كيف نشعر أنه ال زال في الناس خير؟ كيف نحلل المشكالت التي تحول بيننا وبينقبول اآليات؟

ى يروا العذاب) }ل آية حت }ون، ولو جاءته}م ك }ؤمن ك ال ي ذين حقت عليهم كلمة} رب إن ال [.97-10/96األليم( ] يونس:

الملجأ األخير لفتح العيون هو العذاب األليم الذي يجره على نفسه، وعلى المصلح}حذر حتى يعذر: }م)أن ي ه … قد جاءتك }د}وا الل عيبا، قال: يا قوم: اعب وإلى مدين أخاه}م ش}

}وا معك من ذين آمن عيب} وال ك يا ش} }خرجن وا من قومه: لن ذين استكبر} } ال نة … قال المأل بي}وا ب ذين كذ جفة} … ال ا كارهين … فأخذته}م الر }ن تنا. قال: أولو ك قريتنا أو لتع}ود}ن في مل

Page 132: كـــن كابن آدم - Jawdat Said · Web viewكن كابن آدم المحتوى الموضوع الصفحة المحتوى المقدمة تمهيد: لغة الحروف ولغة

ي، }م رساالت رب }ك ى عنه}م، وقال: يا قوم لقد أبلغت }وا ه}م الخاسرين، فتول عيبا كان ش}}م، فكيف آسى على قوم كافرين؟؟!! وما أرسلنا في قرية من نبي إال ونصحت} لك

ع}ون( ] األعراف: ه}م يضر اء لعل [.94-7/85أخذنا أهلها بالبأساء والضرى يروا العذاب) }ل آية حت }ون، ولو جاءته}م ك }ؤمن ك ال ي ذين حقت عليهم كلمة} رب إن ال

[.97-10/96األليم( ] يونس: الخسائر ال قيمة لها، وحتى العذاب األليم فإنه يحتاج إلى تكرار، وال بد لنا من تأمل

حال أوربة حتى نعلم أن العذاب ال يكفي، فكم من الحروب قامت، وكم كان عند الناس من قابلية لالنتحار، وهذه القابلية ليست طاقة سلبية، بل هي قابلة لالستخدام

المزدوج، في الخير وفي الشر، غير أن التحول الثقافي مثل التحول الجيولوجي، بطيء وراسخ، وهو مع ذلك قابل للتسريع واالختصار واالختزال، بمعرفة قوانين وآليات ووسائل تغيير ما باألنفس، وعندها فإن ما يحدث تلقائيا، يمكن أن يصير صناعيا، ولهذا

جاء خرق القانون بشكل سنني ال بشكل مجازي، فهل نزول العذاب حتم، وهل ال بد أن تهلك القرى؟ هل الهالك مصير كل الحضارات؟ أال يمكن تفادي االنتحار؟ هل

االنتحار حتم ال بد من وقوعه؟ الفصل السابعمذهب} الرشد

مذهب ابن آدم واألنبياءالحضارات وتحدي الهالك

في آخر كتابه )دراسة التاريخ( تردد توينبي في تقرير هذا االتجاه أو ذاك، وواجهالموضوع، ولكن التاريخ لم يسعفه، بمن تمكن من االستجابة الناجحة للتحدي.

لقد قرأت ما كتبه توينبي في هذا الموضوع، بشغف ويقظة، وكنت أضع يدي على قلبي، وأقلب بصري ونظري، فالقرآن يكاد يوحي، لمن ال يدقق النظر، بأن الهالك

حتمي، وأن الحضارات زائلة.ة أن تتمكن من االستجابة للتحدي، ولكن وأرنولد توينبي تمنى للحضارة المسيحي

}ظهر أنه غير متفائل في أمنيته هذه. كالمه كان ي وإذا كان ابن خلدون قد كشف قانون الدولة، وسنة وال دتها ونموها، ثم تراخيها

وفنائها، فإن آرنولد توينبي كشف قانون الحضارات، في بدئها ونموها واستطالتها، ثم انهيارها، ثم تحللها، ولكنه لم ينتبه إلى حركة أخرى في التاريخ، هي حركة النبوة التي

صحبت البشرية من عهد آدم، واستمرت وترسخت، إلى درجة أنها صارت قانونا يمكن للبشر ألن يتابعوه بوضوح، وإذا كان توينبي قد تمكن، وبفضل فاوست، من كشف

قانون التحدي في الحضارات، فإنني، وبفضل القرآن ومراقبة التاريخ، تنبهت إلى دورةغير دورة الدولة، وغير دورة الحضارة.

الدورة التي تنبهت إليها، ليست مثل دورة ابن خلدون، ال تقدر بأربعة أجيال، أي ( سنة، وليست مثل دورة الحضارة التي وضعها توينبي، والتي يمكن150-120نحو )

}م من)أن تعيش آالفا قليلة من السنين، أو تتجمد قبل اكتمالها: }توفى ومنك }م من ي ومنك}رد إلى أرذل الع}م}ر( ] الحج: [، إلى الفناء، مثل الحضارة الفرعونية، حضارة22/6ي

وادي النيل، وحضارات دجلة والفرات. الحضارة التي تنبهت إليها ينبغي أن نبتكر لها اسما جديدا، قد نقول: إنها كدح

اإلنسان، أو السعي الكادح، فالحضارات السابقة كانت محصورة باسم معين، حضارة كذا وكذا، ولكن علينا أن نضع لكدح اإلنسان وسعيه المتواصل اسما، ال يكون قوميا،

ها)وال وطنيا، اسما يستوعب اإلنسانية، هذه هي حركة اإلنسان الكدحية إلى الله: يا أيك كدحا فم}القيه( ] االنشقاق: ك كادح إلى رب [، بدأ هذا الكدح من84/6اإلنسان} إن

Page 133: كـــن كابن آدم - Jawdat Said · Web viewكن كابن آدم المحتوى الموضوع الصفحة المحتوى المقدمة تمهيد: لغة الحروف ولغة

ي جاعل في األرض خليفة( ] البقرة: )قوله تعالى: [، ونهايته تكون بتحقق2/30إني أعلم} ما ال تعلم}ون( ] البقرة: )علم الله الذي قال: [، وكم كرر القرآن2/30إن

مقولة: )وإليه المصير(، )وإليه ترجعون( …، وسيتحقق علم الله في هذا اإلنسان:اس ال يعلم}ون( ] يوسف: ) ه} غالب على أمره، ولكن أكثر الن [.12/21والل

األنبياء وحركة الكدح اإلنساني هذا الكدح اإلنساني هو ما أنظر إليه، وهو ما أراه في ضوء النبوات التي تسلسلت

، سلسلة نبوات دعت جميعها إلىمن لدن آدم وابنيه، إلى نوح وإبراهيم، حتى محمد نمط جديد في سعي اإلنسان، صدق بعضهم بعضا، وبشر بعضهم ببعض، إلى أن ختمت النبوات بالقرآن الذي يأمر اإلنسان بالنظر إلى التاريخ، ليكشف قانونه، وينبهه إلى أنه

إن لم يتمكن من فهم القانون، فسيأتيه من األنباء ما فيه مزدجر. هذه الحركة النبوية، هي التي تتقدم في المستقبل المنظور، وسيحقق الله وعده،

وسيضطر الناس للدخول إلى هذا الذي جاء به األنبياء، وسيتمكن البشر من إيقاف الصد عن سبيل الله من دون صد آخر، وسيتقدم الناس إلى األفضل حتى يقبلوا

الدعوة إلى كلمة السواء، فال يهيمن بعضهم على بعض، وال يستبعد بعضهم بعضا،ويكفوا عن الطرق الخادعة التي توحي إليهم بإمكان إزالة اإلكراه باإلكراه.

تطهير القلب واليد واللسان أشعر أن اإلغراء، إلى اآلن، ال زال شديدا، فكان العالم ال يستقيم إال باإلبقاء على سبب الفساد، فنحن لم نتمكن من أن ننفي من نفوسنا اإلكراه الذي نفاه الله تعالى

ال إكراه في الدين(، وأنا أشعر أنه إذا خرج من قلوبنا، فسيزول عن ظهورنا.)بقوله: إن اإلكراه مرض في القلب، وما دام هذا المرض في القلب فلن يحل فيه الرشد

أبدا، ألن ما يسلط على ظهرك هو ما في قلبك. ابحث عن أعماق قلبك، فتش عن حب اإلكراه الكامن فيه، فتش عن اإلكراه الذي

تحب أن تمارسه على اآلخرين، وال تحب أن يمارس عليك. إن ظنك بأن العالم لن يستقيم حتى تكون أنت المكره لآلخرين ؛ هو الجرثوم

الحي القابل لالنفجار في كل لحظة، ولن يخرج هذا الجرثوم من قلبك إال إذا قبلت بأنتكون مثل ابن آدم، ألن ابن آدم هو الذي أخرج حب اإلكراه من قلبه.

من هو الطبيب الذي سيصور القلب، ليتمكن من كشف هذا المرض الخبيئ الكامن فيه؟ من هو الذي سيتمكن من تخطيط القلب، ليقبض على إشعاعات اإلكراه

فيه؟كأنني وصلت إلى نقطة بدء المشكلة، وانعقادها، ووالدتها!!..

أال أيها األخ العزيز! لن يسلم قلبك، ولن تكون ذا قلب سليم، ولن ترجع إلى ربك بقلب سليم، مثل إبراهيم الذي أتى ربه بقلب سليم، ما دمت تنكر اإلكراه من اآلخر، وتستهجن اإلكراه الذي في قلبه، بينما تريد التغلب عليه، عن طريق مواجهته باإلكراه

نفسه الذي تنكره عليه، وبذلك تكونان مريضين كالكما، ومآل المريضين واحد، وهواستمرار العذاب.

إذن، ابدأ بتنقية قلبك ولسانك ويدك، فإن يدك من لسانك، ولسانك من قلبك. ابدأ من المنبع، لتجففه، ابدأ بالسالم بالقلب السليم، فرغ قلبك من اإلكراه والغل والمرض

لحظة واحدة، وعندها تذوق لحظة سعادة القلب السليم.أواه، أواه، ما أكثر ما أوحوا إلينا بأن الحل هو بأن نمأل قلوبنا بالحقد والكراهية.

إن إبراهيم األواه الحليم كان ذا قلب سليم، فأين من يشبع فينا سالمة القلب؟ أين الطريق إلى شراء القلب السليم؟ من هو الذي سيكرس حياته لفهم معنى سالمة

القلب، وتفهيم سالمة القلب بعلم جديد؟

Page 134: كـــن كابن آدم - Jawdat Said · Web viewكن كابن آدم المحتوى الموضوع الصفحة المحتوى المقدمة تمهيد: لغة الحروف ولغة

هذا ما جاء به األنبياء، هذا منهجهم، هذا هو الحرم الذي ال يمكن أن يدخله عابد أوثان، ال يمكن أن يدخل إليه إال بالل وسمية، ألنهم هم الذين بنو تاريخ اإلسالم، ونحن،

بحالتنا هذه، نزعنا هذا األساس، ونبذناه وراء ظهريا، وشعرنا أن من العيب أن نكون مثل ذاك العبد الذي قبل الذل والهوان، ولم يرد على العدوان، ولم نعلم أن من لم

}سخت من }سخ ألن مرحلة بالل ن يمر بمرحلة بالل فإنه ينسخ اإلسالم، وأن اإلسالم قد نحياة المسلمين.

إن أحمد بن حنبل كان على رائحة من مسك بالل، ولو جعلنا موقف ابن حنبل منهجا لنا، ألحيينا منهج األنبياء، ولكننا لم نلتزم منهج األنبياء، وال منهج بالل، وال منهج

ابن خلدون، وال منهج أبي ذر. أنا ال أبحث عن أهداف ابن حنبل، وال عن أهداف ابن أبي داؤد، ولكنني أبحث عن

المنهج الذي اتبعه أحمد بن حنبل في مواجهة اإلكراه، وإن كان الحنابلة قد فسروا منهجه تفسيرا خاطئا، ولم يلتزموا منهجه، بل تحولوا إلى منهج ابن أبي داؤد، إلى منهج

المعتزلة وأسلوبهم في األمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والمعتزلة يشاركونالخوارج في وجوب الخروج على األئمة الضالين بالسيف.

الزيغ وااللتباس ما أشد ما التبست األمور، وهي ليست صعبة وال سهلة، ولكن علينا أن نفهم كيف يمكن أن يختلط الدنس بالمقدس، وكيف تشتبه التزكية بالتدسية، وكيف يعيش الناس

على االلتباس واالشتباه. إن القلوب المريضة، والتي فيها زيغ، هي التي تتبع ما تشابه منه، وكذلك القلوب

التي فيها اإلكراه والفتنة. اكشف العالقة بين االلتباس واالشتباه، وبين القلوب التي فيها زيغ، واقرأ مرة

ذي أنزل)أخرى، على نية جديدة وضوء جديد، على أشعة إكس قوله تعالى: ه}و الذين في }خر} م}تشابهات فأما ال }م الكتاب، وأ عليك الكتاب منه} آيات م}حكمات ه}ن أ

ه} بع}ون ما تشابه منه} ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله، وما يعلم} تأويله} إال الل }وبهم زيغ فيت ق}لا به( ] آل عمران: }ون: آمن اسخ}ون في العلم يق}ول [.3/7والر

كيف تشتبه الفتنة بالرشد؟ هل تبين الرشد من الغي أم التبس التباسا شديدا؟ حين أقول: منهج األنبياء، وحركة النبوة، وكدح اإلنسان، واتجاه التاريخ، وحين

أقول: إن أوان الدين والنبوة لم يأت بعد، فذلك لن الناس ما يزالون ال يعرفون إال دفعتي هي)السيئة بسيئة مثلها أو أسوأ منها، أما: ئة} ادفع بال ي وال تستوي الحسنة} وال الس

( ] فصلت: ئة قبل الحسنة( ] النمل:) [، و 41/34أحسن} ي }ون بالس لم تستعجل [، وان هذه هي طريق تحويل العداوة والبغضاء إلى حب ووالية وأخوة حميمة،27/46

فهذه بضاعة ال يوجد عند الناس خبر عنها. تفكر في الكيفية التي يؤذي بها بعضنا بعضا، والكيفية التي نزيل بها اآلخر كله ال

موقفه فقط، فنحن ال نفكر في الكيفية التي نحول بها العداوة إلى محبة، ولكننا نفكرونحصر تفكيرنا في الكيفية التي نزيل بها العدو بشخصه ووجوده.

فكر، ولو للحظة واحدة، كيف أن هذا الموضوع موطن اشتباه وضياع وتيه!!}م من) وا ما بصاحبك ر} }م تتفك ه مثنى وف}رادى، ث }م بواحدة أن تق}وم}وا لل ما أعظ}ك إن

ة( ] سبأ: [.34/46جن}وبهم زيغ( ] آل عمران: )ليس هذا جنونا … [، ما هو الزيغ؟ ما هو3/7في ق}ل

الغي؟ ما هو البغي؟ ما هي الكراهية؟

Page 135: كـــن كابن آدم - Jawdat Said · Web viewكن كابن آدم المحتوى الموضوع الصفحة المحتوى المقدمة تمهيد: لغة الحروف ولغة

ئة}( ] فصلت: )الله تعالى يقول: ي [، ولكننا41/34وال تستوي الحسنة} وال الس نقول: ال بل تستوي الحسنة والسيئة، وأكثر من هذا نقول: إن أسلوب السيئة أفضل

من أسلوب الحسنة.أليس هذا زيغا وضالال؟

ال إكراه في الدين)إننا نظن أن اإلكراه هو الرشد، والله يقول: اإلكراه هو الغي: شد} من الغي( ] البقرة: ن الر [.2/256قد تبي

حين يلتبس على اإلنسان هذا األمر ؛ يكون قد بدأ بداية خاطئة، واالتجاه الخاطئيقود إلى عالم مليء باألخطاء.

لقد هجرنا الرشد منذ زمن بعيد، ولم تعد لدينا قدرة على إعادة النظر والتفكير،هجرنا الرشد، وقبلنا مقابلة الغي بالغي، وصرنا غيا يقتل غيا، والرشد غائب تماما.

}خرج الرشد من غيابه، ولنتعرف أريد أن أخاطب الناس وأقول لهم: أيها الناس! فلنعليه، ولنبحث عن بعض سماته األساسية.

الرشد هو الذي يأتي بدون إكراه، والغي هو الذي يأتي باإلكراه، وقد بقي هذا واضحا جليا، ولم يضع خالل التاريخ كله، ولذلك علينا أن نفكر في الوسائل الكفيلة

بإعادة الرشد إلى حياتنا. سنعود إلى بحث هذا الموضوع مرة أخرى، ولكن فلنعد اآلن إلى آيات سورة

يونس.الكفر الدنيوي والكفر األخروي

إن لقوم يونس شأنا في التاريخ البشري، وقد قلنا: إن توينبي لم يكن متفائال من إمكان دفع عذاب الله عن األمم، ولكنني متفائل من ذلك، متفائل أوال من أن علم الله

سيتحقق، وأن نور الله الذي يتألق خالل ظلمات التاريخ ال يمكن إطفاؤه، مهما كانهناك من يريد أن يطفئ نور الله، فغن نور الله في التاريخ لن ينطفئ.

إنني أراه في الواقع، ليس إيمانا بالغيب، بل إيمان بالشهادة، ألنه صار شهادة، والتاريخ شاهد على ذلك مهما كثر الذين يجهلونه، ومهما زينوا تشاؤمهم. مهما ذكروا

السيئات، فإن الحسنات يذهبن السيئات، وفهم القرآن للتاريخ فهم تفاؤلي ليستشاؤميا، وال عدميا، وال سوفسطائيا.

ة والتشاؤم هو الذي يولد اليأس والزيغ والكفر، وكلمة الكفر كلمة إن مرض العدمي مشحونة بالمعاني الغيبية، وال حرج أن يكون لكلمة الكفر معنى غيبيا، ولكن لها معنى

أرضيا أيضا، فللكفر واقع اجتماعي دنيوي، فمثل عذاب الدنيا وعذاب اآلخرة، هناك كفر الدنيا وكفر اآلخرة، والفالح كافر، ألنه يغطي البذور في الترب، ويغطي التربة بالزرع، وكما أن هناك جنات دنيوية وأخروية، هناك كفرات دنيوية وأخرى أخروية، أي مزارع، والكفر هو المزرعة، وكل الذين يسيرون ويخفون أشياء، فال يعود الناس يرونها، هم

الكفار، والمكان الذي يعملون فيه ذلك هو الكفر والجنة والبستان والمزرعة …}حمل على الكفر الديني إن الكفر الدنيوي هو الوقوع في االلتباس، وينبغي أال ي الذي يعني إنكار الدين والتكذيب به، ونحن عبر التاريخ شحنا كلمة الكفر بشحنات

متفجرة هائلة، إلى درجة أن الكفر صار في العالم اإلسالمي رديفا لإلعدام، وتحولت}طلق عليه، خاصة كلمة كافر التي تستخدم للضرورة، إلى كلمة تعني وجوب قتل من ت

حين تطلق على مسلم، عند ذلك فإن كل من يتمكن من قتله يكون بهذا العمل متقرباإلى الله!!..

متى سيتعلم المسلمون من القرآن أن الكفر ليس سببا لجواز القتل، وجواز أووجوب الجهاد القتالي؟

Page 136: كـــن كابن آدم - Jawdat Said · Web viewكن كابن آدم المحتوى الموضوع الصفحة المحتوى المقدمة تمهيد: لغة الحروف ولغة

متى سنخرج من الحروب الكالمية اللفظية التي تسبب لنا حروبا مثل حربي الخليج؟ حيث كان كل طرف يتهم اآلخر بالكفر، ودفعا لهذه التهمة كانوا يرفعون

الرايات، رايات القرآن، رايات )ال إله إال الله محمد رسول الله(، و )الله أكبر(.متى سنحل هذه المشكلة العويصة؟!.

الدكتور البوطي وكتاب الجهاد حين صدر كتاب )الجهاد في اإلسالم ؛ كيف نفهمه؟ وكيف نمارسه؟( للدكتور

محمد سعيد رمضان البوطي، هتفت} وقلت: لن يكون العالم اإلسالمي بعد هذا الكتاب كما كان قبله. لم أقل هذا ظنا مني بأن العالم اإلسالمي سينقلب بين عشية وضحاها إلى عالم آخر، ولكن حين يعيد رجل في وزن الدكتور البوطي إلى ساحة المسلمين، فكرة أن الكفر ليس سببا في جواز قتل النفس التي حرم الله، وان الجهاد لم يشرع

إلزالة الكفر، فإن هذا، وال شك، تقدم ودخول في عملية اإلصالح اإلسالمي. حين أقول: يعيد إلى ساحة المسلمين، فإنني أقصد أنه لم يأت بشيء جديد، ولم

يبدع أمرا خارقا، بل أحيا شيئا ضيعه المسلمون، وأبرز أمرا مستبعدا، وأخرج إلىة منسية، وأعاد إلى حياة المسلمين منهج النبوة. ومهما كثر القيل والقال، ن الوجود س} ودارت مناقشات واعتراضات، وتداول الناس التأويالت والتفسيرات، فإن هذا تقدم ال

ينكر، وسعي إلى اإلصالح ال بد أن يشكر. وأنا ال أشك بأن دراسة هذا الموضوع، وإعادته إلى ساحة النقاش، عالمة صحة، وخطوة نحو ترشيد الصحوة، وإزالة الشبهات وااللتباسات، وأرى أنه ما لم نحرر هذا

الموضوع ؛ فال يمكن إيقاف الحرب بين المسلمين. إنني على يقين من أن كل من أراد أن يبحث هذه المشكلة في مصادر اإلسالم

سيتوصل إلى ما أبرزه الدكتور البوطي في كتابه، وما أظن أن عالما، مهما كانت درجة معرفته اإلسالمية، يقول: إن الحكم الذي يأتي بالغلبة والبغي هو حكم مشروع

إسالميا، والنزاع إنما يدور حول تقدير أي الباغيين أفضل، أو أيهما أقل بغيا. ولكن العلماء، ع هذا، يسكتون عن هذا األمر الذي ال خالف فيه، وهو أنه ال يمكن

إعادة الرشد بالغي، وإعادته ال تكون إال بالرشد. لقد تهاونوا في هذا األمر، ولم يدققوا فيه، رجاء أ يتحول الحال إلى أفضل على يد

بعض البغاة، وقد فتح كتاب الجهاد الباب للبحث بمستوى غير عادي، ونرجو أن يكون بداية لتصحيح مسار الحركة اإلسالمية في العالم المعاصر، والعودة إلى األصول

اإلسالمية التي ال يتنازع فيها اثنان، وإن كانت مهجورة ومؤجلة. إن هذا الكتاب خروج من التأجيل، وعودة إلى األصل المنسي أو المتناسى، وليس هذا ما في الكتاب فقط ؛ بل فيه شيء كبير آخر، شيء أخذ القسم األول من الكتاب،

وهو بحث أهمية الدعوة وإعادة الحياة إلى المبادئ اإلسالمية، وفي هذا القسم بدا يعطي األولوية للفقه والمعرفة، وليس للقوة والبطش والغي والبغي، وهذا االتجاه

تغيير في مسار الحركة اإلسالمية، وإيضاح لحقيقة أن الفقه بالقرآن هو الجهاد الذي بدون ال يتحقق الجهاد اإلسالمي القتالي، كما أنه قرر أن القتل والقتال هو وظيفة

المجتمع، ال وظيفة األفراد، وأن الشرطة والقضاء هم الذين يمارسون حفظ حقوق الناس، وأن المجتمع يتكون بالدعوة والرشد، وهو الذي يفرز ممثليه وقضاته وشرطته

وحاكميه، وأن ممثلي الشعب ال يفرضون أنفسهم باإلكراه، بل بالتعليم والدعوة إلىمنهج النبوة.

لعلي أسأت، بهذا العرض، إلى الفكرة وصاحبها، حين تناولت بهذا األسلوب الذي يفتقر إلى الوضوح والبيان، ولكن استمرار البحث هو الذي سيعيد الحياة النظيفة

Page 137: كـــن كابن آدم - Jawdat Said · Web viewكن كابن آدم المحتوى الموضوع الصفحة المحتوى المقدمة تمهيد: لغة الحروف ولغة

النقية التي يتعارف فيها الناس على أساس الصدق وتوخي حل المشكالت، والبدء بهااآلن، وعدم تأجيلها.

ينبغي أن نعلم أن األعمال يمكن أن تؤول، والنوايا يمكن أن تتهم، ولكن التاريخ يشبه يوم الحساب، ال يضيع عمال نافعا مهما كان ضئيال أو كبيرا، فالزبد يذهب جفاء،

ومهما بدا رابيا في حجمه، فإنه خفيف في وزنه، ومرعب في وهمه. إن مواجهة الناس بالحقائق التي استبعدت طويال، يحدث لديهم نفورا، ويخلق سوء

تفاهم معهم، ويثير في عقولهم ونفوسهم شبهات مزعجة غالبا أو أحيانا، فما العملإزاء كل هذا؟

ال بد أن نتقدم ونتعلم دائما كيف نحصد أعظم المكاسب بأقل الخسائر. باإلمكان تأويل الكلمات والنوايا، لكن التاريخ يغربل األمور كلها، والناس يراجعون

أنفسهم، ويتبين لهم قدرهم، ومبلغ علمهم، ونهاية مسعاهم. إن التاريخ يعلمنا الزبد من األفكار، والنافع منها، وليس هذا فحسب، بل يعلمنا

ة التي على أساسها يذهب الزبد جفاء، ويمكث في األرض ما ينفع الناس، التاريخ ن الس يعلمنا الهدف والوسيلة، يعلمنا الصبر ويعلمنا الم}دد والع}دد التي بواسطتها يتحرك

ه تبديال( ] األحزاب:)التاريخ ة الل ن ذين خلوا من قبل} ولن تجد لس} ه في ال ة الل ن س}33/62.]

قوم يونس وتفادي العذاب ما هي قصة قوم يونس؟

في هذه القصة تظهر إمكانية تفادي العذاب األليم، عذاب الخزي الدنيوي، أي أنهماستطاعوا بإيمانهم أن يتفادوا كلمة ربك التي حقت عليهم.

إن م}همتنا اآلن، في العالم اإلسالمي، هي أن نقلل من العذاب وأنواع الخزي والعار والخسران، وكل من يساهم في تقليل العذاب يكون سائرا في اتجاه التاريخ،

الذي يسعى بشكل حثيث إلى تقليل كم ونوع التجارب الخاطئة، ومن يستطيع أن يتجاوز التجارب الخاطئة بتجربة خاطئة واحدة، فإنه يكون قد تقدم تقدما كبيرا، ومن اعتبر بتجربة غيره ولم يكررها، فإنه يكون قد حقق تقدما أكبر، ولهذا علينا أن نكون يقظين في تقدير ما حدث سابقا في التاريخ، وأال نعيد األخطاء القديمة، وكذلك عليناأن نكون يقظين في تقدير ما يحدث اآلن من تجارب جديدة وفي مستويات جديدة.

حين أعطى التاريخ أهمية كبيرة، فإنني أسعى إلى أن أكشف قانونه العام، الذي يشر إلى أن العالم ليس قارا ساكنا أو متراجعا، ألن فهم الكون على أنه ساكن أو

يزيد} في)متراجع فهم جاهلي، وهو نوع من التصور الجاهلي للخالق المبدع الذي [، والدليل16/8يخل}ق} ما ال تعلم}ون( ] النحل: ) [ و 35/1الخلق ما يشاء}( ] فاطر:

الذي يفيد في فهم سنن الله هو خلق الله، فانظروا إليه هل ترون فيه من فطور؟!. إن الله أعطى كل شيء خلقه ثم هدى، والكون يسير في هداية، وال ينظر إلى

جهلنا، هذا التصور أمر جوهري، وإال فإن اإلنسان يكون قد رفض أمانة الفهم}عجل التاريخ، واالستقامة، ومهمة الخالفة في اإلبداع واإلسراع، فالوعي اإلنساني ي

خ}لق اإلنسان} من) [، و 17/11وكان اإلنسان} عج}وال( ] اإلسراء: )واإلنسان عجول: [، ومن دوافعه وبواعثه التسريع واالستعجال وقطع المراحل،21/37عجل( ] األنبياء:

وحين يعرف قوانين الله في الوجود ؛ فإن بإمكانه أن يسخرها ويعجل في تحقيقاألنفع، وفي اإلبداع لتحقيق علم الله القديم.

وإذا كنا ال نرى إال الهالكين، فهذا ال يعني أنه ال يمكن أن يحدث شيء لم يحدث من قبل، إن هذا ممكن، وقوم يونس نموذج على ذلك، وإذا كان قوم يونس نموذجا

Page 138: كـــن كابن آدم - Jawdat Said · Web viewكن كابن آدم المحتوى الموضوع الصفحة المحتوى المقدمة تمهيد: لغة الحروف ولغة

فريدا في اإلمكان ؛ فينبغي تحويل هذا النموذج إلى قانون عام، وعدم إبقائه في إطارالنموذج الشاذ، ينبغي تحويل اإلبداع إلى حالة عامة.

هذا ما ينبغي أن نوجده إن لم يكون موجودا، وإن وجد فينبغي أن نعممه ونسرعه، وإذا كان العالم متشائما فيما يتعلق بمستقبل اإلنسان ؛ فإننا متفائلون ومتفائلون جدا،

والتاريخ هو الذي يعلمنا التفاؤل. إن عالم اليوم في حيرة، في عدمية ويأس، في تشاؤم وتبلد، وهذا يطفئ جذوة الحياة في النفس، ويثبط الهمم، وعلينا أن نبتكر كيفية في قراءة التاريخ، وتسلسل

اإلبداع وتقاربها، وتقصير الم}دد بين إبداع وآخر، وإذا كان الذين سبقونا متشائمينيائسين، فعلينا أن نتفنن في الخروج من اليأس.

مسيرة التقدم التاريخي التاريخ هو الذي أنقذني، إنه إبداع الله، ونسخه لألساليب الخاسرة في هذر الوقت

وتبديد الجهود، مع قلة المردود، فالله ينسخ األساليب المكلفة، ونظام الوجود يتقدم إلى األيسر، إلى اليسر والرحمة، إلى االقتصاد في استهالك المواد والجهود، مع تكبير

ه}م يرونه} بعيدا، ونراه} قريبا( ] المعارج: )المردود: [، بل إنه قريب جدا، فقد7-70/6إنجاءت أشراطه.

ينبغي اإلسراع في إيقاف النزيف، نزيف الزمن، التبذير في الزمن، والتبذير فيالمواد، وفي طاقات اإلنسان.

إننا مبذرون، وال نزال نؤاخي الشيطان الذي يفرح بالتبذير، وأنا هنا، فيما أكتب، أبذر في الوقت والجهد، وال قدرة لي على تقديم الحل بسهولة ويسر وإبداع واختصار، والفقر الفكري هو الذب يجعلنا نبذل جهودا كبيرة، دون الحصول على مردود مكافئ،

بل ربما كان المردود صغيرا جدا أو معدوما.!!.. إننا نبذر، إننا فقراء، نبذر في الجهود، وفقراء في المردود، إنه لشيء ممل

ونظام الكون خالف هذا، فنحن إذن نسير عكس النظام، عكس التاريخ، عكسالرشاد.

هل يمكن أن نعتبر بقوم يونس؟ من هم الذين يمكن أن نقول عنهم: إنهم قوم فلوال كانت قرية آمنت)يونس في التاريخ المعاصر؟ من هم الذين اعتبروا بالتاريخ؟

}ها( ] يونس: [. كان التاريخ تكرارا لألخطاء، ولم يكن باإلمكان10/98فنفعها إيمان اإلمساك به، كان يسير تلقائيا وببطء شديد، ولكن اإلنسان بدا يشك ويبحث في إمكانية اختزال التاريخ، فإن كنت في شك … فاسأل التاريخ، وتعلم كيف تسأل

التاريخ، وتعلم كيف تسأل التاريخ، إنه يعلمك االقتصاد، يعلمك كيف يكون االقتصادوالتوفير، ويعلمك كيف يكون التبذير والتدمير.

إن كنت في شك … فاسأل الذين يقرؤون الكتاب من قبلك، لقد جاء الحق، جاء الصراط المستقيم، جاءك الحل األسهل األيسر األقرب، جاء حل المشكلة اإلنسانية بأيسر الحلول، بتكاليف قليلة وعطايا كثيرة، فال تكونن من الممترين، فال تكونن من

الذين يكذبون بآيات الله التي وضعها لالستقامة والرشد والهداية واالقتصاد فيالجهود، إن لم تفهم هذا!!.. إن لم تصدق هذا!!.. فستكونن من الخاسرين!!..

إنه المنهج، إن كنت في شك مما يقال ؛ فتوجه إلى من كان قبلك لتعرف صدق أو كذب ما تشك فيه، فإن ما حدث من قبلك فيه زوال للشك، فيه زوال للشك في صدق أو كذب ما جاءك، فال تكونن من الممترين في صرامة قوانين التاريخ فيمن قبلك، فإن اختلط األمر عليك، فإن الخسائر التي ستصاب بها ستعلمك أن الذين ال يقدرون على فهم التاريخ سيكون العذاب األليم بالنسبة لهم نهاية التكذيب وبداية التصديق وزوال

الشك والمرية.

Page 139: كـــن كابن آدم - Jawdat Said · Web viewكن كابن آدم المحتوى الموضوع الصفحة المحتوى المقدمة تمهيد: لغة الحروف ولغة

انظر إلى القرى، منها قائم وحصيد، وإلى قوم يونس الذين كشف عنهم العذاب، عذاب الخزي، حين آمنوا بقوانين وعوامل عذاب الخزي. حين آمنوا بما حدث من قبل،

كشف الله عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا.. إن مشكلة البشر هي اختالط جدوى جهد البشر في التاريخ، والشك فيه، فإذا كنت

تشكون في جدوى جهودكم، فإن الله كان قادرا على حذف ما أعطاكم من القدرة على االستفادة من التاريخ، كان بإمكانه أن يخلقكم جميعا مؤمنين، إال أن هذا ليس هو

أسلوب االستخالف وحمل األمانة، أمانة تقرير المصير، وأمانة صناعة مستقبلك، فبوعيك حملت أمانة معرفة الخير من الشر، ومعرفة النافع من الضار، بوعيك صرت

خلقا آخر في الوجود، فال تتردد وال تتراجع، وال تتقهقر إلى الوراء، لقد دخلت عالماس)الرشد، عالم التمييز، فال ترجع إلى عالم القهر، إلى عالم اإلكراه: }كره} الن أفأنت ت

}وا م}ؤمنين( ] يونس: }ون ى يك [، إنهم حملوا األمانة، أمانة التمييز، فخرجوا من10/99حته( ] يونس: )نظام القسر واإلكراه: }ؤمن إال بإذن الل [،10/100وما كان لنفس أن ت

وما كان لنفس أن تتزكى إال بما ألهمها من التقوى، وما كان لنفس أن تتدسى إال بما ألهمها من القدرة على التخلي عن التزكية والتحول إلى التدسية، فإن كنت في شك

من ذلك ؛ فاسأل عن خبر الذين خلوا من قبلك، ماذا حدث لهم؟ كيف واجهوا مشكلة الخيار، وهداية التاريخ؟ هل انتبهوا إلى إشارات المرور، ومنارات الطريق، في مسيرة

التاريخ؟ هل أغلقوا أبصارهم؟ هل اعتبروا بالتاريخ، أم أنهم ظنوا أنه ال يحتوي علىإبداع الله، وإبداع اإلنسان؟

فإن كنت ال تزال في شك من ذلك ؛ فتذكر قراءاتي الكتاب المبين: القراءة التي ترى إبداع الله، والقراءة التي ترى إبداع اإلنسان، وكيف أن التاريخ يكون من صنع

الله، وأنه يكون من صنع البشر أيضا. كنت ظننت أنني قدمت لك بيانا ورشادا وفرقانا وبالغا، حتى ال تعود إلى الشك، فإن كنت في شك ؛ فأعد النظر كرة أخرى، ثم ارجع البصر، هل ترى من التباس؟

ه}م)وعلى ضوء ذلك اقرأ مرة أخرى قوله تعالى: }ل ك آلمن من في األرض ك ولو شاء رب}ؤمن إال بإذن }وا م}ؤمنين؟! وما كان لنفس أن ت }ون ى يك اس حت }كره} الن جميعا، أفأنت ت

ماوات واألرض، وا ماذا في الس }ون، ق}ل: انظ}ر} ذين ال يعقل جس على ال ه، ويجعل} الر اللذين خلوا من ام ال ون إال مثل أي }ون، فهل ينتظر} }ؤمن ذ}ر} عن قوم ال ي }غني اآليات} والن وما ت

}وا، كذلك ذين آمن لنا وال س} }نجي ر} }م ن }م من الم}نتظرين، ث ي معك وا إن قبلهم، ق}ل فانتظر}}نج الم}ؤمنين( ] يونس: [.103-10/99حقا علينا ن

اإلنسان وأمانة التسخير: على اإلنسان أن يعرف رأس المال الكبير الذي وضع بين يديه حين قيل له:

ماوات وما في األرض( ] الجاثية: ) }م ما في الس [.45/13وسخر لك هذه هي األمانة والقدرة على التسخير، وعلى تمييز النافع من الضار، بها سيبنى العالم، وعلى اإلنسان أن يعرف مكانه، واألمانة الكبرى التي وضعت بين يديه، وهي

قدرته على التسخير. عليه أال يجهل مكانته، وأال يتخلى عن أمانته: فال تخونوا أمانتكم، وال تتخلوا عن

مقاماتكم، وال ترجعوا إلى الوراء، وال تضيعوا النور، وإذا لمحتموه مرة فال تدعوه يغيبعنكم.

هل يمكن أن ننظر إلى الماضي والحاضر على ضوء هذا المنهج؟ هل لنا أن نحدد المشكلة، ثم ننظر إلى مواقف الناس منها خالل التاريخ، وإلى الكيفية التي ينبغي أن

يكون عليها موقفهم في المستقبل؟ هل نستطيع أن نحدد من كان موقفه سليما، فتمكن من حل المشكلة، ومن كان موقفه خاطئا، ففشل في حلها؟ هل كان الجميع

Page 140: كـــن كابن آدم - Jawdat Said · Web viewكن كابن آدم المحتوى الموضوع الصفحة المحتوى المقدمة تمهيد: لغة الحروف ولغة

فاشلون؟ هل تقدم بعض الناس في حل المشكلة إلى مدى أبعد من غيرهم، وهل تراجع بعضهم إلى الوراء؟ ما حال العالم اليوم، وما موقع العالم اإلسالمي من هذا

كله؟ }فسد} فيها ويسفك} الدماء()المشكلة األولى هي تهمة المالئكة: أتجعل} فيها من ي

[، إنها أفعال الفساد، وقمة الفساد هي سفك الدماء وإخراج الناس2/30] البقرة: مليون45من الديار، فهناك التهجير والقتل، وإنهما ال زاال مشكلة العالم المعاصر،

مهجر في العالم حسب اإلحصاءات. هذه هي أفعال الفساد، ولكن ما هي العقائد واألفكار والتفسيرات التي باألنفس،

والتي تنتج هذه األفعال؟ما العالقة بين اإليمان والعمل، بين الفكر والسلوك؟

ميزان الحق والباطل }صحح بعواقب السلوك، والمشكلة كائنة هناك عالقة بين الفكر والسلوك، واألفكار ت

في االلتباس الذي يحصل في فهم العواقب وتصحيح السلوك، سواء آمنا بالله أم لمنؤمن.

ينبغي أن نعرف قوانين الوجود، سواء نسبناها إلى الله، أم إلى الوجود نفسه. سواء اعترفنا بوجود خالق لهذا النظام أم لم نعترف بوجود خالق له ؛ فعلينا أن نتفهم

هذا النظام. إن المشكلة كامنة في الفساد وسفك الدماء، وكل أنواع الفساد متجسدة في

سفك الدم الحرام، ولكن بعض الناس ال يعتبرون الفساد فسادا، بل يعتبرون سفك الدم حالال، ال بل وتقربا إلى الله من غير تمييز، من غير ميزان، حتى ترجع اللعنة إلى

صاحبها. إذن، المشكلة قائمة بين تفسيرين للواقع، هل الفساد وسفك الدماء جيد، أم أنه

غير جيد؟ كيف نفهم إن كان جيدا أو غير جيد؟}مات})نعود إلى القاعدة األولية: ؟ أم هل تستوي الظل هل يستوي األعمى والبصير}

( ] الرعد: ور} [.13/16والنهل تستوي الحسنة والسيئة؟

الميزان هو حواسنا وأعصابنا، ولكن ماذا نفعل إذا كانت أعصاب بعض الناس دائمافي الظل، وأعصاب بعضهم دائما في الحرور؟ كيف نعرف الحق من الباطل؟

الحق هو األنفع واألبقى، وكلما شمل األنفع عددا أكبر من الناس ؛ كان أحق من الذي يشمل عددا أقل، وقد يختزل األنفع في شخص واحد، واألهرامات مثال على

ذلك، فقد ص}رفت في بنائه الجهود التي ال تحصى ألجل شخص واحد.الفساد في األرض وسفك الدماء!!..

من الذي يفسد؟ من الذي يقع عليه الفساد؟ من الذي يسفك الدم، ودم من يسفك؟ متى يكون سفك الدم حالال، وبالحق، ومتى يكون حراما، وبالباطل؟ ثم هل

}خرج}ون)يفيدنا أن نقرأ قوله تعالى: }م، وال ت }ون دماءك }م: ال تسفك وإذ أخذنا ميثاقك}م هؤ}الء }م أنت }م تشهد}ون، ث }م وأنت }م أقررت }م ] القتل والتهجير [، ث }م من ديارك أنف}سك

ون عليهم باإلثم والع}دوان، }م من ديارهم، تظاهر} }خرج}ون فريقا منك }م، وت }ون أنف}سك }ل تقت}ون ببعض الكتاب }ؤمن ه}م، أفت }م إخراج} م عليك }فاد}وه}م وه}و م}حر }سارى ت }م أ }وك وإن يأت

}م إال خزي في الحياة الدنيا ويوم القيامة ون ببعض، فما جزاء} من يفعل} ذلك منك وتكف}ر}}ون( ] البقرة: ه} بغافل عما تعمل }ردون إلى أشد العذاب ، وما الل [؟؟2/85ي

القتل والتهجير

Page 141: كـــن كابن آدم - Jawdat Said · Web viewكن كابن آدم المحتوى الموضوع الصفحة المحتوى المقدمة تمهيد: لغة الحروف ولغة

إن بإمكاننا أن نقول: إن سفك الدماء، واإلخراج من الديار، هما منتهى الفساد،ودون ذلك ذنوب كثيرة صغيرة، من الهمز واللمز وما شاكلهما.

لهم:)القتل والتهجير مشكلتان قديمتان وحديثتان: س} وا لر} ذين كفر} وقال ال}هلكن الظالمين( ه}م لن تنا فأوحى إليهم رب }م من أرضنا أو لتع}ود}ن في مل ك }خرجن لن

ذين) [، 14/13] إبراهيم: عيب} وال ك يا ش} }خرجن وا من قومه: لن ذين استكبر} قال المأل الا كارهين( ] األعراف: }ن تنا، قال: أولو ك }وا معك من قريتنا أو لتع}ود}ن في مل [.7/88آمن

: » أو: ليتني معك إذ يخرجك قومك، فقال وورقة بن نوفل قال لرسول الله . (1)مخرجي هم؟! « قال: نعم، ما جاء أحد بمثل ما جئت به إال وعودي

والعالم الحديث مليء بالم}هجرين من ديارهم، الماليين أجبروا على هجر ديارهمخوفا من القتل.

القتل والتهجير مذكوران في القرآن كثيرا، والجريمتان الكبيرتان المحددتان فيالقرآن نصا هما القتل والتهجير.

الذنب الذي ال يغفره الله هو الشرك، وعقاب الله عليه يكون في اآلخرة، أما القتل والتهجير، فهما الذنبان اللذان ال يقبل أو ال يجوز قبول مرتكبهما في المجتمع

اإلسالمي، فمن وقع في هذا فال يقبل في المجتمع اإلسالمي بحسب القرآن. ولكي نحدد مشكلة الفساد وسفك الدماء، علينا أن نحدد متى ومن يجور له

ممارسة القتل وسفك الدماء، بحيث تكون ممارسته جائزة وبالحق، كما ينبغي علينا أن نحدد متى ومن تكون ممارسته قتال محرما وبغير حق. فكل واحد قد يدعي أنه يمارس

القتل وسفك الدماء بالحق، وهنا يحدث االلتباس، وال يكون الرشد قد تبين من الغي، فيختلط الرشد بالغي، ويختلط الطاغوت باإليمان بالله، وإذا اختلط الرشد بالغي،

والطاغوت بالله، فإن اإلنسان ال يعود ممسكا بعروة وثقى، وعندها يدعي كل واحد أنهالحق، وأن اآلخر هو الباطل.

ابن آدم واليد البيضاءن، وبينهما أمور مشتبهات « ن، والحرام بي إلى درجة أن أمر الحالل(1)» الحالل بي

والحرام يبدو مرتبطا بالقوة، فال حرام على القوي، وال يحل شيء للضعيف، فليس لهأن يفكر ويفهم، وحتى الكالم محرم عليه.

إننا نعيش هذا الخلط، ومن هنا يختلط الرشد بالغي، والحق بالباطل، والحسنة بالسيئة، وهكذا ترتفع الرايات العمياء، والناس حيارى، والعلماء منقسمون بين مؤيد ألحد الطرفين ومعرض له، والظالم يكون دامسا، والمأساة تظهر وكأنها ال نهاية لها، وهذه هي نظرة نيتشه للتاريخ، إذ قال عنه: إنه باطل األباطيل. فما المخرج من هذه

األباطيل؟ لماذا يقع بسطاء الناس في الحيرة؟ أشعر أنني أضيع في الغموض والظالم، حين أحاول إضاءة الظالم، ألن النور الذي

نحمله غير مضيء. لقد كان من آيات موسى اليد البيضاء، فما هي اليد البيضاء؟ هل هي لموسى

فقط، أم يمكن أن تكون اليد البيضاء لنا نحن أيضا؟ أظن أننا نستطيع أن نرفع يدا بيضاء، وذلك حين ال تكون أيدينا ملطخة بالدماء، وال

تكون ألسنتنا ملطخة بالثناء على األيدي الملطخة بالدماء. وحين تصير قلوبنا سليمةمن الدماء، ومن حب الدماء، وحين نكره الدماء بقلوبنا ؛ فإن أيدينا ستصير مضيئة.

( ، ومسلم في اإليمان ، باب3 رقم ) رواه البخاري في بدء الوحي ، باب : كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله (1) ( .160بدء الوحي إلى رسول الله حاشية رقم )

Page 142: كـــن كابن آدم - Jawdat Said · Web viewكن كابن آدم المحتوى الموضوع الصفحة المحتوى المقدمة تمهيد: لغة الحروف ولغة

إن القلب السليم الذي خرج منه القتل سيكون أبيض، وإن يد ابن آدم يد بيضاء غير ملوثة، فإذا اشتبهت األيدي البيضاء باأليدي الحمراء، فاألحوط واألفضل أن نخرج

من كل هذه األيدي، وال نكون مع أحد الطرفين المتقابلين المتقاتلين. حين يخرج من قلوبنا الفرح بالدماء، وحين نسلم من حب الدماء ؛ تكون أيدينا

بيضاء ال حمراء، فيزول االلتباس ويتبين الرشد من الغي، وأصحاب األيدي البيضاء هم الذين لم ينقم منهم اآلخرون إال إيمانهم وعقائدهم وأفكارهم التي في قلوبهم، وليس

الدماء التي في أيديهم. إن اإلسالم والقرآن، حسب ما أفهم، ال يبيحان دماء األيدي البيضاء، فكل من لم

}م)يرفع سالحا فهو آمن أيا كان دينه واعتقاده: }م وألقوا إليك }وك }قاتل }م فلم ي }وك فإن اعتزل}م عليهم سبيال( ] النساء: ه} لك لم فما جعل الل [.4/90الس

إذا أردت أن تدخل في حلف القرآن وأمانه، فادخل في السلم، وبذلك تحمينفسك ومالك، ودنياك ودينك. ويكون قلبك سليما ولسانك عفا ويدك بيضاء.

سبيل الرشد في مذهب ابن آدم ما هو القتل الحرام؟ هل نستطيع اآلن أن نحدد، ولو بشكل تقريبي، معنى النفس

ه})التي حرم الله؟ م الل تي حر فس ال }ون الن }ل ه إلها آخر، وال يقت ذين ال يدع}ون مع الل وال [.25/68إال بالحق( ] الفرقان:

كيف نجعل أنفسنا من النوع الحرام، أو المحرم قتله؟انتبه وتأمل …

إذا رأيت متقاتلين، قد تحدث لديك شبهة فال تستطيع تحديد النفس المحرمة،}قتل، وكان هذا الشخص مثل ابن آدم يمتنع من بسط يده، هل ولكن إذا رأيت شخصا ي

تكون هناك ثمة شبهة أو التباس، أم يكون قد تبين الرشد من الغي؟ ، ومن أجل هذا أدعو إلى مذهب ابن آدم، الذي(1)» دع ما يريبك إلى ما ال يريبك «

.(2) « كن كابن آدمأمرنا رسول الله به حين قال: » إذن، فلنبدأ الصراع بوضوح وبيان ال لبس فيه، وال يشتبهن عليك مذهب ابن آدم.

تأمل. ال تضع. ال تجعل األمر ملتبسا عليك. أظهر الرشد من الغي. أوضحه فأنت الذي بيدك اإليضاح. ال تضيع النور. استمسك به، وتذكر اإلشكالية والشبهة ؛ الظالم والحيرة،

الهرج والمرج. المح بصيص المخرج، انظر سبيل الرشد!!.. هنا بدأت ألمح مذهب ابن آدم، موقف ابن آدم، موقف سيد الشهداء، الموقف

الذي ال لبس فيه، موقف من يقول: يمكنك أن تقتلني، ولكن ال يمكنك أن تجعل منيقاتال!!..

ال تجعل أمرك ملتبسا. الزم النور. ال تدخل في الظالم. اآلخر يريد أن يجرك إلىالظالم، اآلخر يريد أن يحرمك النور. ال تطعه واسجد واقترب.

}م وأقيم}وا الصالة( ] النساء: )من هنا ينبغي أن تعلم معنى: }فوا أيديك [،4/77ك}طعه} واسج}د واقترب( ] العلق: )ومعنى: [، ومعنى: » ال يزال الرجل في96/19ال ت

.(1)فسحة من دينه حتى يسفك دما حراما « «، وإذا كنت فيكن كابن آدم: » احذر الدم لحرام! اعرف لماذا قال الرسول

: » اكسرحيرة ؛ فاخرج من الحيرة إلى ما ال حيرة فيه، اعرف معنى قول الرسول .(2)سيفك «

إنه عليه السالم لم ينطق عن الهوى، ولم يكن مجنونا حين قال ذلك، فالزم الحاللالبين الذي ال شبهة فيه، إذا لم تكن فقيها فالزم ما ال شبهة فيه!!..

هل تبين الرشد من الغي؟ هل التبس الرشد بالغي؟ هل انفصل الرشد عن الغي؟لماذا أدعو إلى مذهب ابن آدم؟

Page 143: كـــن كابن آدم - Jawdat Said · Web viewكن كابن آدم المحتوى الموضوع الصفحة المحتوى المقدمة تمهيد: لغة الحروف ولغة

أنا مثلك يا أخي! أنا لست فقيها، أنا ال أشق قلوب الناس، وكل ما أستطيع أن لئن)أفعله هو أن أجعل يدي بيضاء، أن أجعل لساني ينطق بالحق الذي ال شبهة فيه:

ه رب العالمين( ي أخاف} الل }لك، إن }لني ما أنا بباسط يدي إليك ألقت بسطت إلي يدك لتقت [.5/28] المائدة:

أنا لست فقيها مثلك، أنا أريد أن أمشي على شاطئ السالمة، أنا ال أستطيع أن أخوض لجج البحار، بحار الدماء، أنا قادر على أن أجد األرض الحرام التي لن أخرج

منها أو عليها. أنا أستطيع أن أحدد قدما مربعة من األرض الحرام، منها أستطيع أن أنطلق إلى

العالم جميعا. بهذه الفكرة الواضحة الراشدة، واألرضية الصلبة أستطيع أن أضيئ، ليزول

االلتباس، التباس الرشد بالغي. أنا الذي يملك هذا، ولست أنت، إذن أنا الذي أستطيع أن أنطلق من المحجة

البيضاء التي ليلها كنهارها. يمكنك أن تقتلني، ولكن ال يمكنك أن تجعل مني قاتال، ليس هذا بيدك، هذا بيدي

أنا. يمكنك أن تلوث يدك بالدم الحرام، ولكن ال يمكنك أن تلوث يدي، فأنا أستطيع أن

أحافظ على يدي بيضاء، ليلها كنهارها، ال ظالم في ليلها، كلها نور، وكلها ضياء.مذهب ابن آدم والتخلص من االلتباس

إذا دخلت إلى هذا العالم لحظة، فستشعر باألمن والهدى والسعادة العظمى،التاريخ يتجه إلى هذا، الكون سيصل إلى هذا!!..

ال تضيع الرشد لحظة، ال تضيع اللحظة التي يمكنك أن تجعل نفسك فيها النفس التي حرم الله، استمسك بلحظة الوضوح، انطلق من النور، ال من الظالم، وال من

الغبش، من النور الذي ليس فيه ليل: ليلها كنهارها، احذر أن تقتل تحت راية عمية، اعرف الراية العمياء، اعرف الفتن التي كظالم الليل، يصبح الرجل فيها مؤمنا ويمسي

}م نارا()كافرا، ويمسي مؤمنا ويصبح كافرا: }م وأهليك }وا ق}وا أنف}سك ذين آمن ها ال يا أي [، أنقذوا أنفسكم!..66/6] التحريم:

ة، لحظة أبي ذر، من لم يذق هذه اللحظة، مي إنها لحظة ابن آدم، لحظة بالل وس}ومن لم يلتزم بها، ال يمكن أن يكون جنديا لله.

تذكر ما قلته لك من أنك قد تقع في االشتباه، فيشتبه عليك الرشد بالغي، إذا رأيت رجلين يتقاتالن، وتذكر ما قيل من أن الحق لو جاء غير ملتبس بشيء من

الباطل لما حدثت شبهة، ولو أن الباطل جاء غير ملتبس بشيء من الحق لما حدثت الشبهة، ولما حصل االلتباس والحيرة، ولكن حين يأتي الباطل ملتبسا بالحق، والحق

ملتبسا بالباطل، هنا تحدث الحيرة والظالم وااللتباس، وتتعقد المشكلة حتى يصيرالحليم حيرانا.

: » إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النارتذكر قول الرسول « قالوا: يا رسول الله! هذا القاتل، فما بال المقتول؟ قال: » إنه كان حريصا على قتل

.(1)صاحبه « تشابهت قلوبهما، تلوثت أيديهما.

المسلمون يتناسون هذا الحديث، بل ال قدرة لهم على تحليل الموقف، ويريدون وإن)الخروج من االلتباس، ولكن بالتباس آخر، يقولون: الله أمر بقتال الباغي:

}وا }وا فأصلح}وا بينه}ما، فإن بغت إحداه}ما على األخرى ؛ فقاتل طائفتان من الم}ؤمنين اقتتل

Page 144: كـــن كابن آدم - Jawdat Said · Web viewكن كابن آدم المحتوى الموضوع الصفحة المحتوى المقدمة تمهيد: لغة الحروف ولغة

ه، فإن فاءت فأصلح}وا بينه}ما بالعدل وأقسط}وا إن ى تفيء إلى أمر الل تي تبغي حت ال}حب الم}قسطين( ] الحجرات: ه ي [.49/9الل

أرجو أن تتابع، أيها القارئ الكريم، الموضوع واإلشكالية بيقظة وانتباه، خشيةالتلوث، خشية الدخول في الظالم.

نعم هذه آية تأمر بقتال الباغي، وليس الراشد، هنا أريدك أن تستخدم ذكاءكوذاكرتك..

قلت لك سابقا، إذا كنت تذكر، وإال فتذكر، تذكر أنني قلت لك: إن المسلمين قد فقدوا الرشد منذ زمن بعيد، وكونهم فقدوه من زمن بعيد جدا، ال يجعل الغي والبغي رشدا وهداية، فال يلتبس عليك األمر، حتى ال تتلوث، وحتى ال يستخدمك أهل األهواء

في أهوائهم. قد يقولون لك: إنهم راشدون، ولكن تذكر أن الذي يأتي بالعنف واإلكراه ليس

راشدا، ال تخذع، إن الرشد ال يضيع بالغي، فإذا كان غي يقاتل غيا، وإذا التقى سيفان ملوثان وقلبان سليمين ؛ فال يحملنك الحب األعمى، أو الكراهية العمياء، على أن تجعل

من غيك رشدا، ومن بغيك حقا. ،إن طريق صنع الرشد هو الطريق الذي سلكه بالل، والذي أمر بسلوكه الرسول

أما إذا التقى الباغيان ولم يرد أحد منهما أن يسلك طريق الرشد، وأرادوا منك أن تكون وقودا وبندقية فاقدة الفهم، ال تميز الرشد من الغي، فال تتحول إلى بندقية،

فأنت لست بندقية. ال يشتبه عليك الغي بالرشد، وإال صرت تحت راية عمياء ال تعرف معروفا، وال تنكر

منكرا. أنقذ نفسك من البغاة، فمنذ أن فقد المسلمون الرشد لم يأتهم إال البغاة. باغ

يقاتل باغيا وليس في قلب أحد منهم رشد، ويتخذونك وقودا ومطية لبغيهم وتسلطهم. ،(1): » ال ترجعوا بعدي ضالال يضرب بعضكم رقاب بعض « تذكر وصية الرسول

من تمكن من اآلخر ضرب عنقه.المسلمون ومحاولة صنع الرشد بالغي

يا أيها المسلم! آن لك أن تقف لحظة وتتفكر وتتذكر، كم كرر القرآن قوله:رن(، ) كم تذك }م تعقلون(، )لعل ك رون(، )لعل أفال تعقلون(؟؟!!)أفال يتدب

إن طول المد يجعل القلوب قاسية، لكن طول عيش الباطل ال يجعله حقا، إن فقدان قلبك لتألقه، وكونك لم تسمع بهذا الذي ألح عليه إال قليال، أو لم تسمع به

مطلقا ؛ ال يسوغ لك، أال تأخذه مأخذ الجد، ولكن تذكر أو تأمل، إن كان لك قدرة على التأمل، تجد أن كل المصائب المحيرة، التي تصيب العالم اإلسالمي، وتتكرر باستمرار، ناشئة من كوننا نريد أن نصنع الرشد بالغي، نريد أن نصنع الرشد بالخروج من الدين، وإال لما س}مي الخوارج خوارج، ولما أعطانا الله وصفهم، وأنهم يمرقون من الدين مع

أنهم كثيرو الصالة والصيام. هل خطر لك مرة أننا جميعا صرنا على مذهب الخوارج في فهم اإلسالم؟ وأننا لم

نعد نمانع صنع الرشد بالخروج، وصنع الحق بالباطل.طريق الحق طريق ابن آدم واألنبياء

إن طريق الحق الذي ال لبس فيه، انطلق في الطريق الذي ال لبس فيه، فيطريق ابن آدم الذي لم يلوث يده.

بنى األمة اإلسالميةوالبناء الذي تبنيه اليد البيضاء هو البناء الصحيح، ورسول الله وأسسها على اليد البيضاء، من غير أن يقتل شخصا واحدا خالل أكثر من نصف حياة

الرسالة، ولكن ما أكثر ما ننسى هذا الكفاح المجيد النقي الواضح المتأللئ صفاء

Page 145: كـــن كابن آدم - Jawdat Said · Web viewكن كابن آدم المحتوى الموضوع الصفحة المحتوى المقدمة تمهيد: لغة الحروف ولغة

وضياء!، قلبا وجوانب، ال ترى فيه خدشا أو فطورا، ارجع البصر كرتين وثالثا وأربعا،ولن تجد غير اليد البيضاء، التي ليلها كنهارها، ليس فيها دم شخص واحد.

؟ كيف تلوث الصفاء والنقاء؟ كيف ضيعنا أقدس شيءأين ذهبت أسوة الرسول في الناموس؟ كيف صارت رؤية سبيل الرشد صعبة، فضال عن سلوكه؟

شد ال)تذكر مرة أخرى وصف الله تعالى لألقوام حين قال: وإن يروا سبيل الرخذ}وه} سبيال( ] األعراف: خذ}وه} سبيال، وإن يروا سبيل الغي يت [.7/146يت

ال أدري، ولكن مهما كانت الرؤية واضحة أو ضئيلة أو مغبشة، فإن بإمكاننا أن نقول: هناك رؤية ما، ولكن االتخاذ أصعب من الرؤية، االلتزام صعب حتى بعد الرؤية

ها لكبيرة إال)الواضحة، بل قد يراه بعض الناس غير قابل للتحقيق وبعيد المنال: وإن) [، والقرآن يقص علينا قصص هؤالء الخاشعين: 2/45على الخاشعين( ] البقرة: }ال وك

ت} به ف}ؤادك( ] هود: }ثب ل ما ن س} [.11/120نق}ص عليك من أنباء الر وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر()إن التواصي بالحق، الذي جاء في قوله تعالى:

[، يكون بتحقيق الرؤية، ولكن التواصي بالصبر، هو التواصي بالصبر103/3] العصر: على اتخاذ وسلوك سبيل الرشد.

إننا بعيدون عن إعادة الرشد، أو سلوك طريقه، أو اتخاذ سبيله، لقد هجرنا هذاخذ}وا هذا الق}رآن مهج}ورا()الطريق، ويئسنا منه: ! إن قومي ات : يا رب س}ول} وقال الر

[.25/30] الفرقان: سبيل الرشد وسبيل الديمقراطية:

خذ}وا هذا الق}رآن مهج}ورا( مع قوله: )تأمل قوله: شد ال)ات وإن يروا سبيل الرخذ}وه} سبيال(!!.. يت

كما نحن بعيدون عن الرشد اإلسالمي، كذلك بعيدون عن الديمقراطية التي أنتجها اتجاه التاريخ نحو األفضل، أنتجها الكفاح البشري كبذرة بمكن أن تلقي ضوءا، مهما

كان هذا الضوء ساطعا أو خافتا، على طريق التاريخ المتجه إلى الرشد رغما عن كلالذين يريدون إيقاف التاريخ أو منعه من التقدم إلى األفضل.

ال بد من تحليل األمور، نقطة نقطة، ال بد من دراسة السبب الذي يجعلالمسلمين ال يسلكون سبيل الرشد، أو سبيل الديمقراطية.

كيف هجرنا الرشد؟ كيف صرنا غير قادرين على اتخاذ سبيل الديمقراطية سبيال؟خذ}وه} سبيال(، نحن نرى، وأمام أعيننا، عالما كبيرا يصنع) شد ال يت وإن يروا سبيل الر

الديمقراطية والرشد، الذي ابتعدنا عنه حتى لم نعد نحلم به، أليس فينا رجل رشيد، يحل مشكالتنا، ويضيء الظالم الذي نعيش فيه؟! هل هذا مستحيل، أم إننا لم نرشد

بعد حتى فكريا؟ لقد رأينا واقعا، ولكننا لم نر قانونا وسنة، لم نر آلية الحدث، لم نستخلص من

الواقع سنته وقانونه. لماذا نبذل أنفسنا في سبيل الغي؟ لماذا ال قدرة لنا على اتخاذ سبيل الرشد، وبدال

من ذلك نبذلها في سبيل الغي والغي؟! لماذا يصعب علينا، إلى هذه الدرجة، سلوك سبيل الرشد أو سبيل الديمقراطية؟ لماذا ال قدرة لنا على سلوكهما؟ ما هي العوامل التي تلوي أعناقنا؟ ما هي الجراثيم

الفكرية التي تتلف أعصابنا، وتفقدنا إحساسنا وإدراكنا، وتسد آفاق الفهم أمامنا؟ مشكلتنا ذات طبيعة مختلفة، لماذا كال االتجاهين، السلفي والتقدمي الحداثوي ؛ ال

لفي، وفي معنى قدرة لهما على إعادة النظر في معنى الرشد بالنسبة للس الديمقراطية بالنسبة للتقدمي الحداثوي؟ هل هما مصابان بمرض واحد، وعقيدة واحد

تتحكم فيهما؟ ما هذا الفكر الذي يحكمهما معا، رغم اختالفهما؟

Page 146: كـــن كابن آدم - Jawdat Said · Web viewكن كابن آدم المحتوى الموضوع الصفحة المحتوى المقدمة تمهيد: لغة الحروف ولغة

إنهما مختلفان جدا، والحوار مقطوع بينهما، والمنابذة قائمة غير قاعدة، ولكنهما،مع ذلك، متفقان جدا، في أنهما ال يجدان إلى الرشد سبيال وال إلى الديمقراطية طريقا.

ال بد أن نكشف ما يتفقان عليه، وما يختلفان فيه، حتى ينتفي االلتباس واالشتباهوالغموض والحيرة.

موقف ابن آدم موقف ال لبس فيه هل لي أن أتكلم في هذا؟ هل لنا أن ننطق بم لم ينطق به أحد قبلنا؟ هل أستطيع

أن أكشف هذا الشيء المخفي خالل القرون والعصور؟ نعم، إنه موجود في األرض، في األنفس، ليس فوق السماء وال تحت األرض، إنه

موجود بيننا، لكن أعيننا ال تبصره، هل نطمع في أن نبصره؟ نعم أنا أطمع في إبصاره، وأجد بصيصا من الضوء، ألنني لمست موقفا صغيرا خارج اللعبة، رأيت قلبا سليما،ويدا بيضاء الشية فيها، إنه موقف ابن آدم، الموقف الذي ال لبس فيه وال غموض.

لن أبسط يدي، سأبقيها نظيفة بيضاء، أما أنت فلوثها إن شئت، فإن فعلت، فإنك تبوء بإثمي وإثمك، إن لوثت يدك فلن ألوث يدي، وإني لقادر على أن أحرمك راحة

النفس بعدم دفاعي عن نفسي، وسأكشف حقيقتك دون لبس، وستضطر أن تتراجع ولو بعد قتلي، سأخرج يدي بيضاء ناصعة من هذه اللعبة، بدون لبس أو غموض، لن

ألوث قلبي، وال يدي، فقلبي سليم، ويدي بيضاء. إن أفكاري أيضا غير ملوثة، ال أقف مواقف التهم ومن كان يؤمن بالله واليوم

اآلخر، فال يقفن مواقف التهم. أريد أن أنظف قلبي ولساني ويدي، وليس هذا فحسب، بل إنني أريد أن أجعل

األرض التي أقف عليها نظيفة، وأريد أن أجعل الجو الذي يحيط بنا نظيفا ورائعاومتألقا، إنني أريد النظافة الكاملة، النظافة التي ال يتسرب إليها أي جرثوم.

قديما قالوا: الحق أبلج والباطل لجلج، ونحن نريد أن نكون نورا على نور.أريد أن أسأل: متى يلجأ اإلنسان إلى العنف والقتل؟

إنه يلجأ إلى العنف حين ال يجد طريقا آخر للحل، والعنف هو الحل الوحيد أمام الفاشل في الطرق األخرى كلها، فإن من يجد طريقا للوصول إلى ما يريد بغير العنف

ه} الم}ؤمنين القتال( ] األحزاب: )والقتل، ال يلجأ إلى ذلك: [.33/25وكفى اللمراتب العمل

سواهما، وابن آدم الذي يلجأ إن الذي يلجأ إلى القتل والقتال، هو الذي ال يجد حال إلى القتل هو الذي فشل في عمله، ولم يتقبل منه قربانه، وال يتقبل العمل إال إذا كان خالصا وصائبا، قد يكون خالصا، ونابعا من نية طيبة، ولكنه خاطئ، وقد يكون صحيحا

ومفتقدا لإلخالص، وقد ال يكون صائبا وال خالصا، وهذا أبعدهم عن النجاح.إذن، للعمل أربع حاالت:

- عمل خالص صائب، وهو الناجح المقبول.1- عمل خالص غير صائب، وهو عمل فاشل.2- عمل غير خالص ولكنه صائب، وهو عمل فاشل أيضا.3- عمل غير خالص وغير صائب، وهو عمل مغرق في الفشل.4

لقد ألفت في هذا الموضوع كتابا كامال بعنوان: )العمل قدرة وإرادة(، وضربت فيهأمثلة تقرب الموضوع من الفهم، ومن ذلك:

- األم التي تكون عادة مخلصة جدا البنها، ولكنها بجهلها بوسائل الصحة والتربية1 قد تشوه الطفل، إن لم تقض عليه كليا، وهذا مثال على الحالة الثانية: إخالص بدون

صواب.

Page 147: كـــن كابن آدم - Jawdat Said · Web viewكن كابن آدم المحتوى الموضوع الصفحة المحتوى المقدمة تمهيد: لغة الحروف ولغة

- ومثال الحالة الثالثة: الصواب بدون إخالص، الطبيب الذي يعرف دواء المرض،2ولكنه ال يريد شفاء المريض، فينصحه بغير ما يؤدي إلى الشفاء.

المشكلة اإلسالمية والتحدي الفكري المشكلة اإلسالمية بشقيها: السلفي والقومي ؛ هي حسب ما أرى من النوع

الثاني، فنحن ال نتهمهم في إخالصهم، ولكننا نشك كل الشك في فهمهم، وفيالطرائق التي يريدون أن يحلوا بها المشكالت.

أنا ال أتهم أحدا منهم بعدم اإلخالص، فهم في نظري جميعا مخلصون ألمتهم، ويريدون لها النجاح، ولكنني أتهمهم كل االتهام في أفكارهم، وأنكر أساليبهم، وأعترض

على النظر الذي ينظر به بعضهم إلى بعضهم اآلخر. إنهم جميعا ال يشعرون أن بإمكانهم أن ينجحوا في المعركة الفكرية، فهذا قاسم

مشترك وراسخ بينهم، وما لم نتمكن من فهم هذه النقطة فال يمكن لنا أن نفهم المشكلة، وال أن نحلها، ال بد من التأكد من ذلك، وإال فلماذا ال يقبلون الدخول إلى

التحدي الفكري؟ ال يقبلون التحدي الفكري ؛ ألنهم ال يثقون بأن أفكارهم تنجح في المواجهة

الفكرية، ويشعرون أن الناس سوف لن يقبلوا أفكارهم، هذه الهزيمة الفكرية هي مرض كال الطرفين، فكالهما ال يثق بأفكاره، حتى حين يثقون بأفكارهم ؛ فإنهم ال

يثقون بالناس، ويشعرون بأن الناس إن امتلكوا الحرية في اختيار المبدأ والدين، فإنهملن يختاروا دينهم ومبدأهم.

لقد فقدوا الثقة، إما باألفكار وإما بالناس وإما بهما جميعا، وإال فلماذا يرفض األطراف جميعا الدخول في المعركة الفكرية؟ لماذا يخافون من الساحة الفكرية،

ويلجؤون إلى الساحة الجسدية؟ لماذا يمارسون اإلكراه في الدين؟ إنهم جميعا منهزمون فكريا، وال يطمئنون إلى الناس، وال يشعرون أنه إذا خلي بين

الناس وبين األفكار فسيختارون أفكارهم. المشكلة إذن، هي الهزيمة الفكرية، وهي القاسم المشترك األعظم لألطراف

جميعا، والمهزوم فكريا يلجأ إلى المعركة الجسدية.}ثبت أوال أننا واثقون من أفكارنا، واثقون من نجاحها، وأن النهاية ستكون لها. فلن

علينا أن نصبر في المعركة الفكرية، ألن تركها واللجوء إلى المعركة الجسديةدليل على الهزيمة الفكرية، فال بد من التطهير النفسي عند هذه النقطة.

إنهم يشبهون الطبيب الذي ال دواء عنده للمرض إال قتل المريض ال معافاته،فبئس الطبيب هو!!

إننا نزعم أننا أطباء ماهرون ألمراض المجتمع الفكرية، ثم إن أسلوبنا في العالجيكون بقتل المريض واغتياله، ال بإزالة المرض عنه.

الحق والباطل في القرآن وفي تصوراتنا يمكننا أن نصوغ العلة األساسية األولية في الفكرة التالية: » إن الحق والباطل، إن

أعطيا فرصا متكافئة، فسينجح الباطل وينهزم الحق «. تأمل جيدا هذه الفكرة، إنها مهمة جدا جدا، إنها تصور الحق ضعيفا منهزما، ال ينجح

أمام الباطل مع تكافؤ الفرص، بل ينهزم ويزهق ويفر من الميدان بحيث ال يبدئ واليعيد.

هل عالقة الحق بالباطل على هذه الشاكلة؟ هل الحق ضعيف أمام الباطل إلى هذه الدرجة؟ هل تؤيد قوانين التاريخ األرضي السنني هذه الفكرة؟ هل هي مؤيدة

بكلمات القرآن؟ هل الحق في القرآن ضعيف ومهمش إلى هذه الدرجة؟ هل يمكن أن

Page 148: كـــن كابن آدم - Jawdat Said · Web viewكن كابن آدم المحتوى الموضوع الصفحة المحتوى المقدمة تمهيد: لغة الحروف ولغة

نقرأ القرآن على هذه الشاكلة: » وقل جاء الباطل وزهق الحق، إن الحق كان زهوقا«؟؟ هل يمكن أن نقرأ أيضا: » وقل جاء الباطل، وما يبدئ الحق وما يعيد «؟؟

بل نقذف} بالحق على الباطل فيدمغ}ه} فإذا ه}و)األمر يا صاحبي ليس هكذا، لكنه: }م الويل} مما تصف}ون( ] األنبياء: وق}ل جاء الحق وزهق الباطل} إن) [، 21/18زاهق، ولك

}وب، ق}ل) [، 17/81الباطل كان زه}وقا( ] اإلسراء: ي يقذف} بالحق عالم} الغ}ي ق}ل إن رب}عيد}( ] سبأ: }بدئ} الباطل} وما ي [.49-34/48جاء الحق وما ي

}وا في الحياة)لقد وعد القرآن رسله بالنصر فقال: ذين آمن لنا وال س} ا لننص}ر} ر} إن [.40/51الدنيا ويوم يق}وم} األشهاد}( ] غافر:

ولكن ما قصة الحق في العالم؟ ما القانون الذي يحكم التاريخ؟ يمكننا أن نقول: إن القرآن يصر على غلبة الحق، مع أن الواقع األرضي تعيس، ومع أن رؤية انتصار الحق فيه أشد خفاء، وهذا ما يجعلنا نظن أن الحق هو المنهزم

خالل التاريخ، ويجعل النظرة العجلى متشائمة ومثقلة باإلحباط، وهذا ما جعل نيتشه ال يرى في التاريخ إال عداوات دنيئة، ومفاهيم منحطة تفرض باإلكراه ألحقر الغايات

وأغرق األكاذيب، وهذا الذي جعل توينبي يتشكك في إمكانية نجاة الحضارات أمام التحديات الروحية التي تواجهها، ولكنني أنظر إلى التاريخ بغير هذا النظر المحدود

بأزمنة قصيرة ومنقطعة ومشتتة ومبعثرة. إن عمرنا قصير، وال يمكن أن نرى خالله النمو التاريخي، ولكن التاريخ يقدم لنا

مسيرة البشرية كلها، ويرينا أن الناس الذين كانوا يأكلون لحوم البشر ويقدمون القرابين البشرية ؛ قد تقدموا فكريا، بل إن الفرق كبير والتقدم والتطور عظيم، ولم

يعد الناس يقتلون اإلنسان ألجل أفكاره. أال ال يختلط األمر عليك، فمحاكمة إنسان، والحكم عليه باإلعدام ألجل أفكاره، لم

يعد مقبوال في العالم، اللهم إال في العالم اإلسالمي، فهم ال يزالون مستعدين لشن حروب من هذا القبيل، ولكنهم ينكرون علنا محاكمة اإلنسان وقتله من أجل أفكاره،

وإن كانوا يرضون به سرا، وفي قلوبهم. سيتعلم الناس من التاريخ، والتاريخ يعلمهم بأسلوبه الخاص، وبالثمن الذي يطالبهم

به عن عدم االستفادة منه. ينبغي أال نترك الموضوع، موضوع الهزيمة الفكرية، وظن أن الحق والباطل إذا

أعطيا فرصا متكافئة فسيهزم الحق، هذا الظن ظن سيء بالله والحق واإلنسان، وتصور الوجود بهذا الشكل هو من أخطر األفكار التي تنشر الفساد في األرض وسفك

الدماء، وهو الهزيمة األولى والكبرى، ومصدر كل الشرور وااللتباسات، والعالقة بين العنف والفكر عالقة عكسية، فكلما زاد الفكر وتنور، كلما شعر اإلنسان بعد جدوى

العنف، وآمن بضرورة استبعاده، وكلما كان اإلنسان يائسا من أفكاره، وشاعرا بأنها لن تقبل إذا خلي بين الناس وبين األفكار، وأعطيت لهم حرية االختيار، كلما زاد إيمانه

بضرورة استخدام القوة الجسمية والعنف. إنهم يائسون من إمكان نجاح أفكارهم بدون قوة، ويرون أن الحق بدون قوة هو

مجرد خرافة. والقوة الفكرية النبي

أيها القارئ الكريم! راجع ذاتك وتصوراتك ومفاهيمك حول هذا الموضوع، وإن كنت تظن أن أفكار الكفر ستتغلب على أفكار اإليمان ؛ فاعلم أن أفكارك ستهزم، وإن

ترافقت مع القوة، وأن الفكر الذي ال يستطيع أن ينتصر دون قوة فكر فاشل وقميئ أصحابه من أنولن يعيش، والفكر القوي سينتصر دون قوة، وإال فلماذا منع الرسول

Page 149: كـــن كابن آدم - Jawdat Said · Web viewكن كابن آدم المحتوى الموضوع الصفحة المحتوى المقدمة تمهيد: لغة الحروف ولغة

يستخدموا أي قوة غير القوة الفكرية، إلى أوصلوا إلى صنع المجتمع والحكم، دون أنيستخدموا القوة الجسدية.

أال ما أوضح هذا وما أشد خفاءه!! من هنا نعلم كيف مسخنا اإلسالم وشوهناحقيقته.

، وبكل المعايير، أن الحق وحده من غير قوة، يستطيع أن يثبتلقد أثبت الرسول ذاته، ويوجد كيانه، وأثبت بما ال يدع مجاال للشك أن المجتمع الرشاد يصنع بطريق

الرشد الذي ال إكراه فيه، وأثبت أيضا، وبما ال يدع مجاال للشك، أن الحكم يصنع دون استخدام للعنف قليله وكثيره، بل لقد صنع المجتمع الراشد والحكم الراشد باليد

البيضاء التي فاقت في الضياء والنور يد موسى عليه السالم، فلم يقتل رجال واحدا من المشركين خالل هذا الزمن كله، ولم يقم أحد من المسلمين بقتل أحد من المشركين،

ال عمدا وال خطأ، ولم يدافع أحد من المعذبين، الذين مورست عليهم صنوف التعذيبالمؤدي إلى الموت، ولم يغتالوا، رغم ذلك، احدا من المشركين خالل السنين الطويلة.

بعض الناس يظنون أن ذلك كان عائدا لضعفهم، لكن الناس في الجاهلية كانوا وصحابته ذلك إاليقاتلون ويقتلون دون النظر إلى ضعف وقوة، ولم يفعل الرسول

للتفريق بين طريق الرشد والغي، وإلثبات أن المعركة الفكرية ال يجوز استخدام القوةفيها.

إن المعركة الفكرية تقتصر على الوسائل الفكرية، ولكن المسلمين ضيعوا هذا التاريخ النظيف، وال زال مسلمو زماننا منهزمون، والسبب هو أنهم يحملون أفكارا

عرجاء ال تستطيع أن تصمد في الصراع الفكري، فإن كنتم، يا مسلمون، تثقون بأفكاركم، فلماذا ال تسلكون السبيل الذي سلكه رسول الله، من منع العنف، ومنع

استخدام القوة، حتى صنع المجتمع الراشد والحكم الراشد بالفكر األبيض واليدالبيضاء.

إن كنتم ال تفهمون هذا، فستضطرون إلى فهمه في المستقبل، وستقبلونه رغما عنكم، ولكن بعد أن تدفعوا أثمانا باهظة، والحكم الذي ستصنعونه بالعنف لن يكون

حكما راشدا، بل سيرجع عليكم بالعنف فيما بينكم، ومن ال يعتبر بالتاريخ الماضي، فإنالتاريخ القادم سيحمل إليه ما يضطره للقبول به.

إنكم ال تستطيعون أن تروا سبيل الرشد، وال تستطيعون أن تتخذوه سبيال حتى بعد رؤيته، إنكم بعيدون مرتين عن طريق الرشد وسبيل الرشد، إنكم إذا رأيتم سبيل الغي

تتخذونه سبيال، ألنكم لم تروا أن الحق يمكن أن ينتصر دون قوة، إنكم ترون انتصار الحق دون قوة مستحيال، لكن هذا الذي ترونه مستحيال، هو الذي نجح فيه المسلمون

، والمسلمون اآلن ال يمكنهم أن يقبلوا هذا، ألنهم فقدوا الثقةالذين قادهم الرسول باألفكار، وبفقدهم الثقة باألفكار، فقدوا، بل وتخلوا عن األمانة، ألن اإليمان ال يصنع

ال إكراه في الدين( ال تأتي عن طريق اإلكراه.)بالقوة، و التباس الرشد بالغي

ينبغي أال نضيع تسلسل األفكار، ينبغي أال نفقد اليد البيضاء، ينبغي أال نفقد الفكر األبيض، ينبغي أال نلوث الفكر، وأال نلوث اليد، ينبغي أال نلوث اإليمان، ولكن كيف يكون

تلويث اإليمان؟ ال تنس أن ما تطلق عليه اسم اإليمان وتظن أنه غير قابل للتلوث، هو في الحقيقة

قابل للتلوث. إن اإليمان، كما قلنا سابقا، ذو طبيعة مزدوجة، وأنه كما يمكن أن يكون بالحق،

كذلك يمكن أن يكون بالباطل، فالذي يؤمن بالحق مؤمن بالحق، والذي يؤمن بالباطل مؤمن بالباطل، وقد يختلط الحق بالباطل، وقد يلتبس اإليمان بالكفر، ولهذا تأمل جيدا

Page 150: كـــن كابن آدم - Jawdat Said · Web viewكن كابن آدم المحتوى الموضوع الصفحة المحتوى المقدمة تمهيد: لغة الحروف ولغة

}ولئك له}م األمن} وه}م م}هتد}ون()قوله تعالى: }لم أ وا إيمانه}م بظ }وا ولم يلبس} ذين آمن ال [.6/82] األنعام:

كيف التبس إيماننا بالظلم؟ كيف التبس الحق بالباطل؟ كيف فقدنا األمن، وكيففقدنا األمانة التي حملها اإلنسان؟ كيف تلوثنا؟ كيف أجزنا الغدر؟

}صنع بالقوة، وبين الحق الذي يصنع ينبغي أن نضع حدا فاصال بين الحق الذي يالقوة.

علينا أن نكثر من العبارات، علينا أن نفرق بين الدين الذي يجيز صنع المجتمع وصنع الحكم بالقوة والعنف والغدر، وبين الدين الذي يحرم صنع المجتمع بالقوة

العنيفة، ويحرم صنع الحكم باالغتيال والغدر والعنف، يا قوم! الدين ال يكون باإلكراه،والمجتمع المكره والمقهور أسير من يملك القوة وليس مع الذي يملك الحق.

عند هذه النقطة يحدث االلتباس، ويحصل الزيغ، وتزيغ األبصار، وتلوى األعناق، ويحدث االشتباه وتتكاثر الشبهات، وتختلط شريعة الغاب بشريعة الله، وتختلط شريعة

الطاغوت بشريعة الله، ويحصل االلتباس بين اإليمان بالله واإليمان بالطاغوت.ه)تذكر قوله تعالى: }ؤمن بالل شد} من الغي، فمن يكف}ر بالطاغ}وت وي ن الر قد تبي

[.2/256فقد استمسك بالع}روة الو}ثقى( ] البقرة: غير أن الرشد التبس بالغي عندنا، وما لم يحصل الفرقان في هذه النقطة، وما لم يتبين الفاصل بين الرشد والغي، والجاهلية واإلسالم، وشريعة الغاب وشريعة اإلنسان

وشريعة العدل، فإن كل سعينا باطل، وكل جهدنا ال قيمة له، وكل بنائنا يكون مبنيا على شفا جرف هار، وال يكون بنيانا مؤسسا على تقوى وإيمان وإسالم، فإذا حصل التمييز والتفريق بوضوح عند هذه النقطة، فكل الذي يأتي بعد ذلك يكون مفصوال

ومميزا، فال نتجادل، وال نتفائل، ويكون سعينا في النور ال في الظالم، والحق أن هذا الكتاب الذي أكتبه، وما سيكتبه أي إنسان معي أو بعدي، ال قيمة له إن لم يحصل هذا

التمييز.اللهم اجعل لنا فرقانا، وأخرجنا من الظلمات، واهدنا إلى سبيل الرشاد.

الوضوح والنقاء في مذهب ابن آدم: كنت قد وضعت لك قاعدة مهمة، وشعرت أنها أرض نقية ال يدخلها الشك والريب،

وال يحصل فيها اللبس واالشتباه، وهو موقف ابن آدم، وكنت قلت لك: إذا لم تكن فقيها، إذا لم تكن معك بوصلة، فإنني أدلك على شيء ال يحتاج إلى بحث عميق، وهو

أن تكون مثل ابن آدم، فابن آدم ال شك فيه، وال لبس، وال غموض، فقد استطاع أنيخرج من:

- القتل الذي هو واضح الحرمة.1- القتل الذي يمكن أن تكون فيه شبهة دفاع عن النفس.2 - ثم إنه تمسك بموقف ال لبس فيه، حين أخرج من نفسه فكرة القتل كليا،3

}لني ما أنا)ووقف الموقف الذي قصه الله تعالى علينا: لئن بسطت إلي يدك لتقته رب العالمين( ] المائدة: ي أخاف} الل }لك، إن [، وقال5/28بباسط يدي إليك ألقت

، وقال: » سيد الشهداء حمزة، ورجل قام إلى إمام(1) « كن كابن آدم: » الرسول ، سيد الشهداء هو الرجل الذي ق}تل(2)جائر فأمره بالمعروف ونهاه عن المنكر فقتله «

}ل. ألجل نصحه، ال ألنه كان يريد أن يقت فكر للحظة في معنى أن يتخذ اإلنسان الموقف األحوط في أشد المحرمات التي

}غتفر. تأتي في الحرمة مع الشرك باله، وقتل النفس التي حرم الله هو الذنب الذي ال ي ذ}كر عن رابعة العدوية أنه قيل لها: إن فالنا لديه مئة دليل على وجود الله، فقالت:

لو لم يكن له مئة شك لما احتاج إلى مئة دليل.

Page 151: كـــن كابن آدم - Jawdat Said · Web viewكن كابن آدم المحتوى الموضوع الصفحة المحتوى المقدمة تمهيد: لغة الحروف ولغة

ما موقفنا من هذا الكالم؟كأنني بحاجة إلى أن أقنع نفسي ال أن أقنع الناس!!..

ذكرت سابقا، وأذكر اآلن أن علينا أن نبدأ من نقطة ال خالف عليها، من نقطة لم}قتل وليس في قلبه حرص على قتل اآلخر، هو يختلط فيها الرشد بالغي، فالذي ي

صاحب الموقف الذي ال شبهة فيه.}م وأقيم}وا الصالة( ] النساء: )فأوال وقبل كل شيء }فوا أيديك }طعه}) [، و 4/77ك ال ت ،(1) [، و » صبرا آل ياسر فإن موعدكم الجنة « 96/19واسج}د واقترب( ] العلق:

نا وال م}بدل) ى أتاه}م نصر} }وذ}وا حت }وا وأ }ذب وا على ما ك ل من قبلك فصبر} س} }ذبت ر} ولقد كه، ولقد جاءك من نبأ الم}رسلين( ] األنعام: }ه}م:..) [، 6/34لكلمات الل ل س} قالت له}م ر}

}ون( ] إبراهيم: ل ل الم}توك ه فليتوك }م}ونا وعلى الل [.12-14/11ولنصبرن على ما آذيتة وتقبلها، وعدم اللجوء إلى رد األذية باألذية، وهذا هذا من جانب الصبر على األذي

ه مثالي أو هو منهج األنبياء األولين، وهو منهج النبوة الخاتمة، مهما رأى الراؤون أنخرافي وغير قابل للتطبيق، إنه منهج األنبياء من البدء وإلى المنتهى.

قوى( ] الفتح:)اشهدوا فإنني على هذا الفهم، وعلى هذا االلتزام: وألزمه}م كلمة الت48/26.]

إن أعظم من نفذ هذا األسلوب بوضوح وجالء ال خدش فيه وال التباس خالل ثالث.عشرة سنة هو الرسول

، ومن أصحابه الذين التزموه بدقة متناهية، تركوا لنا محجةبهذا الموقف منه بيضاء ليلها كنهارها، وبينوا لنا الرشد الذي ليس فيه أدنى درجة من الغي.

إنهم قدوة العالم جميعا في الوضوح والنقاء خالل التاريخ كله، وسيظلون شعلة للبشرية في المستقبل كله، في أن معركة األفكار ال يستخدم فيها سالح غير سالح

الفكر، وأن سالح الفكر ينجح نجاحا مبينا، وقد أثبتت ذلك التجربة، وقدمت رحمة وهدى ونورا ساطعا للعالمين، ال يمكن ألحد أن يطفئه، وسيظهر هذا النور مهما عمل

الذين يريدون أن يطفئوه أو ينسخوه، ألنه ثبت فريدا عجيبا في تاريخ العالم يهدي إلى الرشد، ولذلك آمنا به، ومهما حاول األصدقاء أو األعداء، من مؤمنين وكافرين، فلن

ه بأفواههم)يستطيعوا إخفاء هذه السابقة التاريخية المتكاملة: }ور الل }وا ن }طفئ }ريد}ون لي يون( ] الصف: }وره ولو كره الكافر} ه} م}تم ن [، ولو كره الكارهون، وجهل61/8والل

الجاهلون.األنبياء والصبر على األذى

هذا من جانب، ومن جانب آخر فكما هذا األسلوب والموقف المثالي الواقعي في التغيير بقي متألقا كالشمس والقمر، كذلك سجل القرآن هذا الموقف من قبل جميع

األنبياء جميعا من مطلع البشرية إلى ختام النبوة. لقد صبروا جميعا على األذى والقتل وعدم الدفاع عن النفس، وهذا ما ثبت

بالقرآن الكريم وبالتطبيق العملي، ولم يسجل القرآن هذا األمر فحسب، بل سجل شيئا آخر غير عدم الرد على العدوان، سجل الشيء الذي اعتدى عليهم من أجله، حدد

الذنب الذي اقترفوه، وحرص على أن يوضح أن ذنبهم كان محددا وواضحا، وال لبسوج، واليوم الموع}ود، وشاهد ومشه}ود، ق}تل أصحاب})فيه فقال: }ر} ماء ذات الب والس

ه}ود، }ون بالم}ؤمنين ش} ار ذات الوق}ود، إذ ه}م عليها ق}ع}ود، وه}م على ما يفعل األخد}ود، النه العزيز الحميد( ] البروج: }وا بالل }ؤمن [، وحين آمن8-85/1وما نقم}وا منه}م إال أن ي

}ون،)سحرة فرعون بموسى، وهددهم فرعون بالقطع والصلب قالوا: نا م}نقلب ا إلى رب إننا أفرغ علينا صبرا وتوفنا م}سلمين( نا لما جاءتنا، رب ا بآيات رب ا إال أن آمن وما تنقم} من

[، وفي الحوار مع أهل الكتاب يعلمنا الله تعالى أن نسألهم126-7/125] األعراف:

Page 152: كـــن كابن آدم - Jawdat Said · Web viewكن كابن آدم المحتوى الموضوع الصفحة المحتوى المقدمة تمهيد: لغة الحروف ولغة

ق}ل: يا أهل الكتاب: هل)عن الشيء المحدد الذي ينقمون منا، وذلك حين يقول: ؟( ] المائدة: }نزل من قبل} }نزل إلينا وما أ ه وما أ ا بالل ا إال أن آمن [.5/59تنقم}ون من

يظهر في هذا كله االهتمام بتحديد موطن النزاع والنقمة، وهذا أمر جوهري، حتى إن فطرة اإلنسان وطبيعته تدعوه، إذا رأى إنسانين متنازعين، أن يسأل عن الشيء

الذي يتنازعان عليه، قبل أن يصدر أي حكم بينهما، اللهم إال أن يكون إنسانا جاهليا، ال يسأل عن سبب النزاع، بل ينضم إلى عشيرته دون نظر إلى األسباب والنتائج، وهذا

هو ما أنكره الشرع اإلسالمي، والشرائع البشرية التي تتعامل بمقاييس الحضارة والتقدم، وهي تتجه إلى العدل وعدم محاباة اإلنسان القريب ألجل قرابته من دون

النظر إلى كونه ظالما أو مظلوما. اإلسالم جاء ليلغي هذا المفهوم الجاهلي، بأسلوب تربوي ملفت للنظر، وذلك حين اتجه إلى ترسيخ مفهوم تبين سبب النزاع، وحين دعا إلى عدم نصرة الظالم وإن كان

قريبا، أيا كانت القرابة ؛ فكرية أم عرقية أم جغرافية أم وطنية أم مجرد نزاع وعداوة:}م عن المسجد الحرام أن تعتد}وا( ] المائدة: ) }م شنآن} قوم أن صدوك ك [،5/2وال يجرمن}م شنآن} قوم على أال) ك هداء بالقسط وال يجرمن ه ش} }وا قوامين لل }ون }وا! ك ذين آمن ها ال يا أي

قوى( ] المائدة: }وا ه}و أقرب} للت }وا، اعدل }وا قوامين) [، 5/8تعدل }ون }وا! ك ذين آمن ها ال يا أيا أو فقيرا }ن غني }م أو الوالدين واألقربين، إن يك ه ولو على أنف}سك هداء لل بالقسط ش}ه كان بما }عرض}وا فإن الل }وا وإن تلو}وا أو ت بع}وا الهوى أن تعدل ه} أولى بهما، فال تت فالل

}ون خبيرا( ] النساء: [.4/135تعملاإلسالم وإلغاء النصرة الجاهلية

لقد جاء األسلوب التربوي النبوي على صورة إشكالية لتحديد الوالء والمناصرة قال: » انصر أخاك ظالما أو مظلوما « قالوا: هذا ننصرهبأسلوب أعمق، فالرسول

.(1)مظلوما فكيف ننصره ظالما؟ قال: » أن تكفه عن ظلمه « : » انصر أخاك ظالما أو مظلوما «، شعروا بأنهفحين سمع الصحابة قوله

مناقض لما جاء به اإلسالم من النهي عن مناصرة األخ دون التمييز بيم كونه ظالما وكونه مظلوما، ويسمى هذا األسلوب الجاهلي في العصر الحالي بأسلوب القتل على

الهوية أو اللهجة أو اللون، فأنكر الصحابة أو استشكلوا أن يصدر هذا الحكم من رسول الله، وسألوه عن ذلك، فصحح لهم األمر وأكمله بأن نصرة األخ الظالم تكون بكفه عن

ظلمه. ولكن الجاهليين كانوا كما يصفهم شاعرهم قريظ بن أنيف:

قوم إذا الشر أبدى ناجذيه لهم قاموا إليه زرافات ووحداناال يسألون أخاهم حين يندبهم في النائبات على ما قال برهانا

وكما يقول آخر:أال ال يجهلن أحد علينا فنجهل فوق جهل الجاهلينا

كانوا يعدون هذا من مناقبهم، ويرون أن من ينتظر حتى يعرف سبب النزاع ليتخذ موقفا منه، يكون قد ارتكب عمال مشينا، وخرج من قانون العشيرة، ومثل هذا أيضا قضية األخذ بالثأر، فال يشترط أن يؤخذ الثأر من الشخص الذي ارتكب الذنب نفسه،

بل من أي شخص من القبيلة يسد مسد المجرم. هكذا كان قانون العشيرة، وهكذا بدأت القوانين المحلية، إلى أن صارت قوانين

عالمية. الوحدة األوربية والفكر العالمي

إن انتقال القانون من إطار العشيرة، ثم إلى القومية، ثم إلى العالمية، أمر احتاج إلى تطور كبير وشقة بعيدة المدى وتغير جذري، ولعل إشكالية العرب والمسلمين هي

Page 153: كـــن كابن آدم - Jawdat Said · Web viewكن كابن آدم المحتوى الموضوع الصفحة المحتوى المقدمة تمهيد: لغة الحروف ولغة

عند هذه النقطة، فوالءهم لم يتعد العشيرة أو القطر، ولم تترسخ في نفوسهم فكرة القومية فضال عن فكرة اإلسالم أو العالمية، واألمر ال يتوقف عند العرب والمسلمين، بل إن المشكلة مشكلة عالمية، فالديمقراطية ال تزال قومية، ولم تتجاوز إلى األقوام العالمية، ولذلك فإنني حين أقول: إن ظاهرة الوحدة األوربية الغربية، ظاهرة جديدة

في العالم، وحين أتحمل تبعة هذا الحكم، فإنني ال أعتبرها ظاهرة كاملة ال يمكن تجاوزها إلى ما هو أفضل منها، بل إنني أتبر أن الذين لديهم فكرة عن تاريخ اإلنسان وتطوره الفكري وتقدمه، وينظرون إلى البشر كلهم على أنهم عشيرة واحدة وقومية

واحدة، هؤالء أعتبرهم أصحاب الفكرة األحدث في العالم. ربما يتضايق المسلم من هذا القول، ألنه يشعر أنه عالمي تماما، ولكن بشرط أن تكون عشيرته هي التي تقود العالم وتسوده، أما أن يكون مواطنا أو إنسانا مثل سائر

البشر، فهذا ما لم يتعود بعد على بحثه. ثم إنني أريد أن تتذكر معي أن األمر ال يقتصر على وجود الفكرة فحسب، بل

يتعدى ذلك إلى تحويل الفكرة إلى إيمان يتدخل في سلوك اإلنسان، فوجود الفكرة بشكل أولي ال يستلزم إيمان الناس بها إيمانا يظهر على سلوكهم ويدخل في ال شعورهم، والناس كثيرا ما يتحدثون عن العدل والمساواة، ولكنهم عند التطبيق

يظهرون بالقيم العشائرية األكثر عمقا في داخلهم، والذي يبدو أن دخول البشر إلى عهد القومية أو اإلنسانية جاء متأخرا، ولعل فكرة اإلنسانية ولدت قبل فكرة القومية،ولكن تحولها إلى مفهوم حاكم لسلوك الناس في حياتهم العملية أمر حديث الوالدة.

األمم المتحدة والعشائرية وحتى في األمم المتحدة، حيث يكثر الحديث والجعجعة والكالم عن العدالة

والمساواة، فإنه عند التطبيق يكون الحكم عشائريا، وما حق النقض )الفيتو( إال حق عشائري، إنه حق القوي وليس حق العدل أو اإلنسان، إذ ال يمكن أن يتالقى حق

النقض )الفيتو( مع حق اإلنسان، ولو كانت حقوق اإلنسان مرجعا أللغت حق النقض)الفيتو(.

ينبغي أنن يتحول هذا الموضوع إلى علم قابل للدراسة والتحليل، لمعرفة آلياته وكيفية تكونه وصناعته، وما لم تنتشر هذه الثقافة على أساس إمكان تحويل الناس

إلى هذه العملية التغيرية، فإن عدم الوضوح وترسخ فكرة العشيرة الموغلة فيالقدم، سيبقينا في صراعات ال نهاية لها.

إن العشائر موجودة منذ مئات اآلالف من السنين، أما المجتمعات التي تضم عشائر عديدة فهي مجتمعات حديثة العهد، وأقدم المجتمعات البشرية لم يمض عليه

أكثر من عشرة آالف عام. لقد كان التحول بطيئا وتلقائيا، فدخول اإلنسان إلى عهد الزراعة هو الذي مكنه

من االجتماع مع عدد أكبر من البشر، ومع الزراعة وجدت التجمعات البشرية الكبيرةعلى ضفاف األنهار السهلة االستغالل.

ال بد من معرفة ومتابعة كيف بدأ الخلق، خلق الوالءات وتوسعها، ومعرفة الحالة التي نعيش فيها، وكيف أننا نعيش في عهد ادعاء اإلنسانية وال يشعر المدعي بأي خجل

من نفسه إذ ينتهك حقوق اإلنسان، وإذ ال يؤدي واجباته. إننا نعيش عصر دعوى الديمقراطية، وسلوك أبعد ما عرفه الناس عن

الديمقراطية، بدون أدنى خجل أو وجل، وسلوك ما لم يكن ملوك العهود القديمةيتمكنون من سلوكه.

هناك قانون غير القانون المكتوب، وغير المنطوق، قانون يترسخ بالسلوك والممارسة، واألطفال يتشربون هذا القانون أو المفهوم العملي غير المتصل بالكالم

Page 154: كـــن كابن آدم - Jawdat Said · Web viewكن كابن آدم المحتوى الموضوع الصفحة المحتوى المقدمة تمهيد: لغة الحروف ولغة

الشفهي المنطوق، وغير المتصل بالكالم المكتوب المقروء، ونستطيع أن نراقب ذلك في حياة الناس منذ طفولتهم، وحتى يصيرون حاملين للثقافة المتداولة، وينبغي أن

نفهم أن سلوك البشر صار قابال للدراسة، ولم يعد شيء منه خفيا، وحتى األمور التي ال زالت خافية لم تعد معجزة، وما كشف حتى اآلن يدل على أن ما بقي منه قابل

للكشف.األطفال واكتساب المفاهيم

إن المدخل الذي يمكن لنا أن نفهم بواسطته أن سلوك البشر قابل للكشف والتوجه هو أوال أن الله تعالى قال لنا: إن ما بكم من دوافع خير أو شر هي بأيديكم:

اها() اها، وقد خاب من دس ونفس وما سواها، فألهمها ف}ج}ورها وتقواها، قد أفلح من زك [، وعملية التزكية والتدسية مهمة بشرية، وقد حاولت سابقا،10-91/7] الشمس:

في هذا البحث، اإلشارة إلى هذا الفهم، ليكون عندنا الدعم اإللهي في هذا الموضوع، كي ال يفهم أحد أنا ننازع الله تعالى، أو أننا نريد أن ننزع شيئا لم يمكنا منه، ولم يقل

لنا إنه من عندكم. والجانب اآلخر الذي أشعر أنه مهم بالدرجة نفسها، بل بدرجة أهم، ألن الله أعطاه أهمية كبرى، أعطاه األولوية، وجعله مرجعا لألحكام الموجودة في الكتاب الذي أنزله،

هو أن نفتح أسماعنا وأبصارنا جيدا وأن نحدق في ما يحدث ونفهم كيف يحدث، وهو أيضا أن نظر إلى األطفال الذين تدفعهم األرحام إلى الوجود وال يملكون فكرا أو كالما أو كتابة، وليس لديهم إال االستعداد ألن يكونوا أي شيء تكون عليه بيئتهم، فكل طفل يولد في العالم العربي يصير عربيا في لسانه وفكره، حين ال يرى غير قومه، والصيني

يصير بوذيا، والهندي برهميا، وكذلك كل أطفال أهل الملل والنحل واللغات. فلننظر إلى األطفال كيف يلتقطون المفاهيم واللغات الشفوية، ثم كيف يتعلمون

بعد ذلك، وبعناء، اللغة الكتابية. إن الطفل يقضي سنتين أو ثالثا قبل أن يتكلم، ويقضي سنتين أو ثالثا أخرى قبل

أن يبدأ تعلم المعنى من الكتاب. خالل السنتين أو الثالث األولى، قبل أن يتكلم، يتعلم لفة السلوك الواعي، ولغة

وإذا قيل)االنفعال، التي تبنى على المفاهيم الالشعورية التي يقول الله تعالى عنها: ه}م ه}م الم}فسد}ون ولكن ال ما نحن} م}صلح}ون، أال إن }وا إن }فسد}وا في األرض، قال له}م: ال ت

ون( ] البقرة: ه} مرضا وله}م عذاب أليم() [، 2/11يشع}ر} }وبهم مرض فزاده}م الل في ق}ل}وبهم مرض( أي مفاهيم خاطئة، هذا المرض لم يولد مع) [، 2/10]البقرة: في ق}ل

الطفل، بل هو مرض أودع فيه قبل أن يتمكن من الكالم والقراءة، قبل أن يتعلم اللغة، لم يودع فيه المرض في المدرسة، بل في المهد وهو ينظر إلى مناغاة أمه

وسلوكها معه، ومع من حولها من الكبار والصغار، فكله أذن وعين تصب في ال وعيهمفاهيم الحضارة التي احتاجت إلى آالف السين، خالل سنتين أو ثالث.

إنه يبدأ بالتمييز بين األصوات الغاضبة واألصوات الحنون، وبين الوجوه المقطبةالغاضبة، والوجوه الباسمة المطمئنة الراضية.

من هنا يتعلم األشياء المقدسة التي نغضب من أجلها إذا انتهكت، واألشياء والمفاهيم المدنسة التي نغضب، ونرفع أصواتنا، ونقطب وجوهنا منها، لهذا فإن

الطفل حين يبدأ في الحبو، واإلمساك باألشياء، واللعب بها، ينظر إلى وجوهنا ليطمئن}قابل بعالمات الرضا على وجوهنا، وهكذا يفهم القيم العميقة التي إلى أن سلوكه ي

تحكم سلوكنا قبل أن يتكلم، وقبل أن يعرف الكلمات ومعانيها، فتبدو هذه القيم عميقة في شخصيته وكأنها ولدت معه، ألنها تغرس فيه عمليا، وحين يتحدث المربون

عن أهمية موضوع القدوة واألسوة، فهم إنما يلحظون هذا الجانب.

Page 155: كـــن كابن آدم - Jawdat Said · Web viewكن كابن آدم المحتوى الموضوع الصفحة المحتوى المقدمة تمهيد: لغة الحروف ولغة

يحدث هذا لدى الطفل في السنوات التي تسبق ذهابه إلى المدرسة، وقبل أن يتعلم الكالم، وهذا ما يحكم سلوكه العميق في حياته القادمة، ويصعب عليه أن يخرج

على ما تعلمه وغرس فيه في سنوات عمره األولى، ألنه تغلغل في الالشعور. أما حين يبدأ بتعلم الكالم الشفوي فإنه يكتشف أشياء عجيبة يندهش لها، إنه

يكتشف التناقض القائم بين سلوكنا وكالمنا، سواء كان شعوريا أو ال شعوريا، فيتعلم بشكل عملي عجيب إمكانية أن يعيش اإلنسان حياتين: حياة كالمية فيها مقدسات

تعيش في عالم الكالم، ال تضرها تصرفات اإلنسان بخالفها في حياته، يفهم الطفل هذا قبل أن يعي األمور جيدا، يتعلمه مع الكلمات األولى، يتعلم الكذب، ويصير فيلسوفا في فهم هذه األمور، وكأنه خلق بالفطرة هكذا، يتعلم مستويات التناقض بين الكالم

والسلوك بشكل عملي. إننا نفترض في كثير من األحيان أن الكالم يختلف عن السلوك، ومن األقوال

السائرة بيننا قولهم: » خذوا بأقوال العلماء، وال تفعلوا أفعالهم «، لكن الذين يقولون هذا ال يدركون مقدار البؤس الذي تحمله مثل هذه األقوال، وكيف أن اإلنسان الذي

يقول ما ال يفعل يعيش حياتين متناقضتين، ويعيش بوجهين مختلفين. إن الطفل يتعلم جوز الغدر والشطارة والحذق، وربما يتعلم أن أصحاب قيم

الصدق ال يعرفون، سواء كان في الساسة أم الدين. إننا نعيش حياة بعيدة عن الصدق، وال يزال الطفل يالحظ هذا في حياته المنزلية في المراحل األولى من دخوله إلى عالم الكالم الشفوي، أما حين يبدأ بالذهاب إلى

المدرسة، ويقرأ الكتب، فإنه يجد أن القيم التي تعرض عليه على أنها مقدسة جدا، ال تجد التعبير عنها في سلوك معلميه وحياتهم، بل يجدهم يعيشون وهم يقدسون

السلوك والمفاهيم التي يرونها دنسة حقيرة. هذا هو العالم الذي نعيشه، ال أحد يريد أن يدخل إلى هذا العالم القائم بذاته،

والذي بيننا وبينه حاجز متين ال قدرة لنا على اختراقه. أنا أزعم هنا أنني وجدت الثقب للدخول إلى هذا الموضوع، فليست الحياة هي المعقدة التي ال حل لها، بل نحن الذين عقدنا الحياة وبدلنا نعمة الله نقمة، فاألمر

ليس بهذا التعقيد والغموض.اإلنسان وعلم التغيير

هل أستطيع، بمحاوالتي هذه، أن أفتح بعض الشقوق، إن لم تكن نوافذ، الختراقالمأزق الذي نعيش فيه؟

الحياة ليست بهذه القساوة، بل إن باستطاعتنا أن نجد الحلول الميسرة السهلةاالقتصادية، التي تقطع تسلسل الخطأ وإعادة إنتاجه.

أ عن البشر حركة األرض، فكانوا يظنون أن تذكر مرة أخرى كيف أن الله تعالى خب الشمس هي التي تدور حولنا، وكان لديهم استعداد أن يقتلوا من يرى غير ذلك،

وعندهم استعداد ألن يموتوا في سبيل المحافظة على هذه الفكرة، وكانوا ينسبونهاك له}و)إلى الله وإلى المقدس: ه}م م}ؤمنين، وإن رب إن في ذلك آلية وما كان أكثر}

، واتل} عليهم نبأ إبراهيم( ] الشعراء: حيم} [.69-26/67العزيز} الر لقد كان في قصصهم عبرة ألولي)سأظل أتلو عليك من أنباء ما قد سلف:

}ل شيء وه}دى ذي بين يديه، وتفصيل ك }فترى، ولكن تصديق ال األلباب، ما كان حديثا ي}ون( ] يوسف: }ؤمن [.12/111ورحمة لقوم ي

إن علم تغيير ما باألنفس علم لم يبدأ بعد في الجالء والوضوح، وال نزال نعيش في عهد يشبه عهد األمراض الجسدية قبل أن يعرف الناس الجراثيم، كم كانت األوضاعمأساوية في ذلك الحين؟! وكيف توقفت األمراض بعد أن عرف الناس أسبابها؟!!

Page 156: كـــن كابن آدم - Jawdat Said · Web viewكن كابن آدم المحتوى الموضوع الصفحة المحتوى المقدمة تمهيد: لغة الحروف ولغة

إن األمراض النفسية التي نعيشها شبيهة بذلك شبها كبيرا، ولكن كيف نفهم أنعالم األفكار قابل للفهم مثل عالم األجساد؟

لقد كان باستور يفكر وهو في مختبره بالكيفية التي تتولد فيها األمراض الجسديةوتنتقل بالعدوى، ولكن كيف نفكر نحن اآلن في قوانين تكوين عالم األنفس؟ حقا إن األمر غامض، ولكن هناك شقوق يمكن من خاللها االطالع على ما

باألنفس، فكيف نقلنا ما باألنفس من أفكار، وكيف غرسناها؟ حينما نعرف مسار تلك العملية ؛ فإننا نتمكن من وضع عملية تغيير ما باألنفس

تحت إشرافنا الدقيق، وتحت األضواء الساطعة، ولعل محاولتي الصغيرة جدا هي محاولة للتنبيه إلى الكيفية التي نغرس بها األفكار دون شعور منا، ودون شعور من

الطفل. إننا نورثهم أمراضنا الثقافية، والدخول إلى هذا العالم، إلى خريطة عالم األنفس،

وإلى المراحل التي تتكشف فيها، يكشف عالما جديدا كل الجدة. إن العلماء تعمقوا في الفلك واستطاعوا أن ينظروا إلى أبعاد كونية بماليين ومليارات السنين الضوئية، وتغلغلوا إلى داخل الذرة، إلى جزيئاتها، وال يزالون

يتوسعون ويتغلغلون، ولكن ما شأن عالم األنفس؟ كيف يمكن أن نتعلم مبادئه األولية؟المساواة والقضاء على الظلم والفساد

أريد أن أقول، بحرف مضمر وكلمة واحدة: إن القضاء على الظلم والنفاق، يكونحين نلمح أن قانون البشر واحد كما أن قانون الذرات واألفالك واحد في نظام سيرها. فإذا فهم الناس، أو وجد من يكشف لهم أن السيئة سيئة، سواء منا أم من غيرنا:

وءا) }م وال أماني أهل الكتاب ] وال بأماني أحد من البشر [- من يعمل س} ك ليس بأمانيا وال نصيرا( ] النساء: ه ولي }جز به وال يجد له} من د}ون الل [، ولن تبكي عليه4/123ي

األرض وال السماء. إن أم األمراض النفسية وبؤرتها هي أن تترفع عن قبول أن ينطبق عليك ما ينطبق

على اآلخر، وبكلمة أخرى: أن تعطي لنفسك امتيازات ال يتمتع بها اآلخرون. قديما قالوا: قد أنصفك من ساواك بنفسه. فهل يمكن لنا أن نقبل المساواة؟ ما

معنى أن نقبل بها؟ هل نجرؤ على تحمل تبعة هذه الفكرة؟ إلى أي مدى يمكن أن نقبل المساواة؟ عند أي نقطة سننكص عن االعتراف بها وسنرفضها؟ هل يمكن ألحد

أن يقدم الدليل على قبوله بهذه الفكرة، من غير أن يكون قد قبل فكرة ابن آدم؟ هلعندك استعداد ألن تقرر هذه القاعدة؟

أنا ال أعطي لنفسي حقا أحرمك وأحرم اآلخر منه، وسألتزم هذه القاعدة، وإن}غلب متمسك به، ألنه كنت ترفضها، وبهذه القاعدة يمكن لنا أن نضع القانون الذي لن ي

قرر القاعدة التي يحمي بها نفسه ويحمي اآلخرين. هل يمكن لنا أن نقبل أن يكون لآلخر، الذي يحمل دينا مختلفا أو ال يحمل دينا، مثل

الحق الذي نملكه تماما، على الرغم من شعورك بأنك تمتلك دين الحق وأنك غنيومتمكن وقوي؟

قد يكون قريبا وجود فرد يقبل ذلك، ولكن هل يمكن أن يوجد مجتمع يكرس حياته كلها مستنفرا لحماية العدالة بين جميع الناس والمجتمعات؟ هل يمكن أن نتصور ذلك؟ هل يمكن أن نجند أنفسنا لصنع هذا المجتمع إن لم يكن موجودا، وأال نتحول إلى ح}ماة

لالمتيازات وللذين يحمون االمتيازات؟من تأييد الظلم إلى الوقوف بوجهه

Page 157: كـــن كابن آدم - Jawdat Said · Web viewكن كابن آدم المحتوى الموضوع الصفحة المحتوى المقدمة تمهيد: لغة الحروف ولغة

ليست القضية أن تحمي مجتمعك من االعتداء عليه من اآلخرين، ولكن القضية هي أن تمنع مجتمعك من العدوان على اآلخرين، ومن االحتفاظ باالمتيازات على

حساب اآلخرين. إن انتقال اإلنسان من تجنيد نفسه لحماية المجتمع أو حماية امتيازاته، إلى تجنيدها

لمنع مجتمعه من ظلم اآلخرين واالحتفاظ باالمتيازات دون اآلخرين، هذا االنتقال هومفترق الطرق الذي هلكت عنده الحضارات جميعا.

سهل عليك أن تعترف بشيء من هذا وأنت مريض وضعيف ومضطهد ومسكين وفقير، سهل عليك أن تستجيب لمعنى العدل، وأال يكون لك امتياز على اآلخرين،

ولكن ما هو الميزان الذي ستزن به األمور حين تكون قويا غنيا، تأمل أن يزدادسلطانك، وتخشى أن ينقص أو يزول؟

ينبغي أن يتعلم الناس أن عليهم أال يكونوا جنودا لخدمة هذا المجتمع السكران، ولخدمة من يمثل المجتمع الذي لوى عنقه الهوى، وسيطر عليه الغرور، فرفع رأسه

ا ق}وة( ] فصلت: )وأعلن: }م لما) [، 41/15من أشد من ون من قبلك ولقد أهلكنا الق}ر}}م }وا كذلك نجزي القوم الم}جرمين، ث }ؤمن }وا لي نات، وما كان }ه}م بالبي ل س} ظلم}وا وجاءته}م ر}

}ون( ] يونس: }ر كيف تعمل }م خالئف في األرض من بعدهم لننظ [.14-10/13جعلناك تأمل جيدا الفكرة الموجودة في هذه اآلية! كيف يمكن أن نكشف فيها دورة

الفلك؟ كيف يمكن أن نرى فيها كيف تخدعنا دورة الشمس؟ إن القرون الذين سبقونا أهلكوا جميعا، لم يذكر التاريخ عن أحد منهم أنه اجتاز

هذه العقبة، فالجميع سقطوا في هذا الم}نحدر، إال قوم يونس. كنت ذكرت لك تشاؤم ذاك الذي راقب الحضارات، والتاريخ إلى اآلن ال يسعفنا بالنماذج التي ال تنسى التاريخ، وال تريد علوا في األرض وال فسادا، وهذا ال يدل على

أن األمر مستحيل، ولكنه يدل على أننا ال زال في عهد طفولة المجتمعات التي لم تتعلم بعد كيف تتعايش من غير أن يتعالى بعضهم على بعض، ومن غير أن يتبادلوا

التعالي. ربما يخطر للمسلم أنه هو صاحب التاريخ العظيم، وأنه هو الذي تمكن من صنع الرشد أو تلمسه، ولكنه فسر موضوع الرشد بعد أن ذهب منه الرشد وكان تفسيره

للرشد تفسيرا خوارقيا، تفسيرا ع}لويا، ولذلك لم يستطع إيقاف ذهابه، فودعه حسيرا، ولم يتبين الرشد، بل دخل عهد التعالي ونبذ العهد، ولم يعودوا يرقبون في مؤمن إال

وال ذمة، ال قرابة وال عهدا، ولم يعد فينا من يدعو إلى الرشد.نحو العدل والمساواة

ألم يكف ما مر علينا من هالك القرون فيكون لنا بها عبرة؟ أليس في أنبائها مايحملنا على الدعوة إلى الرشد والتخلي عن العلو في األرض؟ أليس فينا رجل رشيد؟

}وربة الغربية! تعلموا تأمل ما حدث في التاريخ وما يحدث، تأملوا ما يحدث في أ إنهم على األقل رفعوا مستوى التخلي عن التعالي فيما بينهم وأقروا أنهم بشر

متساوون.من، إنهم فهموا تجاربهم، وقوموا تاريخهم، لم ينكروا إن ما يحدث مدفوع الث

}عرضوا عن عبر األحداث. التاريخ، ولم يكيف ومتى تتعلم المجتمعات عبر التاريخ؟ هل يمكن اعتبارهم بقوم يونس؟

إن جهاز معرفتنا هش وكليل عن إمكان ربط األسباب بالنتائج، وعاجز عن تخيلحصيلة تجاربنا للماضي.

لقد و}صف آد بالنسيان، ونحن أمرنا بالتذكر والتذكير، وقيل لنا إن النسيان يوهن [.20/115فنسي ولم نجد له} عزما( ] طه: )من العزائم

Page 158: كـــن كابن آدم - Jawdat Said · Web viewكن كابن آدم المحتوى الموضوع الصفحة المحتوى المقدمة تمهيد: لغة الحروف ولغة

كيف سنقوم بعملية التذكير؟ ولقد عهدنا إلى آدم من قبل} فنسي ولم نجد له})نقوم بذلك بالعودة إلى التاريخ:

تلك الق}رى نق}ص عليك من): [، والله تعالى قال لمحمد 20/115عزما( ] طه: ، كذلك يطبع} }وا من قبل} ب }وا بما كذ }ؤمن }وا لي نات فما كان }ه}م بالبي ل س} أنبائها، ولقد جاءته}م ر}}وب الكافرين، وما وجدنا ألكثرهم من عهد، وإن وجدنا أكثره}م لفاسقين( ه} على ق}ل الل

ت} به ف}ؤادك) [، وقال: 7/102] األعراف: }ثب ل ما ن س} }ال نق}ص عليك من أنباء الر وك}وا على }ون اعمل }ؤمن ذين ال ي وجاءك في هذه الحق وموعظة وذكرى للم}ؤمنين، وق}ل لل

ون( ] هود: ا م}نتظر} وا إن }ون، وانتظر} ا عامل }م إن [.11/122مكانتك إن في قصص التاريخ ما يثبت الفؤاد، ولهذا فإن الله تعالى يعطي أهمية كبرى

للتاريخ باعتباره من أهم مصادر المعرفة، ومن أنفع وسائل التربي، فحين تشتبه األمور}ت} فؤاده، وإذا لم تصدقوا هذا، ولم تؤمنوا به، وتخور العزائم، فإن من يتذكر التاريخ يثب

ون(.)فـ ا م}نتظر} وا إن }ون، وانتظر} ا عامل }م إن }وا على مكانتك اعملالقرآن ينقل مصدر المعرفة إلى التاريخ:

لقد انتقل مصدر المعرفة، بواسطة القرآن إلى التاريخ وأحداث البشر، وإلىالصراع بين المستكبرين في األرض واآلمرين بالقسط من الناس.

تأمل هذا جيدا، ال تنس التاريخ، إن نسيانه يوهن العزم، وإن تذكره يثبت الفؤاد، وإذا لم تسمع هذا من قبل، فاسمعه اآلن، وإن كنت تتردد في تفهمه، فأعد النظر

كرتين، بل ثالثا، وأنا أعيد وأعيد النظر مررا، وعلى قدر إعادتك وتأملك يكون فؤادكثابتا، وإال فإنك تفقد العزيمة والثبات.

إن أنباء السابقين فيها موعظة وذكرى للمؤمنين، ومن لم يتعلم من أحداث السابقين، فسيدفع الثمن، وسيلدغ من الجحر الواحد، ليس مرتين، ولكن مرارا كثيرة،

ولن يمل الله حتى تملوا. كيف سنزين للشباب اإلسالمي والعالمي معرفة التاريخ، وأنه يمشي وفق تخطيط

الله الذي ال يضيع طريقه، ولم يضيع طريقه خالل مليارات السنين. لقد صار لإلنسان قدرة وأمانة عظيمة، بما أعطي من قدرة على تأمل التاريخ،

وإمكان اختزاله بتقليل الزمن والتكاليف، وعدم تكرار التجارب الخاطئة.هذا هو مكان اإلنسان الذي ينبغي أال ينساه ويغفل عنه.

إن عدم معرفة أهمية التاريخ هو الذي أوصل الفلسفة الغربية والفكر الغربي إلى العدمية السوفسطائية العبثية، وإلى أن العالم ليس فيه حق يمكن التعرف عليه، ومن

هنا أعلنوا موت الله، وموت اإلنسان، ولم يبق أمامهم إال العدمية على درجات متفاوتة، ولكن العدمية تمنع الحركة مطلقا، ألنه لم يعد يوجد ال رشد وال غي، وكله

باطل األباطيل وقبض ريح، ولو أن الفكر العدمي سيطر على اإلنسان شعورا وال شعورا لتحول إلى مجرم كما فعل التوسوري، ومن لم يصل إلى هذه الدرجة فإن

حياته لن تكون أفضل كثيرا. إن ذهن اإلنسان ال يؤتمن، ولكن التاريخ يؤتمن، ألن التاريخ ال يمشي على أهواء

البشر. إن للتاريخ هدفه، ولذلك يجعله القرآن مصدرا للمعرفة، وليس هذا فقط، بل إنه الشاهد الذي يعتمد عليه القرآن في إثبات صدقه، ول علم الناس أهمية التاريخ، وأنه المرجع األول والخير، فإن من ال يعتبر بالتاريخ المكتوب، فإن التاريخ الحي المتحرك في األرض سيضطر اإلنسان إلى االعتبار وتغيير المسار، وسيضطر الناس إلى قبول

ولتعلم}ن نبأه} بعد حين( ] ص:)هذا. ومن لم يعرف هذا النبأ فسيعرفه رغما عنه ه}م يرونه} بعيدا، ونراه} قريبا( ] المعارج: ) [، 38/88 [. 7-70/6إن