204.93.193.134204.93.193.134/book/word/dlal.doc  · web viewولنعد إلى كلام صاحب...

586
مةّ د ق م رّ ر مق ل ا__________________________________________ 1 ة ق ف ب سا مك ل ا رمة ح م ل ا( 1 ) ظ ف ح ب ت كال ل ض ل ا ات بّ , ب س م و ساد ف ل اً را7 ير ق ت; حات ب> لا د7 ب س ل ا ى ض ت ر م7 H ى ن7 ب س ح ل ا7 ي ار ر7 ي; ش ل ا

Upload: others

Post on 28-Jan-2020

17 views

Category:

Documents


0 download

TRANSCRIPT

136 حفظ كتب الضلال ومسبّبات الفساد

مقدّمة المقرّر7

فقه المكاسب المحرمة (1)

حفظ كتب الضلال

ومسـبّبات الفـساد

تقريراً لأبحاث السيد

مرتضى الحسيني الشيرازي

المقرر: الشيخ زيد الكاظمي

بِسْمِ اللهِ الرّحْمـَنِ الرّحِيمِ

الـْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ

الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ

إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ

اهْدِنَا الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ

صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ

غَيْرِ المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ

صدق الله العلي العظيم

مقدمة المقرر:

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين وصلى الله تعالى على محمد وآله الطاهرين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين إلى يوم الدين, ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

وبعد: إن الله تعالى خلق الإنسان وركب فيه نعمة العقل, وهو بهذه الجوهرة ـ العقل ـ قد افترق عن غيره, ففضّله على سائر مخلوقاته, ثم ندبه إلى طاعته ومعرفته, فحثه تعالى على طلب العلم والاهتمام به؛ فإنّه بالعلم تتسامى النفوس وتفترق الدرجات, وبه تكون النجاة، بل إنَّه تعالى قد أوجب طلب العلم ـ في الجملة ـ عينياً، كما في أصول الدين، وكفائياً كالصناعات.

وقد كان من نعم الله المتواترة وجود حواضر لهذا العلم, كانت ولا زالت تجود وتعطي، وتأخذ بيد الناس إلى ساحل الهداية والرضوان, ومن تلك الحواضر، بل وأهمها وأعظمها مدينة النجف الأشرف, تلك المدينة التي شرفها الله تعالى بأمير المؤمنين وسيد المتّقين علي بن أبي طالب×, وكذلك شرفها بوجود حوزتها المباركة, هذه الجامعة العالمية، التي ما برحت تعمل على بناء الإنسان بكل أبعاده، من خلال هدايته إلى طرق السعادة والخير والفلاح.

وكان من ألطافه أيضاً على حوزتها الشريفة أن مَنّ عليها بالعلماء الربانيين والفقهاء المخلصين, الذين كانوا على مرّ العصور والأزمان هم الحصون المنيعة، التي بها يلوذ الخلق لرفع الجهالات, وبهم يُتّقى من الفتن والضلالات.

ومِن هؤلاء الأعلام سيدنا الأستاذ آية الله السيد مرتضى الحسيني الشيرازي >دامت فيوضاته<؛ إذ حلّ في مدينة النجف الأشرف، وبدأ بمباشرة درسه الخارج في الفقه والأصول والتفسير, وقد تفضل المنعم عليّ بأن وفقني لحضور درسه الشريف من بداياته, وكذلك سددني تعالى بأن أقرر ما جاد به فكره، وثبته في درس بحثه في الفقه، المكاسب المحرمة، مسألة حفظ كتب الضلال.

وقد اختار سماحته هذا الموضوع الحيوي ـ حفظ كتب الضلال ـ لما له من أهمية عظيمةٍ ومساسٍ كبيرٍ في حياتنا, خاصة بعد توسيع مفهومه إلى (ومختلف التقلبات في مسببات الفساد) وتطبيقه على الكثير من المسائل والتفريعات.

وقد تناول السيد الأستاذ بدايةً تنقيح موضوع المسألة ونطاق البحث, ثم عمل على الاستدلال بالآيات القرآنية على ذلك، من خلال النقاش الموضوعي المعمق لآراء الفقهاء والمفسرين , كما بيّن وجه التعميم والشمول في المسألة.

ثم استدل كذلك بالروايات الشريفة، فسبر غورها تارة من حيث السند وإثبات الصدور، واُخرى من حيث المتن والدلالة، فكشف اللثام عن المرادات والنتائج المتحصلة, وبيّن أن حفظ كتب الضلالة محرم تكليفاً, مثبتاً بأن الاستدلال تامٌ ووافٍ لإثبات حرمة كافة المعاملات الجارية على مسببات الفساد، ومنها كتب الضلال، بل وبطلانها أيضاً.

وكانت هذه الدروس والتقريرات توزع يومياً على الأفاضل الكرام ـ بعد أن يراجعها السيد الأستاذ فيضيف أو يعمّق ما يراه ـ إعانة وإفادة لهم.

ثم جاءت مرحلة تحويلها إلى كتاب يضم بين ثناياه البحث المعمق، الذي ألقاه سماحته في هذه المسألة, وفعلاً ـ وبتوفيق الله تعالى ـ قمنا بهذه المهمة من خلال مراجعة الدروس وتحويلها إلى ذلك.

ثم قام أحد الإخوة المحققين بتحقيق الكتاب، وتخريج مصادره كيما يكون أكثر فائدة لأهل الاختصاص والفن, وبعد ذلك راجعه سيدنا الأستاذ مرة أخرى.

أسأله تعالى أن يوفقنا لخدمة الإسلام الحنيف والمذهب الحق, وأن يجعل كل هذا الجهد في ميزان حسناتنا، ويتقبل منّا، إنه نعم المولى ونعم النصير .

وصلى الله على محمد وآله الطاهرين .

زيد الكاظمي

النجف الأشرف /8 شوال/1435هجرية

الفصل الأول

تنقيح الموضوع

المقدمة:

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا ونبينا محمد وآله الطيبين الطاهرين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

سيدور بحثنا ـ بإذن الله تعالى ـ حول بعض مباحث المكاسب المحرمة، وسننتخب منها ما هو مورد الابتلاء، وما يحتاج إلى تنقيح أكثر؛ كي تكون الفائدة أتم وأشمل، ولتعم البحث النظري والعملي أيضاً بالنسبة للمكلفين عامة.

المسألة مورد البحث: حفظ كتب الضلال

ومسألتنا مورد البحث هي حفظ كتب الضلال، وهذه المسألة هي المسألة السابعة من النوع الرابع من أنواع المكاسب المحرمة التي ذكرها الشيخ في كتابه، وقد عممنا البحث ليشمل إيجاد وحفظ وترويج كتب الضلال ومسببات الفساد، فإنه أكثر فائدة وأعم ابتلاءً.

تقسيم الشيخ الأنصاري للمكاسب المحرمة:

وقبل أن نبدأ البحث في مسألتنا نشير إلى أنّ الشيخ الأنصاري+ قسّم المكاسب المحرمة إلى خمسة أقسام، ووجه تقسيمه هذا أنّ حرمة الاكتساب قد يكون متعلَّقها نفس العين المكتسب بها، وقد يكون متعلقها فعل الاكتساب والكسب.

والأقسام الثلاثة الأولى من أقسامه هي تلك المتعلقة بالعين، وأما القسم الرابع والخامس فهما من قبيل ما يتعلق بالفعل، هذا هو الوجه الكلي لتقسيم الشيخ .

الأقسام الخمسة للمكاسب:

القسم الأول: ما يحرم الاكتساب به لكون متعلَّقه من الأعيان النجسة()، كالدم والكلب والخنزير والميتة وما أشبه ذلك، وأُلحقت بها المتنجسات.

القسم الثاني: ما يحرم الاكتساب به لحرمة ما يقصد به() ـ لا لكون متعلقه نجساً كما في القسم الأول ـ فإنّ العين قد يقصد منها مقصداً يكون سبباً لحرمة التعامل بها، كما في بيع الصليب والصنم()، وكذلك بيع أواني الذهب والفضة وغيرها، فإنّ بيع الصنم محرم لا لكونه من الأعيان النجسة؛ إذ قد يكون من الخشب فلا يكون نجساً، وإنما الحرمة بسبب ما قصد به من عبادة غير الله تعالى.

القسم الثالث: ما يحرم لا لكونه عيناً نجسة، ولا لقصد غير شرعي قد قصد به، وإنما يحرم بيعه والتعامل به لعدم وجود منفعة محللة مقصودة للعقلاء مترتبة عليه()، كما هو الحال في بيع ما هو متناهٍ في الخسة، أو ما هو متناهٍ في القلة، كبيع حبة حنطة ـ مثلاً ـ لو فرض أن لا فائدة فيها، أو كبيع نخامة الإنسان أو بعض الحشرات()، فلا منفعة محللة مقصوده في مثل هذا البيع.

وجامع الأقسام الثلاثة المذكورة هو: أن المشكلة في نفس العين، فإما أن العين نجسة، وإما هي عين يقصد بها ما حرّمه الله تعالى أو لم يشرعه، وإما أن تكون لا فائدة منها.

القسم الرابع: وهو ما يتعلق بالفعل ـ ومباحثنا تدور في هذا القسم ـ وهو ما يحرم لكون فعله محرماً()، وما دام الفعل كذلك فالاكتساب محرم أيضاً، مثل حفظ كتب الضلال() والغش والرشوة والقيادة والقيافة والسحر، فإنّ كل هذه الأفعال محرمة بنفسها.

القسم الخامس: ما يحرم لكون الفعل واجباً()، ومثاله ـ على المشهور ـ أن يأخذ الإنسان الأُجرة على عباداته الشخصية، أو يتصالح مع أبيه ـ مثلاً ـ على مبلغ من المال على أن يصلي صلاة الصبح().

وحديثنا ـ كما قلنا ـ سيكون في المسألة السابعة من القسم الرابع من هذه الأقسام، وعلى حسب أسلوب المكاسب()، وهي مسألة: حفظ كتب الضلال.

حيث يقول الشيخ الأنصاري: >حفظ كتب الضلال حرام في الجملة بلا خلاف، كما في التذكرة، وعن المنتهى<()، وقد صرح مجموعة من الفقهاء بأنه لا خلاف في ذلك().

فهرسة المباحث:

وتنقيح هذه المسألة يتوقف على مباحث خمسة:

المبحث الأول: نطاق البحث والموضوع

وهو ما يسمى بتحديد نطاق الموضوع والدراسة، وبحسب المصطلح الأصولي: تعيين الموضوع ومتعلقه ومتعلق المتعلق.

ففي مسألة (حفظ كتب الضلال) لدينا (حفظ) وهو الموضوع، و(كتب) وهو المتعلق، و(ضلال) وهو متعلق المتعلق.

سعة البحث:

وسيأتي ـ إن شاء الله تعالى ـ أن نطاق البحث واسع جداً، فإنه يشمل الجرائد والمجلات والإذاعات والفضائيات الفاسدة والمفسدة، بل سيأتي كذلك أنّ هذا البحث بأدلته ـ وإن كان العنوان ضيقاً ـ يشمل المكتبات إن كانت مكتبات ضلال، وكذلك يشمل المعاهد والمدارس والأحزاب التي تُخرِّج الإرهابيين، أو دعاة الوهابية مثلاً، أو التي تدعو للإباحية والانحلال الخلقي أو إلى الإلحاد.

وعليه، فإنّ حفظ كتب الضلال وإن كان عنواناً خاصاً، لكن المعنون عام وشامل لموارد كثيرة، ولذا نجد صاحب العروة يقول: «ولا خصوصية للكتب في ذلك، فيحرم حفظ غيرها أيضاً، مما من شانه الإضلال كالمزار والمقبرة والمدرسة ونحو ذلك»()؛ ولذا فهو بحث هو عام البلوى، وذو عرض وسيع وفائدة كبيرة.

المبحث الثاني: الحكم التكليفي في هذه المسألة XE "المبحث الثاني\: الحكم التكليفي في هذه المسألة"

أي: حكم التعامل فيها من بيع وشراء ومصالحة وإجارة وغيرها، فهل أن كل ذلك حرام مطلقاً, أو في الجملة؟

المبحث الثالث: مستثنيات المسألة

فعلى القول بالحرمة المطلقة لحفظ كتب الضلال، فإنه لابد من تعيين دائرة الحرمة وسعتها، ثم تحديد مستثنيات حرمة الحفظ، كما في حفظ هذه الكتب من قبل الشخص الداعية والمرشد لرد شبهات الخصم، أو ذلك الذي يضعها في مكتبته لمواطن التقية من المخالفين. كما أن هناك نقاشاً حول بعض المستثنيات، فإنّ صاحب الجواهر() يُشكل على القول بأنّ من مستثنيات حفظ كتب الضلال هو تحصيل ملكة البحث.

المبحث الرابع: الحكم الوضعي لبيع كتب الضلال XE "المبحث الرابع\: الحكم الوضعي لبيع كتب الضلال"

وهو المبحث الذي من أجله أُدخلت هذه المسألة وبحثت في المكاسب، وهو الحكم الوضعي لبيع كتب الضلال، فبعد الفراغ من الحرمة التكليفية كما هو واضح، فهل المعاملات التي تجري في مسألتنا المزبورة كما هي محرمة تكليفاً، باطلة وضعاً أم لا؟ فلو أن شخصاً باع كتاب الإنجيل ـ مثلاً ـ فهل أنَّ هذا البيع حرام وباطل؟ ويكون أكل ثمنه أكلاً للمال بالباطل.

المبحث الخامس(): واجب الدولة تجاه كتب الضلال

وهو واجب الدولة تجاه كتب الضلال والفضائيات والمعاهد والمساجد والجرائد الضالة والمضلة، وهذا المبحث هو مبحث شديد الابتلاء، وينبغي أن يعقد له مبحث مستقل في ضمن إطار مباحث فقه الدولة.

أبعاد الفقه المتعددة():

إنه يقترح أن تعاد كتابة الفقه ـ ولو في بعض صيغه ـ من حيث العلة الصورية، وذلك في ضمن ثلاثة أبعاد:

أولاً: الفقه الشخصي، وهو فقه الأحوال الشخصية، وفقهنا التقليدي جارٍ على هذا الحال.

ثانياً: فقه المجتمع، كفقه العشائر والنقابات والمنظمات والأحزاب، وفقه الشركات العابرة للقارات ـ وقد كتبت بعض الكتب القليلة أخيراً في هذا الحقل ـ ومن مسائله ـ مثلاً ـ تمويل الأحزاب من جهات خارجية، أو تمويل منظمات المجتمع المدني كذلك، فهل هذا جائز أو لا؟ وكذا تسلح وتسليح العشائر والأحزاب والمنظمات، فهل هو واجب أم حرام؟ وغيرها من المسائل المختلفة.

ثالثاً: فقه الدولة، وهذا البعد يتعلق بالدولة وهيكلية حركتها القانونية وحقوقها وواجباتها، فإنّ لها عرضاً عريضاً من الأحكام، ففي البعد الأول ـ أي: فقه الأحوال الشخصية ـ لو قلنا: إنّ حفظ كتب الضلال حرام، فيأتي السؤال اللاحق في (فقه الدولة) وأنه: هل يجب على الدولة() أن تسن قانوناً يمنع أو يحظر هذه الكتب أو لا؟ هذا أولاً، وثانياً: لو قامت الدولة بذلك ـ أي لو شرعت القانون ـ فهل عليها أن تفرض عقوبات أو غرامات على مَنْ خالف هذا المنع والحظر أو لا؟

كما أنّ الدولة لو كانت غير إسلامية، فما هو تكليفنا تجاهها في مثل مسألتنا؟ وغيرها من المباحث الأخرى التي لابد من بحثها في فقه الدولة.

ولابد من التنبيه على أن النسبة بين الحكم الشخصي وحكم الدولة هو العموم والخصوص من وجه، فإنّه ربما وجب الأمر على شخص دون الدولة، وربما كان الأمر بعكس ذلك، وقد يجتمع الحكمان.

المبحث الأول: نطاق البحث()

هذا المبحث يتناول تنقيح الموضوع ومتعلَّقه ومتعلَّق متعلقه، وإن تمهيد هذه المسألة وتنقيح الموضوع وحدوده أولاً أمر ضروري، وعلى القاعدة وبمقتضى الطبع؛ ذلك كي تكون المسائل وأنواعها حاضرة في البال حين استعراض الأدلة التي يمكن أن يستدل بها، ومدى دلالتها، فإنه لابد أن نعرف ـ مثلاً ـ أنّ في (حفظ كتب الضلال) معانيَ ستة مثلاً، ثم نرى أيها المقصود بالتحريم، ومدى حدود دلالة الأدلة على تحريم هذه الأنواع، وهذا العنوان بهذا المعنى أو ذاك، وهل هي دلالة واسعة لتشملها كلها أو ضيقة فتشمل البعض؟

عدم ورود مصطلح كتب الضلال في الروايات():

وهنا إشارة مهمة، وهي أنّ صاحب الجواهر ذكر أنّ مصطلح كتب الضلال لم يرد في الروايات، كما أنه ليس بموجود في آيات الذكر الحكيم كما هو واضح؛ ولذا فإنّ البحث لا ينبغي أن يدور مدار هذا المصطلح وهذا اللفظ؛ إذ ليست الحرمة معلقة عليه، ولا مجال للتمسك بإطلاق هذه اللفظة أو عمومها أو غيرها.

قال: >ليس في النصوص هذا اللفظ، كي يقتصر على المنساق منها من كونه معدّاً، أو كون مجموعه ضلالاً أو نحو ذلك، وإنما العمدة ما سمعته من الدليل الذي لا فرق فيه بين المعدّ وغيره، والكل والبعض، والأصلي والفرعي...<()، انتهى، وإنما علينا أن ندور مدار الأدلة، والحاصل أن هذا المصطلح ـ كتب الضلال ـ بما هو عنوان فقهائي، لا قيمة له من هذه الجهة إلا بمقدار الإشارة إلى موطن البحث().

تعقيب على كلام صاحب الجواهر():

ونقول في مقام التعليق والتعقيب على كلام صاحب الجواهر: إنّ مصطلح وعنوان (كتب الضلال) وإن لم يرد في الروايات ـ بحسب استقراء شبه تام ـ ولكن هناك مصطلحاً آخر ورد في الروايات، ولم يذكره صاحب الجواهر، وهو أقوى في إفادة المعنى المراد في التعميم لمصطلح (كتب الضلال)؛ ولذا سنجري على ذلك المصطلح لاحقاً.

والعنوان الموجود في بعض الروايات هو كلمة (باب ضلال)()، وهذا العنوان ـ أي: باب ضلال ـ أوسع من كتب الضلال، وهو أقرب للأدلة وعمومها ـ إن لم يكن مطابقاً لها ـ وتحقيقه يأتي إن شاء الله تعالى.

تحليل المفردات الثلاث():

نتحدث في هذا البحث عن المفردات الثلاث للمسألة، وهي: حفظ، وكتب، وضلال، وما هو المراد منها.

المفردة الأولى: كلمة (حفظ) ومحتملاتها الستة

أما المفردة الأولى، فإن المحقق الإيرواني ذكر أنّ المراد من هذه الكلمة يحتمل معاني ثلاثة، قال: >المراد من الحفظ عدم التعرض للإتلاف، لكنه بعيد من العبارة، ويحتمل أن يكون المراد من الحفظ إثبات اليد عليها واقتناءها، وثالث الاحتمالات الذي هو ظاهر لفظ الحفظ حفظه عن التلف، فيختص بما إذا كان في عرضة التلف ومتوجهاً إليه غرق أو حرق، فيحفظه عن ذلك...<().

وأضاف بعض الفقهاء معنى رابعاً، وأما نحن فسنضيف ملحقين لذلك.

المعنى الأول: هو المعنى المتعدي بـ (عن) ، فيكون المعنى المراد هو حفظ كتب الضلال عن أن تتلف، أي: حفظها عن التلف فيما لو كانت في معرض التلف، وهو ثالث معاني الإيرواني، والحاصل أنّ المعنى الأول لكلمة (حفظ) هو أنّ كتب الضلال كالإنجيل، أو أي كتاب يعلِّم السحر، أو الكتب التي توجب الفتنة بين المسلمين أو غير ذلك، لو كانت في معرض التلف من حرق أو غرق أو مطر أو رياح، وكاد ذلك الكتاب يتلف، ففي هذه الحالة يكون حفظه حراماً، وأما لو لم يكن الأمر كذلك، كما لو كان الكتاب في مكتبة عامة أو خاصة مثلاً، وكان محفوظاً فليس هذا الحفظ حراماً.

والمحقق الايراوني ذهب إلى أنّ هذا هو المعنى الظاهر من كلمة (حفظ)، أي: حفظه عن التلف، ولكن الظاهر: أنّ تخصيص حرمة الحفظ بهذا المعنى ضعيف، كما سيأتي وكما صرح به أيضاً.

المعنى الثاني: والذي يحتمل إرادته من كلمة (حفظ) هو (الاقتناء)، ويكون معنى حفظه: (اقتناؤه)، أي: وضع اليد عليه، والحفظ على هذا المعنى متعدِّ بنفسه، بخلاف المعنى الأول، والذي يتعدى بـ (عن)، وهذا ثاني معاني الإيرواني.

وأما النسبة بين المعنى الأول والثاني فهي العموم والخصوص من وجه، فإن مادة افتراق الأول عن الثاني هي ما لو كان كتاب الضلال أو غيره ـ كالقرص الليزري المضل مثلاً ـ في معرض التلف، ولكنه لم يكن مقتنىً له، ولم يكن تحت سلطته، كإنجيل مطروح في الشارع أو غيره، فإنّ حفظه عن التلف عمل محرم على المعنى الأول دون الثاني، وكذا لو كان هناك كتاب ضلالة مثلاً ملكاً للغير وعلى وشك أن يتلف.

وأما مادة افتراق المعنى الثاني عن الأول فهو أن يكون الكتاب مقتنىً للشخص من غير أن يكون في معرض التلف، وما أكثر ذلك، ككتاب سحر أو إلحادٍ أو ضلال في مكتبة خاصة، ولم يكن في معرض تلف، فإنّ نفس حفظه في المكتبة حرام على المعنى الثاني، دون الأول.

المعنى الثالث: هو عدم التعرض للإتلاف()، لكنه معنى مجازي، وهو أعم من المعنيين الأولين؛ إذ تفسير الحفظ بعدم التعرض للإتلاف هو تفسير مجازي؛ لأنّ للحفظ معنى إيجابياً، والتفسير الثالث تفسير بالمعنى السلبي الأعم، فكلما لم تتلف كتب الضلال، ولم تتصد لإتلافها فإنك حافظ لها على هذا المعنى، وهذا المعنى أعم؛ لأنه قد لا يكون كتاب الضلال أو باب الضلال في معرض التلف، كما لا يكون مقتنى، ولكن تركه وعدم إتلافه حرام، ككتاب ضلال موجود في مكان عام كحديقة مثلاً، لكنه كان في ركن منها محفوظاً، ولم يكن ملكاً للشخص، ولا كان في معرض التلف، ولا كان الشخص حافظاً له، فإنّ نفس عدم إتلافه حرام.

المعنى الرابع: هو الحفظ في الصدور، كحفظ أشعار فيها هجاء للمؤمن، وكحفظ النكات التي تهين أمة معينة، وتنتهك حرمتها، فحفظ هذه النكات على هذا المعنى حرام، وكذلك حفظ الكلمات البذيئة، وكذلك حفظ الأشعار أو الكلمات الفلسفية أو العرفانية الباطلة، كقول قائلهم: (ليس في جبتي سوى الله)()، أو حفظ بعض الروايات الإسرائيلية التي جاءت في كتاب البخاري مثلاً، نظير (أن الله تعالى يدخل رجله في النار حتى تمتلئ فتقول قط قط)() وهكذا، اللهم إلا ما كان للنقض والرد كما هو واضح.

المعنى الخامس: وهذا المعنى هو بلحاظ الأدلة لا بلحاظ كلمة (حفظ) إلا تجوزاً، نظير ما صنع المحقق في المعنى الثالث، فإنه تجوّز بالحفظ عن عدم الإتلاف، والمعنى الخامس: هو أن يراد بالحفظ مختلف التقلبات في كتب الضلال، مثل مطالعتها ومدارستها وغيرها.

ثم إنّ صاحب الجواهر() ينقل عن مفتاح الكرامة التمثيل لكتب الضلال بكتب قدماء الحكماء، والتي اشتملت على القول بقدم العالم، وأما السيد علي القزويني في ينابيع الأحكام() فيمثل لها ببعض كتب العرفاء والصوفية، التي تقول بمقتضى ظاهر ألفاظها بجبر الإنسان، وأنه مجبور واقعاً، ولكنه في قالب مختار، أو تقول بدعوى الإلوهية أو الولاية لكبارهم، أو بمثل من يقول بوحدة الوجود أو الموجود، وهي مقالة بعض الفلاسفة.

وعبارة صاحب الجواهر صريحة في تحريم أنواع أخرى من التقلب في كتب الضلال غير حفظها، حيث يقول: >بل يحرم مطالعتها وتدريسها<()، ونلحق بذلك: تحقيقها وتهميشها وطباعتها وغير ذلك.

والمتحصل: إنّ المعنى الخامس هو مختلف التقلبات في كتب الضلال.

المعنى السادس() لكلمة (حفظ): هو إيجادها، إلا أنّ البعض فرق بين الحفظ والإيجاد، فرأى أنّ الحفظ حرام دون الإيجاد، فلو أنّ أحدهم كتب كتاب ضلال فليس ذلك عنده بحرام، أي: أنّ نفس الكتابة ليست محرمة، لكنه لو حافظ عليها فقد ارتكب محرماً، وكذلك لو فاضت قريحة أحدهم الشعرية بأشعار كفرية أو غرامية().

إذن، لابد من ملاحظة هذه العناوين والمعاني الستة عند التطرق للأدلة، لمعرفة مدى دلالة الأدلة وبأي حد هي؟

المفردة الثانية: كلمة (كتب)

سبق أنّ الكتب ليس المراد بها خصوص هذا العنوان()، بل إن المراد بها الأعم؛ بلحاظ (الأدلة) وبلحاظ (باب الضلال)، ولذا فإنّ نطاق هذا البحث سيشمل مدارس الضلال المسخّرة لتربية الوهابيين أو الإرهابيين مثلاً، فإنه باب من أبواب الضلال، فحفظ هذه المدرسة وعمل الشخص ـ كحارس ـ فيها هل هو جائز أو لا؟ هذا بالنسبة للفقه الشخصي، وحفظ الحكومة لها وحمايتها جائز أو حرام؟ وهذا بالنسبة لفقه الدولة، وكذلك يشمل هذا البحث المزار والمقبرة المتخذة للضلالة، والبحث يتسع أكثر ليشمل المنظمات والأحزاب() والمؤسسات الضالة، فكل هذه هل يجوز إيجادها، والحفاظ عليها والتقلب فيها؟ والحال نفسه في الجرائد والمجلات والإذاعات وغيرها.

حرمة ما وضع للضلال:

ولنعد إلى كلام صاحب الجواهر، فإنّ الحرمة على حسب مبناه تعم دائرة واسعة جداً تشمل كل ما ذكرناه؛ لأنه يستند إلى دليل عام، وسنتوقف عنده لاحقاً، إذ إنه يستند إلى عنوان ورد في الروايات، وهو: (ما وضع للحرام)، وكذلك ورد في الروايات أيضاً كلام يمكن الاستناد إليه، وهو (ما ينشأ منه الفساد)()، والبحث يتسع مرة أخرى ليشمل ـ مثلاً ـ ما لو أسس حزباً أو مؤسسة تدعو للمساواة مع الرجل في الإرث، وما أشبه هذا المعنى وبهذا التوجه، فإنها ـ أي: هذه المؤسسة ـ قد وضعت للضلال وأُنشِئَت للفساد، وهذا محرم.

المفردة الثالثة: كلمة (الضلال)

وأما المفردة الثالثة وهي كلمة (الضلال) فإنّ فيها نقاشاً موضوعياً طويلاً حول المراد منها، ولنشِر الآن إلى بعض العناوين، فإنه توجد للضلال أربعة احتمالات، فهل المراد من الضلال هو خصوص ما كان كلّه ضلالاً؟ أو يشمل حتى ما اشتمل على بعض الضلال؟ ومثاله الكثير من تفاسير العامة وكتب أحاديثهم، فإنه ليس كل ما فيها ضلالاً، ولكنها اشتملت على البعض منها.

وبعبارة أخرى: هل المراد (الضلال في الجملة)()؟ وأنه كافٍ في التحريم، هذا رأي مجموعة من أعاظم الفقهاء، ومنهم صاحب الجواهر وصاحبا المسالك وجامع المقاصد على ما استظهره (معهما) الجواهر().

أو أنّ المراد من الضلال هو (الضلال بالجملة)()، وأنه لابد منه للحكم بالتحريم، هذا أيضاً هو رأي مجموعة من أعاظم الفقهاء، ومنهم صاحب مفتاح الكرامة().

ويتفرع على ذلك: أن كتاباً، مثل الكامل في التاريخ أو تاريخ الطبري أو كتب تفاسير المخالفين، أو كتب اللغة لهم أو المنجد للمسيحيين، كل هذه الكتب هل يجوز اقتناؤها؟() وذلك لأنّ كتاباً كالمنجد أو الكامل في التاريخ فيه الكثير من الأحداث الصحيحة، ولكنه في نفس الوقت يوجد فيه العديد من وجوه الفساد والتحريفات، وكل شخص يريد اقتناء هذه الكتب لا للرد على أباطيلها، أو للتقوي ببعض مطالبها على الخصم أو للتقية أو ما أشبه ذلك، فهل يجوز له شراء هذه الكتب لِصِرف أن تكون في مكتبته أو أن يراجعها أحياناً لا للرد أو شبهه؟ هذا هو موطن الخلاف الشديد على ضوء ما يستفاد من الأدلة.

دلالة النصوص على تحريم حتى ما اشتمل على الحرام:

قال صاحب الجواهر: >إنما الكلام في المراد من كتب الضلال، ففي شرح الأستاذ() ليس الغرض من كتب الضلال ما اشتمل على الضلال في الجملة، وإلا لم يمكن الرجوع إلى كتب اللغة() والعربية() والتفسير() وغيرها من كتب المقدمات، ووجب إتلافها< ().

ثم يستشكل عليه صاحب الجواهر فيقول: >وفيه إن ما سمعته من الدليل لا يقتضي الاختصاص بذلك، بل مقتضاه الحرمة في كل ما فيه ضلال قلَّ أو كثر، وضع لذلك أو لا، ولذا صرح في المسالك ومحكي جامع المقاصد بوجوب إتلاف خصوص موضع الضلال من الكتاب المشتمل عليه وعلى غيره< ().

رأي صاحب مفتاح الكرامة وجواب صاحب الجواهر:

ثم بعد ذلك يعترض صاحب الجواهر على مفتاح الكرامة بقوله: >فالظاهر من الأصحاب ما كان كلها ضلالاً<()، وذكر أمثلة() منها التوراة والإنجيل وكتب القدماء من الحكماء القائلين بقدم العالم وعدم المعاد، وكتب عبدة الأصنام منكري الصانع.

ثم يقول: >أما ما اشتمل على كتبهم مع كونه مشحوناً بما يوافق العدلية، ككتب المعتزلة وبعض كتب الأشاعرة وتفاسيرهم وأصول فقهم والصحاح الست فلا حرمة بها، كما نص على بعض ذلك صاحب إيضاح النافع والبعض الآخر المولى الأردبيلي<()، وهذا الرأي هو لصاحب مفتاح الكرامة.

ثم قال صاحب الجواهر: «وفيه ما عرفت من أنه ليس في النصوص هذا اللفظ()، كي يقتصر على المنساق منها من كونه مُعدَّا() أو كون مجموعه ضلالاً أو نحو ذلك، وإنما العمدة ما سمعته من الدليل الذي لا فرق فيه بين المُعَد وغيره، والكل والبعض، والأصلي والفرعي الذي علم كونه ضلالاً ولو للتقصير في الاجتهاد ونحوه... »().

وعليه، فإنّ هذا المبحث جدير بأن يتوقف عنده؛ لاختلاف أعاظم الفقهاء فيه، ولابد من ملاحظة الدليل وما يقتضيه، فإنه الحَكَم بين الآراء المختلفة للأعلام، وإليه المرجع.

احتمالات الشيخ الأنصاري في الضلال:

وقد ذكر الشيخ الأنصاري عدة احتمالات في المراد من الضلال() في وسط بحثه، حيث يقول: >وحينئذٍ فلابد من تنقيح هذا العنوان، وأن المراد بالضلال ما يكون باطلاً في نفسه، فالمراد الكتب المشتملة على المطالب الباطلة، أو أن المراد به في مقابل الهداية، فيحتمل أن يراد بكتبه ما وضع لحصول الضلال، وأن يراد ما أوجب الضلال وإن كان مطالبها حقاً<().

وتوضيح كلامه بما ينقح المراد ويرشد للمنصور في المقام، هو: أن المحتملات في الضلال ثلاثة():

الاحتمال الأول: ما هو باطل في نفسه

أقول: وبحسب تعبير السيد القزويني في كتابه القيم: «الضلال قد يطلق على ما يرادف البطلان»()، ويمثل القزويني في كتابه بالآية الشريفة من سورة محمد|: {وأضل أعمالهم}()، أي: أبطل أعمالهم، ونضيف الآية الأخرى التي ذكرها (مجمع البحرين) واستند إليها: {وضل عنكم ما كنتم تزعمون}()، أي: بطل عنكم وضَاعَ، حيث كانوا يزعمون أنّ الأصنام هي آلهتهم، وهي التي تحميهم، ولكنها بطلت، أي: بطل توهمهم بشفاعتها لهم.

والمتحصل: أنّ المعنى الأول لكلمة (ضلال) هو معنى قرآني مستخدم().

وعلى هذا فكل كتاب كان باطلاً بحد ذاته، وإن لم يضل مَنْ حفظه أو طالعه، فهو حرام على التفسير الأول، ومثاله كتاب السحر، فإنه باطل في حد ذاته، فإذا كان المكلف محصناً تجاهه وممن لا يتأثر به، فإنّ حفظ ذلك الكتاب ومطالعته() محرمة، لو قيل بحصر معنى الضلال بهذا المعنى()، أو مثل كتاب غرامي أو كتاب فيه هتك وإهانة للمسلمين (كالأكراد والهنود مثلاً) يتضمن ما لا يرضى الله به تعالى، فنفس ذلك هو باطل بحد ذاته، حتى لو لم يوجب ضلالاً وانحرافاً وعدواناً للقائل أو السامع، وعلى ذلك فإنّ (الضلال حرام) قد أخذ بنحو الجنبة الموضوعية، وليست هناك جنبة طريقية له.

الاحتمال الثاني والثالث: ما يقابل الهداية

وعلى هذا المعنى فكتب الضلال لا يراد منها الكتب الباطلة الفاسدة بحد ذاتها، والمخالفة للحقيقة وإن لم تضل بالفعل، بل المراد منها كتب الإضلال().

وهذا المعنى الثاني ينقسم إلى قسمين واحتمالين، حيث يوجد احتمالان لمعنى كتاب الإضلال في مقابل الهداية، قال الشيخ الأنصاري مبيناً ذلك: «... أو أنّ المراد به مقابل الهداية، فيحتمل أن يراد بكتبه ما وضع لحصول الضلال، وأن يراد ما أوجب الضلال وإن كان مطالبها حقاً»().

وعليه فالشيخ يذكر معنيين وهما: ما أوجب الضلال، وما قصد به الضلال()، و(ما أوجب الإضلال) هو المقدمة الموصلة.

ثم إنّ المعنى الآخر ـ أي: معنى الشأنية()ـ متضمن في كلام الشيخ() فتأمل.

أقول: (ما قصد به الإضلال) وكذا (ما أوجب الضلال) أعم مما كان حقاً في نفسه، فالقصد هو مدار الحرمة، وكذا الموصلية للضلال، أي: الكتب التي قصد بها إضلال الغير، أو التي أضلت، وإن كانت في حد ذاتها صحيحة، وسيأتي مثالها إن شاء الله تعالى.

وهناك قسم آخر لم يشر إليه الشيخ، وهو كتب الضلال التي من شأنها الإضلال، وإن لم توضع له، ولم يقصد المؤلف أو البائع إضلال المشتري، ولا ترتب عليه خارجاً، كما لو وضعه للتسلية أو لمجرد أن يملأ وقته.

ثم إنّ الإضلال إما أن يعود إلى الشخص أو إلى الشأن، وكتب الإضلال إن كان معناها ما قصد به الشخص الإضلال فالمحور شخصي، وإن كان معناها ما من شأنه الإضلال، وإن لم يقصده المؤلف بعينه، فالمحور شأني.

ويمثل الشيخ لما لم يوضع للضلال ولكنه يوجبه بـ >وإن كان مطالبها حقة، كبعض كتب العرفاء والحكماء المشتملة على ظواهر منكرة يدّعون أنّ المراد غير ظاهرها، فهذه أيضاً كتب ضلال على تقدير حقيتها<()، أي: أنها مما أوجب الضلال وإن كان واقعه حقاً فرضاً.

عبارة القزويني في ينابيع الأحكام

وقد ذكر السيد القزويني، فقال: >وقد يطلق() على ما يقابل الهداية، وهذا شائع، فالمراد من كتبه حينئذ ما قصد بوضعه الإضلال وحصول الضلالة، أو ما يوجب الضلالة، سواء قصد بوضعه ذلك أم لا، وسواء ترتب الضلال على أسلوبه وتأليفه، كما فيما ابتدعه الفرقة الضالة المضلة، أم على مطالبه المندرجة فيه<()، انتهى كلامه.

المحتملات الأربعة في (الضلال) والنسبة بينها:

والخلاصة من كل ذلك: إنّ هذه المعاني كلها ينبغي أن تلاحظ، وهي:

أولاً: الكتب الباطلة في حد ذاتها.

ثانياً: ما من شأنها أن يترتب عليها الضلال.

ثالثاً: التي يترتب عليها الضلال خارجاً، أي: المقدمة الموصلة، أي: (ما أوجب الضلال).

رابعاً: وهي التي يقصد بها الشخص الإضلال()، وإن لم يكن من شأنها ذلك، ولا ترتب عليها().

الطريقية أو الموضوعية في كتب الضلال: XE "الطريقية أو الموضوعية في كتب الضلال\:"

وبتعبير آخر: هل أنّ لكتب الضلال الموضوعية من حيث حرمة الحفظ، وهو مقتضى المعنى الأول، أو أنّ حرمة حفظها أنما هو لطريقيتها للإضلال؟ وهو ما استظهره الشيخ، وهو المعنى الثاني والثالث والرابع، أي: أن حفظ كتب الضلال من حيث إنها تضل بالفعل أو شأناً، أو قصد بها ذلك، فإنها محرمة لا بما هي هي بحد ذاتها.

تعليقات مهمة على كلام الأنصاري:

وهنا نذكر تعليقات على كلام الشيخ الأنصاري، وهي:

التعليق الأول: وهو إضافة توضيحية، حيث قد يُسأل عن النسبة بين المعنى الأول والمعنيين الآخرين اللذين ذكرهما الشيخ، بل والمعنى الرابع الذي أضفناه.

والجواب: إنّ النسبة بينهما هي العموم والخصوص من وجه، أي: بين كتب الضلال الفاسدة والباطلة من جهة، وبين الكتب التي قصد بها الإضلال، أو التي من شأنها الإضلال، أو التي يترتب عليها الإضلال من جهة ثانية().

ثم() إنَّ مادة افتراق المعنى الأول عن المعاني الثلاثة الأخيرة هي الكتب الباطلة في حد ذاتها، وإن لم يترتب عليها الإضلال، ولم يقصد ولم يكن من شأنها، ومثاله: الكتاب الواهي جداً المودع لدى المحصَّن ضد ذلك الكتاب مثلاً، فإنه باطل بحد ذاته، فإذا لم يقصد مؤلفه وبائعه الإضلال، ولم يترتب عليه ذلك خارجاً، فإنه مادة افتراق().

وقد مثل صاحب الجواهر بمثال آخر مستبعد، حيث يقول: >كما أنه قد يقال بخروج غالب كتب المخالفين والملل الفاسدة عن الضلال في هذه الأوقات، باعتبار ما وقع من جملة من أصحابنا من نقضها وإفسادها، فهي حينئذٍ كالتالفة، فلا يجب حينئذٍ إتلافها بمعنى إعدامها عن الوجود، بل لا بأس ببيعها وشرائها والاستئجار على كتابتها ونحو ذلك، ضرورة صيرورتها بذلك كالكلام المنقوض في كتب أهل الحق، مثل الشافي وكشف الحق ونحوهما، إذ من المعلوم أعمية النقض للأمرين معاً<().

لكن كلامه على إطلاقه غير صحيح، بل لابد من تقييده بما لو كان الرد ـ أيضاً ـ متوفراً لدى المشتري، وما لو كان من أهل مطالعته وفهمه وقبوله، أما لو كان ممن يطالع كتاب الشبهات فينحرف قاطعاً بعدم صحة الردود ـ جهلاً مركباً ـ أو متكاسلاً عن مطالعتها أو غير ذلك فلا، والمشاهد في هذا الزمن كثرة مَنْ ينحرف بمطالعة كتب الضلال، وإن توفرت الردود عليها، بل وإن سهل الوصول إليها عبر الأجهزة الحديثة في المكتبات()، وعلى أية حال، فإنّ كلامه وإن كان غريباً غير تام، لكنه على ما اختاره فإنّ هذه الكتب باطلة في حد ذاتها، ولكن لا يترتب عليها الإضلال().

وقد يمثل لمادة الافتراق بالمثال الذي ذكره الشيخ في ظواهر كتب العرفاء، فهذه ولو كانت واقعاً حقاً، إلا أنّ اللبس نشأ من ظاهرها()، وسنتوقف عند هذا المثال الذي ذكره الشيخ لاحقاً إن شاء الله تعالى.

كما قد يمثل لمادة الافتراق بمتشابهات القرآن، فإنّ القرآن حق كله، ومتشابهاته حق كما هي محكماته، ولكن لو ذكر أحدهم بعض المتشابهات لضعيفِ نفسٍ شكاك، فأدى ذلك إلى انحرافه فهو حرام، كما لو ذكر له الآية: {ولَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ}()، وذكر من جهة أخرى: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً}() مما أوهمه التناقض، فإنّ ذلك حرام حسب التفسير الثالث() للضلال دون التفسير الأول.

كما قد يمثل لمادة الافتراق بذكر فضائل الرسول| وأهل البيت^ العالية، والتي لا يتحملها الطرف الآخر فيما إذا سببت جحوده وإنكاره وارتداده، فهذه المطالب وإن كانت حقة في حد ذاتها، وليست باطلة، وليست ضلالاً بالمعنى الأول، ولكنها بحسب المعنى الثالث() يمكن أن يترتب عليها الضلال بحسب الشخص القابل، ولذلك أوجب أهل البيت^ علينا أن نكلم الناس بما يعرفون لا بما ينكرون().

التعليق الثاني: إنّ الشيخ مثّل بكتب العرفاء() والتي ظاهرها باطل وواقعها بزعمهم حق، إذ ادعوا أنّ المراد منها غير ظاهرها من الجبر وعدم المعاد، وعدّها من مصاديق الحق لا الباطل بالمعنى الأول، كما هو ظاهر كلامه.

أقول: بل هي باطلة بالمعنى الأول أيضاً؛ لوضوح أنّ هنالك علة صورية وعلة مادية، والباطل قد يكون بلحاظ العلة الأولى، وقد يكون بلحاظ العلة الثانية، وكتب العرفاء والحكماء باطلة من حيث علتها الصورية؛ لأنّ ظواهرها منكرة كما قال()، وإن كانت فرضاً بزعمهم حقة بحسب الواقع والباطن من حيث العلة المادية. هذا أولاً.

وأما ثانياً: فإنّ الظاهر أنّ ادعاءهم إرادة خلاف ظاهرها تقية منهم، بل إنّ مبناهم هو ظواهرها المنكرة، لكنهم يدعون عدم إرادتها خوفاً من تكفير الفقهاء لهم، واعتبارهم مخالفين لضروريات الدين، ويشهد له بوضوح التدبر في كل كلماتهم، فإنّ مَنْ لاحظها وتدبر فيها علم علم اليقين أنهم يريدون ظواهرها المنكرة، بل إنّ المقدمات التي يسوقونها والأدلة التي يسطرونها تشهد ببنائهم على ظواهرها().

ويتضح ذلك أكثر بملاحظة المثال التالي: لو أنَّ شخصاً كتب بعض آيات أو سور القرآن بعكس الترتيب، كما لو كتب بعنوان أنه قرآن: (باسم ربك الذي خلق اقرأ) مثلاً فإنّ هذا التلاعب بالعلّة الصورية للآيات الكريمة سيجعل من هذا الكتاب كتاب ضلال، ويجب أن يتلف.

والنتيجة: أنّ تخصيص الشيخ الضلال ـ أي: البطلان ـ بما كانت علته المادية غير مطابقة للواقع فقط، لا وجه له.

طريق الأنصاري للتمسك بإطلاق مصطلح (الضلال):

وهناك تعليق آخر هام على ما قاله الشيخ وهو: أنّ مصطلح كتب الضلال لم يرد ـ كما سبق ـ في الروايات، وكما صرح به في الجواهر، وحيث هو كذلك فإنّ التمسك بإطلاقه في مقام الاستدلال لا وجه له، فالقول: إنّ (الضلال) أعم من البطلان والإضلال، والتعميم لكلا المعنيين من خلال الإطلاق لا وجه له().

وكذلك الحال في سائر المحتملات الأخرى، مثل: هل المراد من الضلال هو الضلال في الجملة أو بالجملة؟ فإنّ الكلمة لو كانت واردة في الروايات استطعنا أن نتمسك بإطلاقها لتشمل كلا الموردين، وحيث لا فلا.

وحيث كان الشيخ الأنصاري+ ملتفتاً إلى عدم ورود هذا المصطلح في الآيات والروايات، وأنه من ثَمَّ لا يصح التمسك بإطلاقه مطلقاً() لذا التجأ إلى طريقة لطيفة لتصحيح التمسك بإطلاق هذا المصطلح ـ أي: الضلال ـ وهي: إن هذه الكلمة هي معقد نفي الخلاف؛ إذ قالوا لا خلاف في حرمة حفظ كتب الضلال، قال الشيخ: >ونفي الخلاف لا يقصر عن الإجماع<().

والنتيجة: أنّ البحث حول كلمة الضلال وإطلاقها له فائدة، فإن تم ذلك عمّمنا، وإلا اقتصرنا على القدر المتيقن في المقام.

مناقشة الأنصاري:

المناقشة الأولى: وهي مناقشة مبنائية()، وهي أنّ نفي الخلاف يقصر عن الإجماع، كما ذكره في (إيصال الطالب)().

توضيح ذلك: هناك فرق بين نفي الخلاف والإجماع، فإنّ نفي الخلاف سلبي، وأما الإجماع فإيجابي، حيث إنّ الإجماع هو إحراز الرأي بالوفاق، وأما نفي الخلاف فهو عدم وجدان المخالف، وقد يكون ذلك لسكوت البعض؛ ولذا فإنّ الإجماع أقوى.

الدفاع عن كلام الأنصاري:

ولكن يمكن الدفاع عن الشيخ الأنصاري بأنه لعلّ نظر الشيخ إلى وجه حجية الإجماع فلا يكون ـ بناءً على ذلك ـ عدم الوجدان للخلاف أضعف من حيث الحجية من وجدان الوفاق، أي: لا يقصر معقد نفي الخلاف عن الإجماع بلحاظ دليل الحجية؛ لأنّ وجه حجية الإجماع لو كان اللطف فإنه قد يقال: إنّه جارٍ أيضاً في نفي الخلاف، وكذا لو كان وجه الحجية هو الحدس، أي: أنه يحدس من اتفاق أمة على رأي رئيس وإن لم يسمع منه أنه رأيه، فإنه كذلك يحدس من عدم الخلاف ذلك، فلو أنّ مجموعة من أصحاب مرجع معين نقلوا رأي ذلك المرجع، وكانوا بنسبة 90% مثلاً، وسكت الباقون ـ أي الـ10% ـ فإنه يحدس من ذلك أنّ هذا الرأي المنقول من المجموعة الأولى ـ 90% ـ هو رأي المرجع.

والمتحصل: أنه سواء كان الإجماع لطفياً أم حدسياً أم دخولياً أم تشرفياً فإنه قد يقال: إنه لا فرق بين عدم الخلاف والإجماع، ويبقى النقاش الأصولي المبنائي حول ذلك في محله.

والنتيجة: أن كلام الشيخ من الناحية المبدئية له وجه وجيه، والنقاش إنما هو مبنائي، فتأمل().

المناقشة الثانية(): الظاهر أنّ الشيخ سلَّم بالفعل بأنّ مصطلح (كتب الضلال) غير وارد في الروايات، ولذلك فقد تشبث بذيل معقد نفي الخلاف لإعطاء وجه شرعي للتمسك بالإطلاق.

ورود مصطلح كتب الضلال في رواية الحذاء:

لكن نقول: إنّ ما يفيد فائدة هذا المصطلح قد ورد في ثلاث أو أربع روايات، وبعض هذه الروايات كانت بمرأى من الشيخ، بل قد نقلها وسنذكرها إن شاء الله تعالى؛ ولذا فإننا لا نحتاج للتمسك بمعقد نفي الخلاف؛ وذلك لوجود المصطلح أو نظيره في الروايات، فيمكن التمسك بإطلاقها.

وأما الروايات التي يوجد فيها نظير هذا المصطلح() فهي عديدة، ومنها: رواية الحذاء، وهي: >ومن علم باب ضلال كان عليه مثل أوزار من عمل به<().

وعلى حسب مبنى الشيخ، وكما هو حال بعض أعاظم الفقهاء الآخرين، كالشيخ الطوسي في العدة، وكالشهيد الثاني والشيخ البهائي والسيد الوالد()، وهو أيضاً مبنى الميرزا النائيني() في خصوص الكافي: فإن مراسيل الثقات حجة().

بل إنّ الشيخ الأنصاري قد استند بنفسه إلى رواية مرسلة في تحف العقول فصدَّر بها كل مكاسبه، وما دام كذلك فإنه كان الأولى له أن يستند إلى هذه الرواية في المقام؛ فإنها أقوى في الحجية من مرسلة تحف العقول، لورودها في الكافي الشريف.

ورواية الحذاء وردت فيها كلمة (باب ضلال) وهذه الكلمة أعم من كتب الضلال، فتشمل اتخاذ مدرسة ضلال وحفظها وحراستها، أو مقبرة ضلال، أو مزار ضلال أو غير ذلك، فإنه يمكن التمسك بإطلاق هذه الكلمة ـ مبدئياً ـ وإن كان قد يناقش ذلك بلحاظ ما اشتملت عليه الرواية من الخبر، وبلحاظ (علّم) فإنّ ذلك قد يقيد الإطلاق()، أو يمنع انعقاده كما سيأتي، وعلى ذلك فيقع البحث في أنه هل المراد من الضلال: الضلال بالمعنى الأول، أي: الباطل، أو أن المراد منه هو الضلال بالمعنى الثاني()، أي: الإضلال؟ فنتمسك بالإطلاق ليشمل كلا المعنيين، هذه هي الرواية الأولى التي يمكن أن يقال بالتمسك بإطلاقها.

ورود مصطلح كتب الضلال في رواية تحف العقول:

وأما الرواية الثانية: فهي نفس رواية تحف العقول، فإنّ الشيخ إن لم يكن قد رأى الرواية السابقة في الكافي ـ كما هو حال صاحب الجواهر وبعض المتأخرين والذين قالوا فيها: إنها مرسلة المستند مع أنها مرسلة الكافي ـ فإنه رأى هذه الرواية الثانية، بل وسجّلها في مكاسبه كما هو بيَّن، وهي رواية تحف العقول، وهي: >... أو شيء يكون فيه وجه من وجوه الفساد»()، وهذا المصطلح يشمل كلا المعنيين، وهما: الفاسد في حد ذاته أي: اللازم بالتعبير النحوي، وهو: الباطل، وهذا هو المعنى الأول، وأما المعنى الثاني فهو الفاسد، أي: المفسد()، والمتعدي في التعبير النحوي، وهو الإضلال().

وبتعبير آخر: هل أنّ الفساد أُخذ على نحو الموضوعية أم الطريقية، والذاتية أو الغيرية؟ وبناءً على هذه الرواية فإننا نستطيع أن نتمسك بإطلاقها، بناءً على إمكان الجمع بين اللحاظين، كما هو الحق، وسيـأتي مزيد كلام حول هذه الرواية().

ورود مصطلح كتب الضلال في رواية الفقه الرضوي:

وأما الرواية الثالثة: فهي موجودة في الفقه الرضوي، وهي: «... وكل أمر يكون فيه الفساد»()، وهنا أيضاً وبناءً على مبنى الشيخ من حجية مراسيل الثقات فإنه يمكن التمسك بهذه الرواية، ويمكن التمسك كذلك بإطلاق اللفظ لتعميم الفساد للفساد في الجملة وبالجملة، وللتعميم لكل من الذاتي أو الطريقي.

كلام الميرزا الإيرواني في (كلمة الضلال):

أما الميرزا الإيرواني فقد عمم ـ مبدئياً، وإن ردّه لاحقاً ـ القسم الأول من قسمي الشيخ الأنصاري، كما أنه عمم القسم الثاني، فقد كان القسم الأول من الضلال هو البطلان، كما في: {وَضَلَّ عَنكُمْ مَا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ}()، أي: بطل وضاع، وكذلك: {أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ}() أي: أبطل.

قال: >ثم المراد من كتب الضلال يحتمل أن يكون كل كتاب وضع على الكذب والباطل... بل كل كتاب لم تكن له غاية عقلائية، فيمشل ما وضع لأجل التلهي به، مثل كتب القصص والحكايات() وإن كانت صادقة<().

فإن نقل مثل هذه الأمور للتسلية ومجرد قضاء الوقت فقط لا للعبرة، لا غاية عقلائية فيها، وهذه الموارد تشملها الروايات، فهل يجوز للإنسان أن يكتب قصة بوليسية بهذا القصد لبيعها؟ وهل يجوز له مطالعتها أو غير ذلك؟

ثم يقول: >ويحتمل أن يكون المراد به كل كتاب أوجب الضلالة والخطأ في الاعتقاد في الأصول أو الفروع أو الموضوعات، وهذا يجتمع مع حقية ما تضمنه، وإنما كانت الضلالة لقصور الناظر فيه، كما ضل كثيرون من مطالعة الكتاب العزيز والأحاديث الشريفة<().

فهو يعمم المعنى الثاني ـ أي: الإضلال ـ ليشمل الانحراف()؛ نظراً لقصور السامع، مثل متشابهات القرآن، وكذلك ذكر الفضائل العالية للنبي الأكرم| وأهل بيته الأطهار^، فإنها وإن كانت حقاً في حد ذاتها إلا أنها ـ بسبب القصور في بعض السامعين ـ يحرم نقلها لهم إذا سببت ضلالهم، وكذلك الحال فيمن يبيع أو يهب الكتاب لمعاند، وهو يعلم أن ذلك لا يزيده إلا عناداً وتعنتاً، أو أن يعطي ذلك الكتاب شخصاً محايداً وهو يعلم أنه سينحرف بمطالعته، لكن الظاهر اندراج ما ذكره في الثلاثة الأخيرة مما ذكرناه().

كلام صاحب المستند في (كلمة الضلال):

وأما صاحب المستند، فقال: >والمراد بالضلال ما خالف الحق واقعاً كما يخالف الضروري، أو بحسب علم المكلف خاصة، وأما ما خالفه بحسب ظنه فلا<().

ومفاد كلامه هو أن المقصود من الضلال القسم الأول، وهو الضلال الثبوتي، فالظاهر إرادته الأعم مما لو قطع أنه حق، فحفظه حرام ما دام مخالفاً للحق واقعاً، لكن لا يتم القول بذلك ـ أي الحرمة ـ إلا بكونها في مرحلة الاقتضاء والإنشاء والفعلية، لا التنجز، إلا لو كان مقصراً في المقدمات فتأمل().

وأما القسم الثاني فهو الضلال الإثباتي، أي: إن علمت أنه ضلال فكذلك حفظه حرام()، وإن لم يكن ضلالاً واقعاً، وفيه: أنه تجرٍّ عندئذٍ، فالبحث مبنائي، اللهم إلا لو أراد من العلم خصوص المطابق، لا القطع الأعم.

وأما القسم الثالث فهو ما ظننت أنه ضلال، فإن صاحب المستند يقول بعدم شمول الأدلة، أي: لو ظننت أنّ هذا الكتاب يخالف الحق فبيعه له ـ مثلاً ـ ليس بمحرم لأصل الإباحة()، لكنه لا يصح إلا بعد الفحص.

توسعة نطاق البحث استناداً للروايات():

لقد ظهر لنا مما مضى في البحث عن موضوع المسألة أنّ العنوان الذي ينبغي اختياره لهذه المسألة أعم من العنوان الضيق الذي عنونه به الفقهاء من الشيخ الطوسي إلى صاحب العروة ومن سبق ولحق؛ فإن عنوان (حفظ كتب الضلال) خاص، ولكن المعنون وما تشمله الأدلة عام؛ ولذا ينبغي أن يعمم البحث فيكون العنوان: «حفظ كتب الضلال ومسبِّبات الفساد وكل باب يوهن به الحق، وما فيه وجه من وجوه الفساد، وجميع أنواع التقلب فيها»().

وهذا العنوان هو المطابق لمورد البحث والأخذ والرد للأدلة، حيث إنه بسعة ما اقتطفناه من الروايات ونصوصها إلا الجملة الأولى().

وأما الروايات التي تذكر هذه العناوين، ويستند إليها في توسعة حدود موضوع المسألة، فهي: الرواية الأولى: ما جاء في تحف العقول >... أو شيء يكون فيه وجه من وجوه الفساد... فهذا كله حرام محرم؛ لأنّ ذلك كله منهي عن أكله وشربه ولبسه وملكه وإمساكه، والتقلب فيه بوجه من الوجوه لما فيه من الفساد، فجميع تقلبه في ذلك حرام...<().

وأما الرواية الثانية فهي ما ورد فيها في موطن آخر وهي: >... أو باب يوهن به الحق فهو حرام محرم<().

وأما الرواية الثالثة فما جاء في الفقه الرضوي: >.. وكل أمر يكون فيه الفساد<().

وأما الرواية الرابعة فهي رواية الحذاء، فهذه الروايات الأربعة قد اقتطفنا منها عنواننا، مع إضافة العنوان الذي ذكره الفقهاء.

تتمة لطيفة():

وهنا دفع دخل مهم وهو: أنه قد يتوهم أنه لا حاجة إلى عنونة المسألة بما ورد في كلام الفقهاء، حيث إنه لم ترد به آية ولا رواية.

وجواب ذلك لجهتين:

الجهة الأولى: وهو ما أشار إليه الشيخ الأنصاري، حيث إنه معقد نفي الخلاف، وهذا يصلح دليلاً أو مؤيداً().

الجهة الثانية: وهذا الوجه هو وجه منهجي، وهو ضرورة المحافظة على التراث العلمي والأدبي، ومتابعة وملاحقة الحركة التاريخية وسير المسألة الفقهية، وقد لاحظنا البعض الذين أرادوا تجديد الفقه والأصول، حيث غفلوا عن هذه النقطة المحورية، فنقول: إن إغفال الاصطلاح القديم خطأ؛ لأنّ المصطلح القديم كنز يختزن بداخله تراثاً علمياً وفكرياً، والحفاظ عليه حفاظ على تراث غني معطاء، وهذه الفائدة ليست بفائدة جمالية فحسب أو احترامية فقط، بل لابد ـ أيضاً ـ من حفظ العنوان الذي جرى عليه الفقهاء أو الأصوليون أو المتكلمون؛ لأنه ينفع في معرفة مسيرة وحركة البحث التاريخي، كما يعد الجسر الواصل بين القديم والحديث، وذلك ذو فائدة كبيرة جداً؛ فمثلاً هذا العنوان (حفظ كتب الضلال) لو كان أمامنا وبين أيدينا لتتبعنا أقوال الفقهاء، كالشيخ الطوسي والأنصاري وغيرهم، فنستحضر بذلك الأقوال والآراء والأدلة ومحاور النقاش والخلاف، وأما أن يبتدع عنوان جديد، فإنه لا يكفي وإن كان مستلهماً من الروايات، إضافة إلى أننا لو ألغينا ما ذكره الفقهاء فإنّ ذلك سيعقّد مهمة الباحث في تلك الكتب، والتي سارت على الاصطلاح القديم، بل كثيراً ما يحرمه من نكات مهمة، والجمع بين الحقين والفائدتين يقتضي ضم هذا لذاك.

وعليه، فإن كل من يريد تطويراً في العلة الصورية في المباحث فعليه أن يحافظ على المصطلحات السابقة بنصها، وله أن يضيف ما يكملها، أو يذكر إلى جوارها البديل.

الفصل الثاني

الاستدلال بالآيات الشريفة

على حرمة حفظ كتب الضلال

أدلة حرمة حفظ كتب الضلال

بعد أن تم الكلام في تنقيح الموضوع، لابد أن نذكر الأدلة التي يمكن أن يستدل بها على حرمة حفظ كتب الضلال.

وسنستعرض أولاً أدلة الشيخ الأنصاري، ثم نضيف إليها أدلة صاحب الجواهر وغيرها، وسنبدأ بالآيات الكريمة.

الآيات القرآنية الدالة على حرمة حفظ كتب الضلال والتقلب فيها:

الآية الأولى: قوله تعالى: (ومن الناس من يشتري لهو الحديث)

الآية الأولى: قوله تعالى: {وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ() عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُواً}().

إن الشيخ الأنصاري استدل بالذم المستفاد من الآية على الحرمة()، وأيضاً فإنه استدل بآية ثانية على الحرمة()، وهي: {فاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنْ الأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّور}().

كما أنّ كلاً من الشيخ وصاحب الجواهر سارا سريعاً في استدلالهما على الأدلة الدالة على حرمة حفظ كتب الضلال، فلم يتوقفا عند فقه الآية الشريفة، وقد اعتمد كلاهما على الآيتين المذكورتين.

تحقيق الحال في الاستدلال بالآيتين:

ولكن تحقيق الحال للاستدلال بهاتين الآيتين يتوقف على بيان مباحث أربعة:

المبحث الأول: دلالة الذم على الحرمة وعدمها

هل أنَّ الذم دليل الحرمة، أم أنه أعم من ذلك فيشمل الكراهة؟ فإن فعل المكروه يوجب الذم كذلك، بل في بعض الأحيان يستحق فاعله اللعن()، وما الدليل على أن الذم هو ذم بالمعنى الأخص؟ ولتحصيل المراد لابد من إثبات أنّ الذم في المقام هو الذم بالمعنى الأخص والدال على الحرمة.

المبحث الثاني: في المراد من كلمة (يشتري)

التدبر في كلمة (يشتري) وتحليلها وتحديد المراد منها، فهل المراد من يشتري هو ظاهر اللفظ؟ ولو كان الأمر كذلك فإنّ الآية لا تكون دليلاً على حرمة حفظ كتب الضلال ـ والذي هو مقصود الشيخ من إيرادها ـ ؛ لأنها تتحدث عن الاشتراء لا الحفظ.

إذن، لابد من البحث عن الدليل على تعميم (يشتري) للحفظ وغيره من أنواع التقلبات، كالهبة والصلح والإجارة، وكإيجاد كتب الضلال، فإنّ الآية تتحدث عن الاشتراء فقط، فإذا لم نجد دليلاً على التعميم فإنّ الآية ستبقى ضيقة الدلالة لتدل على حرمة الشراء فقط.

المبحث الثالث: بيان المراد من لهو الحديث

تحليل كلمة (لهو) وكلمة (الحديث) فهل هي عامة، كما يدعون وندعي، أو لا؟

توضيحه: إن اللهو المذكور في الآية الشريفة لو أريد منه المعنى العرفي، فإنه لا يشمل الكتب الإلحادية الضالة والمضلة الجادة في مقالتها، ولذا ينبغي أن نقيم الدليل على أن كلمة (لهو الحديث) يراد منها الأعم من المعنى العرفي، أي: يراد منها كل ما يلهي عن ذكر الله ويصد عن سبيله.

كما أنه لابد لنا من البحث عن دليل تعميم (الحديث) وأن المراد منه هو الأعم من اللفظ والكتابة وغيرهما.

المبحث الرابع: بيان المراد من اللام في (ليضل)()

وهذا المبحث يدور حول كلمة (ليضل) فهل اللام فيها هي لام العاقبة أو لام التعليل؟ وهل الكلمة تقرأ بالضم من باب الإفعال، كما هي القراءة المشهورة، أو بالفتح بالنسبة لحرف الياء من الثلاثي المجرد، كما عليه عدد من القراء؟ هذا هو تقديم إجمالي للبحوث التي لابد من السير فيها لتحصيل المطلوب.

المبحث الأول: دلالة الذم على الحرمة وعدمها XE "المبحث الأول\: دلالة الذم على الحرمة وعدمها"

أما المبحث الأول(): فلقد كان من الأَولى ـ في تصورنا ـ على الشيخ في مقام استدلاله أن لا يعتمد على (الذم المستفاد من الآية)؛ لأنّ ذلك يحتاج إلى مقدمة استدلالية لابد منها، وهي إثبات أن الذم دليل الحرمة، وأنه ذم تحريم لا ذم كراهة، وذلك مما يحتاج إلى مؤونة إن تمّ، وكان الأولى الاستدلال بالدليل القطعي الموجود في الآية الدال على الحرمة، وهو ترتيب العذاب المهين على اشتراء لهو الحديث، فإن الآية صريحة في هذا الترتب المفيد للحرمة قطعاً، بل هي دالة على كون ذلك ـ أي: اشتراء لهو الحديث ـ كبيرة من الكبائر، فإن أحد المقاييس التي ذكرت في روايات أهل البيت^ لتحديد الكبيرة هي: >ما أوعد الله عليه النار<()، والمقام صغرى لذلك().

المبحث الثاني: في بيان المراد من كلمة (يشتري)

وهو البحث في كلمة (يشتري) وفي كيفية التعميم، إذ قد يُسأل عن أنه: كيف أنّ الشيخ وصاحب الجواهر وصاحب العروة في حاشيته على المكاسب عمموا الاستدلال بالآية لتشمل حفظ كتب الضلال، مع أنّ الآية خاصة باشتراء كتب الضلال فقط؟

وجوه تعميم الاستدلال بالآية لتشمل حفظ كتب الضلال:

وجوابه: إنّ المتتبع لكتب الأعلام يجد ثلاثة وجوه لذلك التعميم:

الوجه الأول: هو ما ذكره المحقق اليزدي في حاشيته على المكاسب فإنه يقول: «إن الوجه في التعميم هو الفحوى»()، أي: تنقيح المناط، وترقى بعد ذلك فقال: >الظاهر أنّ غرضه() الاستدلال بفحوى الآيتين<() من خلال الملاك المساوي أو الأولوي.

إشكال فقه الصادق × على التعميم:

وقد أشكل صاحب فقه الصادق× على الاستدلال بالفحوى والتعميم، حيث يقول: >إنه لا ملازمة بين حرمة الحدوث وحرمة البقاء<()، أي: أنه لا ملازمة بين حرمة شراء شيء الذي به تحدث الملكية وتوجد، وبين حرمة إبقائه، فاشتراء كتب الضلال حرام بحسب الآية، ولكن إبقاءها أمر آخر لا دليل على حرمته.

ومما يوضح كلامه ما أفتى به بعض الأعلام() من حرمة الترياك ابتداء وحدوثاً لا بقاء.

والظاهر تمامية ما قاله صاحب فقه الصادق×()، فإن تنقيح المناط في المقام لا يعدو كونه ظنياً؛ لأنّ ملاكات الشارع ليست بأيدينا، فما أدرانا بملاك تحريم الاشتراء لنعممه إلى الحفظ والإبقاء؟ إن نظن بذلك إلا ظناً، والحاصل: إننا لا نعلم الملاك لنخرج بالعلم عن القياس().

والمتصوَّر أنّ كثيراً من تنقيحات المناط ما هي إلا قياس، وهو لا يجوز عندنا. نعم، لو قطع الفقيه بالمناط فلا نقاش معه، إلا أن نزحزح قطعه.

ولكن على ما ذكره المحقق اليزدي، فإنّ تنقيح المناط لو سلمنا به فإنه سيفيدنا في تعميم الاشتراء لسائر المعاملات، من الصلح والإجارة والشركة وغيرها، كما سيفيدنا في التعميم للحفظ والإيجاد.

الوجه الثاني للتعميم: وهو ما ذكره صاحب إيصال الطالب تعليلاً لكلام الشيخ: حيث إنه استند إلى عموم التعليل في الآية، وليس إلى خصوص لفظ (اشترى) قال: >فإن الذم إنما هو لأجل انتهاء الاشتراء إلى الإضلال، وهذه العلة موجودة في حفظ كتب الضلال<().

توضيحه: إنّ اللام في (ليضل) هي لام التعليل، فقد حرم اشتراء لهو الحديث؛ لأنه يضل الناس عن سبيل الله، فيكون مطلق الإضلال عن سبيل الله حراماً، سواءً كان اشتراءً أم إيجاداً أم حفظاً أم غيره، ولو تم هذا الوجه لأصبحت الدائرة وسيعة جداً، فإنّ الدليل سيشمل الضلال والإضلال بالكتاب، والقرص الليزري، ومسجد الضرار والمدرسة والمقبرة إذا كانت للإضلال وغيرها، وسواء كان بالبناء أم البيع أم الهبة... الخ.

تعليقنا على كلام صاحب الإيصال:

وتحقيق المقام يستدعي البحث عن وجوه علل الأحكام التي ذكرتها الآيات والروايات مثل: {لِيُضِلَّ} و{وَأَقِمْ الصَّلاةَ لِذِكْرِي}()، إذ يوجد مسلكان:

المسلك الأول: وهو ما ذهب إليه قوم من أن الأصل في الوجوه التي ذكرت في كلام الشارع هو التعليل بالعلة التامة، فهي علل تدور الأحكام مدارها وجوداً وعدماً، وما خرج من ذلك فهو بالدليل، بل قد يدعى أنّ على ذلك بناء العقلاء ـ كتوضيح لكلام القوم ـ فإنّ بناءهم هو على أنه لو ذكر وجه التشريع من قبل المولى أو الحكومة فهو العلة لذلك التشريع، ولو قلنا بذلك فإنّ استدلال صاحب الإيصال تام من غير حاجة لمؤونة.

المسلك الثاني: أن الأصل في تعليلات الشارع أنها حِكَم، أي: أنّ الأصل الثانوي في كل التعليلات الواردة من الشارع، إلا النادر، هي أنها حكم، وإن فرض أن الأصل في التعليلات العقلائية هي أنها علل.

والذي يدلنا على الأصل الثانوي المذكور هو الاستقراء شبه التام حول ذلك()، فكل ما ذكر من علة ـ إلا النادر ـ فهي حكمة؛ ولذلك نجد أنه لا يدور الحكم مدارها وجوداً وعدماً، فمثلاً: إن استبراء الرحم مذكور في الروايات كتعليل لوجود العدة، لكنه حكمة لا علة.

وكذلك {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ}() فإنّ الحج لا يسقط عن من لم يشهد هذه المنافع الاجتماعية أو الاقتصادية أو الروحية، فتأمل().

وكذلك {وَأَقِمْ الصَّلاةَ لِذِكْرِي}() فإنّ الصلاة لو لم تكن مذكرة بالله إطلاقاً، كما لو كان المصلي شارد الذهن أبداً، أو في هذا اليوم مثلاً، فإنّ وجوب الصلاة لا يسقط عنه البتة.

وفي هذه الموارد وغيرها وجدنا أنّ الأحكام لا تدور مدار التعليلات، ولو قلنا بذلك فإنّ التمسك عندئذٍ بهذه الآية الشريفة للتعميم ـ استناداً إلى عموم التعليل ـ سيكون مشكلاً، بل حتى المثال الذي يذكر عادة للعلة، وهو (لا تشرب الخمر لأنه مسكر) فإنّ الإسكار ليس علة()، فإنّ هناك روايات تحرم الخمر بعنوانه، وروايات أخرى تحرم المسكر بعنوانه، ولذا فإنّ قطرة الخمر يحرم شربها وإن لم تؤدِ إلى الإسكار؛ وذلك لانطباق عنوان الخمرية عليها، لا لأنها مسكرة، وعليه فالصحيح لا تشرب الخمر لأنه خمر، وأما لأنه مسكر فهو حكمة.

بيان إضافي: ذكرنا أنّ هناك مسلكين في التعليلات المذكورة في لسان الشارع ونضيف الآن مزيد بيان: أما المسلك الأول فإنه يقول: إنَّ الأصل في تعليلات الشارع أنها علل حقيقية يدور الحكم مدارها سلباً وإيجاباً، وعلى ذلك فإنّ استدلال صاحب إيصال الطالب سيكون على القاعدة، فإنه تبنى التعميم اعتماداً على التعليل.

وأما المسلك الثاني فإنه يقول: إنّ الأصل في علل الشارع هي أنها حِكَم، بدعوى أن القرينة المقامية قامت على أنّ الشارع يذكر الحِكَم بصورة العلل، فيكون حال ذلك كالمجاز الغالب غلبة موجبة للنقل، فإنّ اللفظ ظاهر في معناه الحقيقي إلا لو استعمل في المعنى المجازي بدرجة يؤدي إلى انقلاب الظهور، فيكون هناك نقل بنحو الوضع التعيّني.

والمتحصل من المسلك الثاني: هو أنّ القاعدة في كل ما ذكر في لسان الشرع ممّا ظاهره أنه علة فهو حكمة، بقرينة الاستقراء والتتبع شبه التام، فيكون الالتزام بانقلاب الأصل ببركة لحاظ حال الشارع وطريقته في علله، فتأمل.

طريق التعميم بناءً على المسلك الثاني:

ولكن بناءً على مسلك كون علل الشارع حِكَماً، فهل يوجد مخلص لإبقاء العلة في هذه الآية الشريفة على الأصل الأولي من خلال إخراجها من دائرة الأصل الثانوي، فتكون على ذلك علة حقيقية يدور الحكم مدارها وجوداً وعدماً؟

وجوابه: الظاهر أنّ هناك وجهاً حتى على المسلك الثاني لإثبات أنّ قوله تعالى: {لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ...}() هي علة حقيقية وليست حكمة، وهو وجود قرينة خاصة في المقام دالة على ذلك، وهي مناسبة الحكم والموضوع.

والقرينة في المقام هي قرينة المادة، فإنّ مادة (يضل عن سبيل الله) آبية عن التخصيص؛ وذلك أنه لا يعقل القول: إنّ الإضلال عن سبيل الله جائز أحياناً، فحال هذه المادة كحال مادة (الظلم) فإنها كذلك آبية عن التخصيص، فلو قال المولى: (لا تقرب مال اليتيم، ولا تتصرف في أمواله بما لا مصلحة له فيه؛ لأنه ظلم) دل على حرمة طرده من المنزل؛ لعموم العلة، وهي الظلم، فإنه وفي كل هذه الموارد هناك امتناع عن التخصيص وإباء عنه، لخصوصية في المادة.

وعليه: فإنّ خصوصية مادة الإضلال عن سبيل الله قرينة تورث القطع بأنّ هذه علة وليست حكمة، بل إنّ ذلك ـ أي حرمة الإضلال عن سبيل الله ـ يُعَدُّ من ضروريات الدين، وليس من ضروريات المذهب فقط، فإنه من أقبح المستنكرات، وهو محرم قطعاً، ومن كل ذلك يتبين أنّ التعليل تام والتعميم صحيح.

فائدة إضافية: وهنا فائدة مهمة تعطي الإطار العام لكل ما ذكرناه، وهي: كلما كان التعليل في لسان الشارع بالمستقلات العقلية ـ مثل لأنه ظلم أو غيرها ـ أو كان بالضرويات المذهبية أو الإسلامية، فإنّ العلة عندئذ تكون معممة ومخصصة في حدود ما استقل به العقل، وفي حدود الضرورة.

والنتيجة هي: الظاهر أنّ التعليل تام على كلا المسلكين.

الثمرة المترتبة على تمامية التعليل():

ويترتب على التمسك بعلّية (ليضل عن سبيل الله بغير علم) التوسعة في التحريم من جهة، والتضييق من جهة أخرى، أما التضييق: فإنّ الآية بناءً عليه لا تشمل المعنى الأول للضلال، والذي ذكره الشيخ وهو (الباطل)، فإنّ ظاهر الآية هو الطريقية لا الموضوعية، وعليه: فإنّ الباطل في حد ذاته، ككتاب السحر أو كتب الشيوعية مثلاً، لو احتفظ بها الشخص في مكتبة الدار مثلاً من غير أن تؤدي إلى الإضلال قطعاً أو ظناً متاخماً للعلم، فإنه ليس بمحرم، فيكون التحريم في الآية خاصاً بما أوجب الإضلال عن سبيل الله تعالى.

أما التوسعة: فلأنّ الآية تدل حينئذٍ على شمول الحرمة لكل ما يؤدي إلى الإضلال، فيشمل الجرائد والمجلات والفضائيات، وكذلك يشمل ـ حسب مثال المحقق اليزدي() ـ المقبرة والمدرسة إن كانت للإضلال.

وأيضاً، فإنه بحسب عموم التعليل في هذه الآية الشريفة فإنّ (الإيجاد) أيضاً ولو آناً مّا لو كان سبباً للإضلال، فإنه حرام.

والمتحصل: أن الآية تعمم دائرة التحريم لكل ما كان طريقاً للإضلال، إلا أنها لا تشمل المعنى الأول، أي: الباطل في حد ذاته().

وبإيجاز نقول: إنّ حال هذه الآية ـ كما ذكرنا ـ هو كحال آية النبأ، فإنّ هذه الأخيرة وببركة التعليل تعمم وتخصص؛ لأنه ومن خلال مناسبات الحكم والموضوع، وخصوصية مادة الجهالة الآبية عن التخصيص يحصل التعميم؛ فإنّ إصابة القوم بجهالة قبيح ومحرم مطلقاً، ومما يأبى التخصيص.

ولو شكك في التعميم في آية النبأ ـ ولا مجال له() ظاهراً ـ فإنه لا مجال لهذا التشكيك قطعاً في موردنا، أي: (ليضل عن سبيل الله).

الوجه الثالث للتعميم: بعد أن بينّا الوجه الأول للتعميم وهو الفحوى، وقد رفضناه، وبعد أن بينّا الوجه الثاني وهو عموم التعليل، وقد قبلناه، نطلق عنان الكلام إلى الوجه الثالث لذلك()، وهو: ما ذكره مجموعة من الأعلام، كلٌّ بوجهٍ() مختص به، وهو أن يدعى أنّ (يشتري) الواردة في الآية الشريفة هي كناية عن الأعم من خصوص الاشتراء، بحيث تشمل (الحفظ) كما سيجيء.

الاحتمالات في كلمة (يشتري):

توجد في المراد بكلمة (يشتري) عدة احتمالات:

الاحتمال الأول: هو الجمود على ظاهرها، كما هو ظاهر السيد اليزدي()، وأما التعميم ف